أهم ما في «الحراك» أنّه عابر للطوائف (1/3)

كريم مروة
في حوار أجراه علي الأمين، محمد عقل، وأحمد ياسين مع المفكر اليساري كريم مروّة تحدّث فيه عن تاريخ الحراك الشعبي النضالي الذي بدأ في ستينيات القرن الماضي، واستمر حاملاً مطالب تتخطى اليومي إلى بناء الدولة وترميم نظامها. وقد نشر الحوار في مجلة «شؤون جنوبية» في عددها الأخير رقم 157، وسننشره في ثلاث حلقات.

كونكم قيادة سياسية مخضرمة، لعبت دوراً أساسياً، في الوضع العام والشأن العام، في لبنان، فحبّذا لو تعطونا صورة، أولاً عن الحراك المطلبي في لبنان، ذلك أن الحراك الحالي هو ابن شرعي، لحراك مطلبيّ سابق – وقبل أن نتحدث عن الحراك الحالي – هل يمكننا القول، إن الحراك المطلبي القديم أو السابق في لبنان، وأنتم على تماس معه حقق إنجازات، في نظركم؟ إذا كان فعل ذلك، فما هي هذه الإنجازات، وإذا فشل، فلماذا فشل؟

اقرأ أيضاً: يا أهل الحراك صارحونا

مروة: في سؤالك يا صديقي دعوة لاستحضار تاريخ قديم ولتجاربنا ولنضالاتنا في هذا التاريخ. ولا أظن أن هذا الحوار والهدفكريم مروة المبتغى منه سيقودنا بالضرورة إلى تفاصيل ذلك التاريخ. لكنني أستطيع مع ذلك، جواباً عن سؤالك، أن أقول باختصار أن ذلك التاريخ حافل بالنضالات على الجبهتين السياسية والاجتماعية، وحافل بالبطولات فيها وبالانجازات. وهي نضالات وبطولات وإنجازات نعتز بها جميعنا نحن اللبنانيين من كل الجهات والاتجاهات. وأستذكر، وأنا أستحضر ذلك التاريخ، القوى السياسية التي قادت تلك النضالات من كل الاتجاهات من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، إذا صحّت هذه التوصيفات اليوم لتلك القوى ولنظرائها في الزمن الراهن. أقول ما قلت، أنا اليساري ابن تجربة طويلة وغنية باسم الاشتراكية المختلف اليوم في يساريتي عما كنت وعما كانت هي عليه. فالوطنية اللبنانية هي التي كانت الأساس في تلك النضالات التاريخية.

الجلاء وقانون العمل

يهمني في هذا السياق اختصاراً للحديث عن الإنجازات التي حققتها تلك النضالات أن أشير أولاً إلى الانتصار الذي تحقق في إنجاز الاستقلال الذي كانت لكل القوى السياسية القديمة فضل في تحقيقه، كلّ منها من موقعها وعلى طريقتها. وأستكمل الحديث عن ذلك الانجاز التاريخي بإنجاز آخر تمثل بإجلاء القوات الأجنبية عن أرض الوطن بعد ثلاثة أعوام من إنجاز الاستقلال. ويتمثل الإنجاز الثاني الكبير في النضال ضد المحاولات المتواصلة التي كانت تجري لإدخال لبنان بعد إنجاز الاستقلال في الأحلاف الأجنبية بأسمائها المختلفة كجزء من الصراعات الدولية في زمن الحرب الباردة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية.

كان الهدف من إدخال لبنان في تلك الأحلاف أن يصبح جزءاً من معسكر الدول الغربية في صراعها ضد الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي. وكان ذلك يتعارض مع استقلال لبنان وسيادته. وأحب أن أذكّر في هذا السياق أن جلاء القوات الأجنبية عن أرضنا يعود الفضل فيه إلى الفيتو السوفياتي الذي استخدم في اجتماع مجلس الأمن في عام 1946 دعماً لمطلبنا في تحقيق الجلاء. وهكذا في تحقيق الجلاء وانتصار شعبنا في النضال ضد الدخول في الأحلاف الأجنبية ظلّ الاستقلال كما أراده اللبنانيون استقلالاً وطنياً بامتياز. أما الإنجاز الثالث فهو إنجاز اجتماعي تمثل أولاً في إقرار أول قانون للعمل في عام 1946 فرضته نضالات العمال بقيادة الاتحاد العمالي الذي كان يرأسه منذ أواسط الثلاثينات المناضل النقابي مصطفى العريس عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي ومعه شركاء كان من أبرزهم سعد الدين مومنة. وهو إنجاز ترافق في الأعوام اللاحقة في الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي بالضمانات الاجتماعية التي كانت تتحقق بالتدريج بفعل النضالات التي كان يقودها الاتحاد العمالي العام الذي تشكل في عهد وزير العمل والشؤون الاجتماعية الجنرال جميل لحود.

أضاف مروّة: وتجدر الإشارة هنا إلى أن لحود كان يمثل جبهة الأحزاب والشخصيات الوطنية في حكومة عبد الله اليافي التي تشكلت في عام 1966 بعد “أزمة إنترا”. ومعروف أن جبهة الأحزاب المشار إليها كانت قد تشكلت في عام 1965 بقيادة كمال جنبلاط من ثلاثة أحزاب هي الحزب التقدمي الاشتراكي والحزب الشيوعي وحركة القوميين العرب، وثلاث شخصيات هي النائبان الجنرال جميل لحود ومعروف سعد ومعهما نهاد سعيد أرملة النائب السابق أنطوان سعيد. وكان لهذه الجبهة دور في كثير من الانجازات التي تحققت على الجبهتين السياسية والاجتماعية. وعليّ أن أذكّر، استكمالاً للانجازات السياسية والاجتماعية الآنفة الذكر إنصافاً للتاريخ، بالانجاز المتمثل بما أنجز في عهد الرئيس فؤاد شهاب من وضع الأسس الأولى للدولة المدنية الحديثة ولمؤسساتها الديمقراطية. وهو إنجاز رائد كان الأول من نوعه بعد الاستقلال. لكنه سرعان ما انهار بعد الأعوام الست التي انتهى فيها عهد الرئيس فؤاد شهاب لأسباب داخلية تمثلت بالدور الذي أعطي في الدولة للأجهزة الأمنية. وهي أسباب استندت إليها القوى البرجوازية في ذلك الزمن بتحالف غريب بين قواها المتناقضة مصالحها لإسقاط تلك التجربة.

كريم مروة محمد عقل أحمد ياسين

لقد فرضت عليّ يا صديقي بسؤالك الاسترسال في الحديث عن تاريخنا القديم وعن الانجازات التي تحققت فيه. لكن عليّ أن أضيف إلى تلك الانجازات الأخطاء والإخفاقات والخيبات والكوارث التي قادتنا إليها تلك الأخطاء. وتتمثل الأخطاء والنتائج التي ترتبت عليها في الصراعات التي سادت بين القوى السياسية بأسمائها ومرجعياتها المختلفة حول مستقبل لبنان وحول موقعه ودوره في المنطقة، وحول دور وموقع كل من تلك القوى سواء في مؤسسات الدولة أو على هامشها أم في المجتمع. وحمل جزء من تلك الصراعات عفوياً أو عن قصد مسبق طابعاً طائفياً ظلّ يتفاقم إلى أن أصبح هو الطابع الطاغي في الصراع. وأدى ذلك الوضع في غياب، أو ما يشبه الغياب، للهدف من ذلك التنافس بين القوى السياسية حول مستقبل أفضل للبنان، أدى إلى الكثير من الخراب. وأستدرك هنا بالقول بأن تيارنا اليساري في ذلك الصراع باسم الحزب الشيوعي كان يعطي لذلك المستقبل الأفضل المنشود صفة وسمة التغيير الديمقراطي. وكان من نتائج ذلك الصراع بأشكاله وصوره المختلفة الخراب الذي أشرت إليه المتمثل بالحرب الأهلية التي ما تزال آثارها قائمة حتى هذه اللحظة من تاريخنا. وكان للقوى الخارجية دورها في ذلك الصراع لا سيّما في الحرب الأهلية. إذ كانت تستقوي القوى السياسية المتصارعة كلّ منها بخارج يلائمها ضد من كانت تعتبره خصمها في الحرب الأهلية من القوى السياسية.

من أخطائنا الكبرى

وأود أن أشير هنا – يضيف مروّة – إلى القسط الذي يعود لأحزابنا في الحركة الوطنية الذي اتخذت طابعاً يسارياً، ومن ضمنها حزبنا الشيوعي، في المسؤولية عن الحرب الأهلية التي أعطيها اليوم من دون تردد صفة الجريمة التاريخية. ويتمثل هذا القسط من المسؤولية أننا في الحركة الوطنية دخلنا في تحالفنا مع المقاومة الفلسطينية في تلك الحرب، المقاومة التي كانت قد شكلت دولتها داخل الدولة اللبنانية مستندة في ذلك إلى اتفاق القاهرة الذي أعطاها الحق في استخدام لبنان منطلقاً لأعمالها المسلحة ضد إسرائيل. وهو خطأ فادح من شقين. الشق الأول هو الموقع الذي أعطي للمقاومة الفلسطينية من قبلنا ومن قبل الدولة في لبنان، والشق الثاني المتعلق بدخولنا معهم في الحرب الأهلية ضد الفريق الآخر. وكان من نتائج ذلك الخطأ ما أصاب لبنان من كوارث وما أصاب القضية الفلسطينية من خسائر.

نعم نتحمّل المسؤولية

هكذا وباختصار قدمت لك نماذج رائعة من الانجازات ونماذج خطيرة من الأخطاء والكوارث التي قادت البلاد إليها. والخلاصة التي أريد الخروج بها من هذا الاستعراض السريع لتاريخنا القديم هي أننا نتحمّل جميعنا قوى سياسية وشعباً بكامله المسؤولية عن تدمير تلك الانجازات الكبيرة. وأخص بالذكر هنا مسؤولياتنا جميعنا عن تدميرنا لميزة وطننا لبنان ، فيما يشبه الفرادة المتمثلة بتعدد مكوّناته الدينية والثقافية والحضارية وأنماط الحياة التي تعبّر بوحدتها عن الشخصية اللبنانية بسماتها المتعددة. وإذ أشير إلى هذه الشخصية في مكوّناتها وسماتها فلكي أعلن من على هذا المنبر الإعلامي أنه لا خلاص لنا مما نحن فيه من كوارث ومآس وآلام ودمار إلا بالعودة إلى هذه المكوّنات في وحدتها والتحرر من الاستقواء بأي خارج في شؤوننا الوطنية والتحرر من الطابع الطائفي ومن المحاصصة باسم الطائفية في التنافس بين القوى السياسية في النضال من أجل ما يدعيه كلّ منا خيراً للوطن وضماناً لحريته وسيادته واستقلاله. ففي مثل هذا التحرر نستطيع أن نتوحد في الدفاع عن أرضنا ضد كلّ الطامعين به من كلّ الجهات والاتجاهات.

اقرأ أيضاً: وضاعت فرصة التغيير

استناداً إلى ما تقدم أقول لك يا صديقي بأن الحراك الشعبي الأخير بطابعه الوطني العابر للطوائف والمناطق والسياسات والسياسيين واصطفافاتهم يشكّل في نظري حدثاً تاريخياً. أقول ذلك من دون تردد. وأنا أعرف عناصر الخلل في داخله أسوة بما حصل في الثورات العربية الأخيرة التي اعتبرتها حدثاً تاريخياً. وأهمية هذا الحراك في تقييمي له أنه فتح الطريق أمام مستقبل مختلف للبنان عما هو عليه في الواقع الراهن. فهو قد عبّر في شعاراته الكثيرة، ما هو واقعي منها وقابل للتحقيق وما هو في مستوى الحلم ويتطلّب زمناً وشروطاً لتحقيقه، عبّر بحق وبوضوح عن الرغبة الجامحة في التغيير الذي طال زمن تحقيقه وصار ضرورة تاريخية. وهو تغيير يقوم على تحرير لبنان مما هو فيه من انهيار لكلّ مؤسساته ولكلّ مرافق الحياة فيه ووضعه على الطريق الذي يقوده إلى استعادة موقعه ودوره اللذان كانا من سمات لبنان المميزة في المنطقة.

السابق
المستقبل: لن نمشي بعون لأنه مخرب عقول الموارنة
التالي
وزارة الصحة: مطابق وغير مطابق