قراءة في الدستور الايراني (4): بين عقائدية القوات المسلحة ونصرة المستضعفين

يقول الخميني "كل ما نفتقده هو عصا موسى وسيف عليّ بن أبي طالب، وعزيمتهما الجبّارة. وإذا عزمنا على إقامة حكم إسلامي، سنحصل على عصا موسى وسيف عليّ بن أبي طالب أيضاً " (7).

الطبيعةُ العقائدية للقوات المسلّحة في الدستور

كانت إيران في النصف الثاني من القرن العشرين، تصنّف على أنها سادس قوة عسكرية على مستوى العالم، بفضل دعم الولايات المتحدة التي كانت ترغب في تحجيم النفوذ الروسي في منطقة الشرق الأوسط، وكان الجيش الإيراني (شرطي الخليج) مرتبطاً أو مُلحقاً بالجيش الأميركي (المعسكر الغربي) على مستوى التدريب والتسليح والارتباط الفكري. بعد نجاح الثورة، كان قادة الثورة يشكّكون في ولاء الجيش النظامي لمفاهيم ومبادئ الثورة، ويخشون من حدوث الإنقلابات العسكرية، لذلك قاموا بتصفية عددٍ كبير من القيادات العسكرية، وعملوا على تغيير طبيعة تكوين الجيش من الناحية العقائدية، من خلال غرس قيم النظام الجديد في نفوس وعقول عناصره وقياداته، وكذلك قاموا بخلق جهازٍ عسكري موازٍ للجيش ومنافسٍ له، ويدين بالولاء الكامل والطاعة المطلقة لأيديولوجيا الثورة وشعاراتها وتوجيهات قادتها، هو “الحرس الثوري” الذي انبثق من “اللجان الثورية” التي قامت منذ الأيام الاولى للثورة – بتشجيعٍ من الخميني – بجمع السلاح من ثكنات الجيش والشرطة، لإستخدامها فيخدمة أهداف الثورة في مراحل تالية.

اقرأ أيضاً: قراءة في الدستور الإيراني (1): تكريسُ السلطة المطلقة للوليّ الفقيه

وكان من أبرز مهام قوات الحرس الثوري والباسيج (قوات التعبئة الشعبية) التي تتبع مجلس قيادة الثورة: حفظ الأمن الداخلي، وتثبيت الثورة ضد أعدائها الداخليين، وحماية منجزاتها عبر التعبئة الفكرية وتجنيد مختلف شرائح المجتمع الايراني لدعمها، والتخلص من معارضي النظام، وحماية النقاء الأيديولوجي للثورة، والدفاع عن خطّ الإمام في داخل إيران وخارجها، والدفاع عن المستضعفين والبائسين في الأرض، عبر تصدير مفاهيم الثورة الى دول أخرى .

وقد نصّت المادة (١٥٠) من الدستور الإيراني على أنْ “تبقى قوات حرس الثورة الاسلامية التي تأسست في الأيام الأولى لإنتصار هذه الثورة، راسخةً ثابتةً من أجل أداء دورها في حراسة الثورة ومكاسبها”. من جهة أخرى، فقد قام الدستور الإيراني في مقدمته، بتحديد الطبيعة العقائدية لتكوين الجيش الإيراني ومهام الحرس الثوري، معتبراً انه “في مجال بناء وتجهيز القوات المسلّحة للبلاد، يتركّز الاهتمام على جعل الإيمان والعقيدة أساساً لذلك … ولا تلتزم القوات المسلّحة بمسؤولية الحماية وحراسة الحدود فحسب، بل تحمل ايضاً أعباء رسالتها الإلهية، وهي الجهاد في سبيل الله، والجهاد من أجل بسط حاكمية القانون الإلهي في العالم “وأعدَوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل، ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم”.

وينصّ الدستور في المادة (١٤٤) على أنه “يجب ان يكون جيش جمهورية إيران الاسلامية، جيشاً إسلامياً، من خلال كونه جيشاً عقائدياً وشعبياً، وأن يضم أفراداً لائقين مؤمنين بأهداف الثورة الاسلامية، ومضحّين بأنفسهم من أجل تحقيقها”.

اقرأ أيضاً: قراءة في الدستور الإيراني (2): مؤسساتٌ دستورية تحت سلطة الوليّ الفقيه

وتُعتبر المؤسسات الثورية مثل الحرس الثوري والباسيج وأنصار حزب الله، أعمدة النظام وذراعه “القمعية” لتنفيذ المهام التي تتطلب درجةً عالية من الإلتزام الأيديولوجي، في داخل إيران وخارجها. وقد تورّط الحرس الثوري الذراع العسكرية للمرشد الأعلى، وأداته في تنفيذ السياسة الخارجية المرتبطة بالأمن القومي للجمهورية – وخاصةً فيلق القدس الذي يرأسه الجنرال قاسم سليماني، وبذريعة مناصرة المستضعفين أو تحطيم عروش الطواغيت أو تحريرالآراضي المحتلة من اسرائيل – في عدة معارك دموية خارج الحدود الإيرانية، في العراق ولبنان وسوريا واليمن والبوسنة والهرسك… وقد إنتقل حقّ التجنيد الإلزاميً – بموافقةٍ من الخميني – من الجيش النظامي الى الحرس الثوري الذي يمتلك قواتٍ بحرية وبرية وجوّية خاصةً به، وترسانةً عسكرية مؤلّفة من الصواريخ والدبابات والطائرات المقاتلة والغواصات؛ وميزانيةً ماليةً ضخمة، وعدداً من المؤسسات الإقتصادية والإجتماعية التي وسّعت قاعدة المستفيدين منه والمتعاونين معه . وقد قامت الولايات المتحدة الامريكية بتصنيفه كمنظمةٍ إرهابية. والقائد الحالي للحرس الثوري هو الفريق “محمد جعفري ” الذي خلف الفريق “يحي رحيم صفوي”.

والحقيقة إنّ بقاء وإستمرار الحرس الثوري الذي يضمّ أبناء الثورة الأوفياء، ولاسيما على مستوى القيادة؛ والذي كان من أبرز أهداف إنشائه، تثبيت الثورة ضد أعدائها في داخل إيران، يطرحان أكثر من علامة استفهام حول ما إذا كان دوره الحقيقي هو ضمان إستمرار دور متمايز للفقهاء وآيات الله في السلطة؛ وكذلك حول حقيقة عبور إيران، بعد مرور ٣٦ سنة على نجاح الثورة، من مرحلة الثورة الإنتقالية والمؤقتّة، الى مرحلة الدولة الثابتة والمستقرّة التي يُفترض أن القائمين عليها، قد أنجزوا كل الأهداف التي وضعوها قبيل وبعد إندلاع الثورة؛ ما يفترض أنّ الثورة لم تعُد بحاجة لا الى حراسة ولا الى حرّاس. ذلك أنّ الأصل في المجتمع هو الإستقرار، وليس الثورة التي هي حالة سريعة وعنيفة وإنتقالٌ راديكالي من وضعٍ يفتقر الى الشرعية الشعبية، الى وضعٍ آخر ينال موافقة ورضى وقبول القاعدة الشعبية. ولا يمكن ان نتصور مجتمعاً ما، يعيش في حالة دائمة من الثورة.
في إيران الدولة والثورة وجهان لعملة واحدة!

ايران
نُصرة المستضعفين في الدستور الإيراني

لقد ظلّت إيران على مستوى الخطاب السياسي، تعلن عن نفسها بإعتبارها حامية المستضعفين ضد قوى الإستكبار العالمي (الولايات المتحدة واسرائيل وسياساتهما فيالمنطقة). وقد كان من أبرز مبادئ الثورة الاسلامية، على مستوى السياسة الخارجية، نُصرة الشعوب المستضعفة والمغلوب على أمرها، وكانت النتيجة المنطقية والعملية لهذا المبدأ، ما عُرف بمبدأ “تصدير الثورة”. فقد كان لدى الإمام الخميني، إحساس غريب بأنه السلطان الأوحد، والزعيم الأول، وروح الله، والسيد المصلح، والمفوّض من الإمام الغائب، والمنقذ الذي يملك صفات المعصوم، والوليّ المعيّن من الله لتجديد الاسلام وإحياء الشريعة ومناصرة المستضعفين في العالم، والذي يجب أن يخضع لحاكميته مسلمو العالم. ولذلك فقد شعر بواجبه المتخيّل في قيادة الشعوب الاسلامية في الشرق والغرب، على إعتبار أن ثورته في إيران، لم تكن محلية، بل هي تتخطى الحدود الإيرانية، بحيث يجب أن تصل الى كل بقاع الأرض. وطالما أن دولة الإمام المعصوم عالمية واحدةً لا تعدّد فيها، فكذلك يجب ان تكون دولة نائبه، ومن هنا ضرورة أن تتحدّ الأمة الاسلامية كلها، تحت مظلّة الجمهورية الإيرانية، وبقيادة المرشد الأعلى لثورتها. وإذا عرفنا أنّ الخميني كاد أن يدّعي “العصمة” صراحةً، إضافةً الى كل تلك الصفات المتوّهمة والمنتحلة، وجب علينا أن نفهم أنه رفع مرتبته بالفعل، فوق مرتبة الأنبياء.

وإنطلاقاً من الآية القرانية “إن هذه أمتكم أمةٌ واحدة وأنا ربكم فاعبدون”، فقد اعتبر الدستور الإيراني، أن المسلمين أمةٌ واحدة، وأن على الحكومة الاسلامية أن تقيم كل سياستها العامة على أساس تضامن الشعوب الاسلامية، وأن تواصل سعيها من أجل تحقيق الوحدة السياسية والاقتصادية والثقافية في العالم الاسلامي (المادة ١١).
وقد ورد في مقدمة الدستور: “لقد أتمّ مجلس الخبراء المؤلّف من ممثلَي الشعب، تدوين هذا الدستور… في مستهلّ القرن الخامس عشر لهجرة الرسول الأكرم.. على أمل أن يكون هذا القرن قرن تحقّق الحكومة العالمية للمستضعفين، وهزيمة المستكبرين كافةً”. ويشير المشرّع الى أن الغرض من إقامة الحكومة الاسلامية، هو إعداد الظروف اللازمة كي “تتحقق حكومة المستضعفين في الأرض “ونريد أن نمنّ على الذين استُضعفوا في الارض ونجعلهم أئمةً ونجعلهم الوارثين”.
أما المادة الثالثة فتنصّ على أن تنظيم السياسة الخارجية للبلاد، يقوم على أساس المعايير الاسلامية والالتزامات الأخوية تجاه جميع المسلمين، والحماية الكاملة لمستضعفيّ الأرض. وتشير المادة (١٥٤) الى أن جمهورية إيران الاسلامية تعتبر “سعادة الإنسان في المجتمع البشري كله، قضيةً مقدَسة لها، وتعتبر الاستقلال والحرية وإقامة حكومة الحق والعدل، حقَاً لجميع الناس في أرجاء العالم كافةً، وعليه فإنَ جمهورية إيران الاسلامية تقوم بدعم النضال المشروع للمستضعفين ضد المستكبرين في أيَ نقطةٍ من العالم، وفي الوقت نفسه، لا تتدخَل في الشؤون الداخلية للشعوب الأخرى”.

اقرأ أيضاً: قراءة في الدستور الايراني(3): مؤسساتُ في خدمة الأيديولوجيا

الحقيقة أن الواقع السياسي المأزوم في العالم العربي، يشهد أولاً؛ بأن إيران الثورة الخمينية التي تمتلك ثرواتٍ نفطية وغازية هائلة، لم تعجز فقط عن تحقيق السعادة والعدل والرفاهية والمساواة لشعبها، وعن المساهمة في بناء وتمتين وحدة الأمة الاسلامية، بل هي على العكس، قد اصبحت بفضل أطماعها، أداةً أساسية من أدوات هدم وتحطيم وتفتيت هذه الأمة؛ ويكشف ثانياً: بأن مبدأ “نصرة المستضعفين” كان مجرد ذريعة لتدخلها العسكري والعقائدي السافر في شؤون العديد من الدول المجاورة لها، التي باتت مقتنعةً ان النظام الإيراني هو نظام توسّعي.

السابق
جريمة جديدة تهز رأس المتن
التالي
عروبة فلسطين ويهوديتها…