في أسئلة الهويّة واللجوء

اللاجئين إلى أوروبا

مع تدفّق ملايين اللاجئين إلى أوروبا من بلدان عربية وإسلامية في السنوات الأخيرة، بدأت تتصاعد المخاوف الأوروبية من تأثيرات تلك الهجرة في أمن المجتمعات المضيفة وثقافتها وهويتها. ولئن كان من الصحيح القول إن هناك مبالغة في تقدير حجم تلك التأثيرات في تلك المجتمعات، كون معظمها يصدر عن أحزاب اليمين المتطرف المعادي للهجرة أصلاً، فإن هذا الصحيح لا يلغي حقيقة وجود مخاوف حقيقية باتت تؤرق معظم السياسيين على اختلاف توجهاتهم ومشاربهم، كما باتت تقلق أبناء المجتمعات المضيفة نفسها، التي باتت تنظر بحذر وريبة إلى هذا السيل المتدفّق باعتباره تهديداً لأمنها وهويتها وقيمها.

اقرأ أيضاً: من هي «كاسندرا» التي فضحت شبكة حزب الله لتجارة المخدرات وتمويل الحروب؟

ويمكننا ملاحظة أن ما يغذي الحذر والقلق من موجات النزوح ومن الخوف من تأثيراتها، يأتي بالتزامن مع تصاعد موجات العمليات الإرهابية التي استهدفت تجمّعات مدنية خالصة، كما حدث في فرنسا التي نالت حصة الأسد منها، وأن من قاموا بتلك العمليات، أو حتى أولئك الذين أحبطت محاولاتهم، هم أبناء مهاجرين بالأساس، معظمهم ولد ونشأ في البلدان الأوروبية ويحمل جنسيّتها.

هنالك بلا شك، أسئلة كثيرة في هذا الخصوص، وفي مقدّمها تلك المتعلقة بقدرة الحكومات الأوروبية ليس فقط على استيعاب تلك الأعداد فحسب، بل أيضاً بقدرة برامجها المتّبعة على دمج هؤلاء اللاجئين. فبرامج الاندماج التي اتبعتها تلك الدول في الماضي، لا تشير إلى أية نجاحات تذكر في هذا الخصوص، إذ بقي معظم المهاجرين يعيشون على هامش تلك المجتمعات وداخل غيتوات وفي مجتمعات موازية يغلب عليها طابع الانغلاق والتشدّد الديني والاجتماعي والعنف والبطالة.

فألمانيا التي استقبلت ما يزيد عن مليون لاجئ في العام الفائت، أي العدد الأكبر من اللاجئين القادمين من الشرق الأوسط، والتي تعتبر الأقوى بين دول الاتحاد الأوروبي، ستكون في مواجهة عملية مع هذا التحدي. وإذا كانت ألمانيا نجحت، إلى حد كبير، في إعادة تأهيل مجتمعها الشرقي، وأبرزت قدرة فائقة على دمجه بنظامها، فما ساعدها في ذلك ليس فقط قوة اقتصادها، ولا حتى برامجها المتقدمة في هذا الخصوص، بل أيضا عدم وجود عوائق «هوياتية» تمنع هذا الاندماج.

فرنسا انفجار

مع هذا كله، يمكننا ملاحظة أنه لا يزال كثر من الألمان الشرقيين، يشكون حتى الآن مما يعتبرونه إجحافاً وتمييزاً بحقهم وحق مناطقهم من جانب الحكومة المركزية في برلين، فكيف سيكون الأمر على صعيد اللاجئين الجدد القادمين من ثقافات وبيئات وهويات مختلفة؟

السؤال الثاني الذي لا يقل أهمية عن الأول، هو ما يتعلق باللاجئين أنفسهم، ومدى قدرتهم على الاندماج، من دون فقدانهم ما يعتبرونه جزءاً أساسياً من هويتهم الأصلية. فما يحمله معظم المهاجرين الجدد من قيم ثقافية واجتماعية ودينية، يشكّل في حد ذاته أساساً لصراع الهويات، وهو في كل الأحوال يشكل اختلافاً جوهرياً مع المحمولات والقيم الثقافية والاجتماعية للمجتمع المضيف، بل هو أعمق من مجرد اختلاف لأنه يتناول منظومتين تقفان من بعضهما موقف التضاد والتناقض الذي يحمل بذور الصراع وعدم التلاقي، فالمنظومة الأوروبية مثلاً تعتبر المواطنة هوية أساسية والدين هوية صغرى، لكن الآخر يعتبر الدين هوية أساسية تعلو على الانتماء الى المواطنة.

الاختلاف الثقافي هنا ليس عابراً بالتأكيد، إنه اختلاف جذري بين ثقافتين، ثقافة أبوية هرمية واستبدادية، يذوب فيها الفرد لمصلحة الجماعة وتتوارى فيها المرأة لمصلحة الرجل، وتعتبر المقدس أولى أولوياتها، وثقافة نقيض عمادها الأساس الحريات الفردية والاجتماعية والسياسية، وهي عابرة للأديان والطوائف وكل الهويات الأخرى.

أسئلة كثيرة وملحّة لا بد أن تطرح نفسها لتمتحن قدرة الطرفين على حل المشاكل والتحديات التي سيواجهانها، سواء الآن أو في المستقبل. فإذا كانت المجتمعات الأوروبية لم تتمكن على رغم مرور ما يقارب المئة عام، من دمج القسم الأعظم من المهاجرين في مجتمعها وفي ثقافتها الوطنية، وبقي الجزء الأكبر من هؤلاء في حال من التقوقع والانغلاق على هويات بلادهم الأصلية، فكيف في مقدورها في هذه الأجواء العالمية التي يغلب عليها طابع الصراع الديني، أن تفعل؟

(الحياة)

السابق
خيرالله: الشائعات ضدّ الرئيس سليمان تزامنت مع إطلاق سراح سماحة…
التالي
مليار شخص يستخدم «واتس آب» فهل سيفرض رسوم؟