المشنوق للمسيحيين: لا تبالغوا في المظلومية

ألقى وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق كلمة خلال إطلاق "وثيقة لقاء الربوة" دعا فيها المسيحيين إلى عدم المبالغة في التعبير عن المظلومية وإليكم نصّ الكلمة كاملاً:

قرأت بتمعّنٍ وثيقةَ البيان الختامي للقاء الرّبوة الذي انعقد في العام 2014 تحت عنوان “العائلة وتحدّيات العصر في الشرق الأوسط”.

بصراحةٍ وجدت في الوثيقة سموّاً فكريّاً يبحث عن حلٍّ لأزمات وجوديّة مدمّرة لبنيان الدول ويعرّض تماسك البنية العائلية وسلامتها على غير مستوى.

الوثيقة باختصار شخّصت المشكلة ودعت الذي تسبّب بها الى إيجاد سبل حلّها. وأخذت الوثيقة سبل “الدعوة الحسنة” لكل القوى الدولية التي شاركت وتشارك في دمار أسس الدول المرتبط جذريّاً بتماسك العائلة، وينتظر أهل

الوثيقة “ونحن معهم طبعاً” تجاوباً لم يحصل من هذه القوى وقد لا يحصل في المدى المنظور.

أنا لا أقول هذا الكلام من باب تناول ما قام به الرؤساء الروحيون الأجلاء ، بل هو جهدٌ وواجبٌ ممدوح ومشكور ومقدّر.

لكن بصراحة، أكثر حقائق الشعوب ومصائب العائلة في منطقتنا أقسى بكثير من “الكفوف” المسؤولة التي صاغت نصّ الوثيقة.

بعد سنوات من الدمار المتنوّع، صار من حقّ الرؤساء الروحيين الأجلّاء ومن حقّنا عليهم أن يدخلوا إلى أعمق الحقائق في السياسات الدولية ويحمّلونها المسؤولية علناً ومباشرةً ودون أيّ تردّد.

وإلّا فما معنى النصّ الوارد في الوثيقة القائل أنّ “الإستباحة صارت قاعدة حياة”؟

أنتقل هنا إلى بعض الأرقام:

خلال العامين 2014 و2015 بلغ عدد المهجّرين من سوريا إلى تركيا ولبنان والأردن على الخصوص،ما يزيد على الأربعة ملايين معظمهم عائلات. وهجرة هؤلاء مستمرة منذ أربع سنوات.

أما الهجرة العراقية للأسَر إلى إقليم كردستان ثم إلى العالم الأوسع، فتبلغ ثلاثة ملايين وثلاثمائة ألف، وقد جرى معظمها خلال عام ونصف العام.

بين هذه الملايين الثمان فقط 3 ملايين امرأة، ومليونا طفل ونصف من الأطفال هؤلاء بلغوا سنَّ الدراسة ولا يذهبون إلى المدارس. بل إنّ المنظمات الدولية المعنية تقول إنّ ثلثهم، أي حوالي النصف المليون، وهذا فقط في لبنان وتركيا والأردن- لا يتلقّون غذاءً كافياً أو ملائماً. وسأبقى في هذه البلدان الثلاثة بالنسبة للهجرة السورية. وفي إقليم كردستان بالنسبة للهجرة العراقية لأضيف مأساة رابعة أو خامسة. في لبنان وحده هناك حوالي ثمانين ألف طفل ولدوا في السنوات الثلاث الماضية. ونصف هؤلاء ولدوا لعائلات جديدة، أي أنّ الزواج الذي أنجب طفلاً أو أكثر تمّ في لبنان، في مخيمات اللجوء. وفي الأردن هناك عدد مماثل تقريباً من الأطفال

الجدد، ويبلغ عدد الأطفال الجدد الضعف في تركيا، وحوالي الخمسين ألفاً في أقليم كردستان.

وإذا أضفنا لذلك أعداد العائلات المهجّرة داخل سورية أو العراق أو ليبيا أو اليمن، فإنّ المأساة تصبح عصية على التصور. لقد صارت بسبب حجمها الهائل مأساة عالمية. ذلك أن عدد المهجرين على مستوى العالم يبلغون بحسب تقديرات الأمم المتحدة ما ينيف على الستين مليوناً، بينهم ما يقارب النصف من اللاجئين والمهجرين العرب. وتقول مفوضيات الأمم المتحدة أن الاقتلاع العربي هو أفظع الأشكال، لأنه تمّ خلال أقلّ من خمس سنوات، بينما تراكمت أمواج الهجرة واللجوء الإفريقية والأسيوية خلال عدة عقود.

السيدات والسادة،

نعم هناك تحديات عصرية للعائلة عبر العالم، لكن التحديات التي تواجهها مجتعاتُنا هي ” نوعية خاصة وخاصة جداً”. ذلك أن العائلة، بحسب الوثيقة، تعيش ظروفا وجودية بالغة الصعوبة.

وهناك اقتلاع لعائلات تبلغ أعدادُها الملايين في أقل من خمس سنوات. وهناك شقاءٌ إنسانيٌ مهولٌ هو الأشد وقعاً على النساء والأطفالفي العالم كله. وهناك ما هو أفظع من هذا وذاك، رغم أنه لا شيء أفظع، وهو اقتران هذا التهجير والاقتلاع بانهيار الدول وتفكك المجتمعات. وهناك فظيعة أنّ الاقتلاع أو الحصار والتجويع أو القتل والاضطهاد. كلّ هذه الظواهر أو بعضها صارت تتم لأسباب طائفية أو مذهبية أو إثنية.

صحيح أننا نعمل وأنتم تعملون والمنظمات الدولية، مع الحكومات ومن خارجها لتحسين الشرط الانساني لبقاء البشر وكياناتهم الأولية الحاضنة المتمثّلة في العائلة. لكن لا بد منوقفة مراجعة. إذ لا أحد منا يستطيع القول الآن أن شروط الحدّ الأدنى توافرت أو يمكن أن تتوافر. ولذا أرى أنه ومع استمرار المساعي وضرورتها في الجوانب الانسانية، ينبغي أن لا ننسى ثلاثة أمور، أولهاأن ملايين الأسر فقدت المسكن والرعاية أو فقدت معها الوطن والدولة. وثانيها أنه ليس هناك عمل جاد لا على المستوى الاقليمي

ولا على المستوى الدولي لاستعادة التسوية السياسية والانسانية فيالضرورتين للعودة والاستقرار، أو تطول المشكلات وتتفاقم وتفجّر العالم كما فجرت الشرق الأوسط. وثالثها أن تفاقم هذا الملف يهدد بتفاقم الأمراض التي تشكو منها الوثيقة التي نحن بصدد التعليق عليها. إن العلاج الأنجع هو في استعادة الأوطان والدول، وإقامة الدول المدنية ومجتمعات الحكم الصالح. المجتمعات قائمة أو كانت كذلك. لكن ضعف الكيانات وفساد الأنظمة، صنع أو أدى إلى هذهالظواهر التي نشكو منها الآن.

النقطة الثانية التي أودّ التحدّث في الوثيقة هي التطرّف والعنف بإسم الدين.

يقول العلماء أنّ أحد أهمّ أسباب هذا التطرّف هو حدوث إنشقاقات في الدين الإسلامي تحاول تفجيره. وأنّإخمادَها يحتاج إلى تعاون استراتيجي بين المؤسسات الدينية في المشرق العربي، الإسلاميّة والمسيحية ومع فئات المجتمع المدني.

بصراحة مرّة أخرى لم يتحقّق أي تقدّم جدّي في هذا المجال.

لقد صدرت وثائق عن الأزهر الشريف وهي جدّيّة.

كذلك ما صدر في لبنان عن الحريّات الدينيّة والإعلام الديني.

وقبل أيام صدرت وثيقة مراكش المعنيّة بموضوع الأقلّيات الدينيّة في مجتمعاتنا وحقوقها وحرّياتها من منظور إسلامي.

وقبل أسابيع، قلت في محاضرة ألقيتها في أبو ظبي أنه لا بدّ من إخراج الإسلام والمسلمين من أوهام الدولة الدينية، إلى هويةٍ جامعةٍ ليس لها عنوان إلّا العروبة في وجه الولاية التقسيميّة للمجتمعات والخلافة التكفيرية للدين المتسامح والمسالم.

لكن هذا لايكفي، الإعتدال الديني يحتاج الى “أظافر” في الإعلام وفي السياسة، وفي المجتمع تنبذ الإحباط وتعالج أسبابه وتدعو إلى مقاومة التكفير الديني المسلّح بالدم والنار والمال أيضاَ، وإلّا نكون كمن يردّ بالفكرة المخملية على المدفع الناري والفكري معاً.

إقرأ أيضاً: المشنوق عرسال محتلة ولا تتحرر بعمل عسكري

هنا، لا بدّ أيضاً من الإعتراف أنّنا لا نستطيع وحدنا المقاومة مهما حاولنا. وقد فعلنا ذلك دائماً.

ما نحتاجه هو الاستمرار في الضغط المستمر على المجتمع الدولي لعدم التدخّل بالشكل الذي فعله في العراق عام 2003 ، أو على الأقل عدم التدخّل بشكل مسيء وغير أنساني في مشاكل المنطقة.

على سبيل المثال، كيف يمكن لدولة إقليمية أن تستفيد من التخريب والتهجير في سوريا؟إلى الآن معظم المليون ونصف المليون سوري الذين لجأوا إلى لبنان هم من السنّة، وبذلك صار عدد السنّة المقيمين على الأراضي اللبنانية قرابة ثلثي المقيمين؟

وكيف يستفيد أي أحد من التهجير والتمييز بالعراق، إذا كانت النتيجة قيام ثلاث دويلات في تلك البلاد، ستظل تتقاتل حتى الفناء أو الإفناء؟

لا خيار لنا إلا المزيد من طَرقِ أبواب المجتمع الدولي إلى حدّ الإزعاج، لحثّهِ على العمل على استقرار المجتمعات والدول بديلاً عن ازدياد التطرّف والعنف والتردّي في قدرتنا على العيش معاً كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات.

السيدات والسادة

في النقطة الثالثة، أعود إلى لبنان “الوطن الرسالة” على حدّ الوصف البابوي. ففي الموضوع الداخلي لا بد من مصارحة تتجاوز العناوين المعلنة التي تحكم الاصطفافات السياسية والمواقف والتحالفات والتقلبات وكل ما تشهدونه. ما يعبّر عنه الشريك المسيحي في لبنان، أياً تكن طريقة التعبير وأياً يكن الغلاف الموضوع على وجه الكلمات والمواقف والمعارك السياسية، إنما يطال في الحقيقة مسألة الشراكة بين اللبنانيين.منذ سنوات طويلةعلّمني أحد حكماء لبنان وهو الرئيس الراحل تقيّ الدين الصلح، أنّ استقلال لبنان هو مسؤولية المسيحيين وديمقراطيته مسؤولية المسلمين.

سألته حينذاك كيف قسّم المسؤوليات الوطنية، فأجاب: نحن المسلمون كلّما سمعنا بوحدة عربية، نلهث وراءها دون تردّد أو تفكير، فينتفض المسيحيون علينا لنعودَ إلى صوابنا اللبناني الذي يحفظ الصيغة والكيان.

سألته حينذاك عن الديمقراطية فقال إنّ التنوّع الديني أوجدها، وإلّا لو كان اللبنانيون من دين واحد، أياًّ كان، لشَمَلَه نموذج الديكتاتوريات العربية.

الحمد لله إنتشرت وطنيّة السيادة والاستقلال خارج المؤسسين المسيحيين بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في العام 2005 . لكن بالمقابل، وقعت جهات مسيحية وإسلامية رئيسية في فخّ الانتصار لتحالفاتٍ إقليمية ظنّاً منها أنّها تستطيع عبر هذه التحالفات تعديل نظام السلطة في الداخل وهو الفخ نفسه الذي وقع فيه المسلمون سابقاً، بالانتصار للسلاح الفلسطيني.

سبق لي في كلمة ألقيتها في ذكرى عميد الوطنية اللبنانية الراحل ريمون إدّه أن قلت إنني أنتمي إلى جيلٍ أخطأ بحقّ لبنان.كان الإعتراضُ على الشراكة في حينها بوّابتنا إلى الخطيئة. يومها بالغ المسلمون في حدّة التعبير عن اعتراضهم على مطالب الشراكة وفقَ قواعد الجمهورية الأولى. وبالغ المسيحيون في إهمال مطالب المسلمين. وكان أن ركب بعضُنا موجة الثورة الفلسطينية، بعضٌ عن قناعةٍ ووجدانٍ عروبي وأكثر بكثير من باب استغلال الذراع الفلسطينية لِلَيّ ذراع المارونية السياسية. وذهبت البلاد إلى الحريق الكبير الذي لا زلنا نختنق بدخانه ونتلوّى على جمرِهِ.

كأنّنا اليوم أمام نسخة معكوسة من اشتباك الشراكة نفسه، وكلّي رجاء أن لا يبالغ المسيحيون في التعبير عن المظلومية، بما يجعل من موظّف في وزارة عنواناً للوجود المسيحي في بلد أو في المنطقة، كما أرجو ألا يبالغَ المسلمون في القفز فوق موجبات الحدّ الطبيعي الذي يُشعِر المسيحيين بشراكةٍ عادلة.

إقرأ أيضاً: المشنوق: إقرار تمويل الانتخابات البلدية والاختيارية

هذا اعتراف بطبيعة المشكلة الآن، من موقع الشريك المسؤول والمحبّ عن سلامة الشراكة. ومن هذا الموقع أسأل، من باب الحرص وليس التهرّب، والمسؤولية الصادقة وليس التعمية والتهويل، هل الآن توقيت صائب لمعركة الأحلام الصغيرة ونحن نكاد نُضَيًّعٌ الدولة والكيان والوطن؟

أين تُصرَف الحقوق الصغيرة وقواعد الشراكة إذا ما تحلّلت المؤسسات وتهاوت بقايا السيادة واندثرت أسس الدولة وطار الكيان؟

ألم يكن لدى المسيحيين ترسانةً من الصلاحيات والمواقع حتّى عام 1975؟

كيف حَمَت هذة التّرسانة الموقع المسيحي في النظام السياسي اللبناني حين انهار كل شيء لا سيّما السيادة الوطنية اللبنانية نتيجة تهاون إسلامي مسيحي بها وتقديم كل شيء عليها؟

ما صحّ يومها يصحّ اليوم، إن أعدنا التجارب نفسها والعلاجات إيّاها.

ألم يقل غبطة البطريرك لحّام أنّ “على المسيحيين أن يكتشفوا دورهم بدل أن يخافوا على مستقبلهم وحقوقهم وواجباتهم وامتيازاتهم”.

أشكركم على الدعوة، وأشكركم قبل ذلك وبعده على المبادرة.

عائلاتنا في خطر، ودولنا في أخطار. ولا مخرج ولا أفق إلا بالمبادرة التي تحتاج إلى الشجاعة الأخلاقية، والشجاعة الدينية والفقهية، والشجاعة السياسية. وهذا كله لكي تكون لنا حياة، وتكون حياة أفضل، بحسب ما قاله القديس بولس. كنا معاً قبل الأزمة وسنظل معاً بعدها. فالشجاعة، الشجاعة، الشجاعة. إذا خفنا هلكنا، وإذا تردّدنا، استمرت الحروب واستمر التمييز والتهجير والخراب. فلنسر معاً باتجاه الكلمة السواء، كلمة الحياة الحرة والانسانية، الكلمة الأفضل للحياة الأفضل للإنسان والأوطان.

السابق
عرسال وحزب الله (2/4): أوّل التهجير… بلدة الطفيل
التالي
الكهرباء تلسع جيوب الغزيين