الشاعر الكبير محمد العبدالله نازلٌ بالتجربة إلى الجحيم ومصعِّدٌ بها إلى ذرى البهاء الشعري

الشاعر محمد العبد الله
تعرفتُ إلى محمد العبدالله في كلية التربية، عندما صرتُ طالباً فيها بعدما اجتزتُ مع رهط من الطلاب المتفوقين امتحان الدخول إلى تلك الكلية التاريخية المهيبة. كانت كلية التربية آنذاك موئلاً للشعراء والروائيين الجدد، والمفكرين الجدد، والمناضلين الطليعيين الجدد، الذين وجدوا هناك، كلٌّ في مجاله، فضاء عالياً لمواهبهم المتفتحة. كان محمد العبدالله آنذاك طالباً متقدماً بسنوات، وشاعراً معروفاً يقول الشعر في الكافيتيريا، وعلى المنبر الجامعي المعروف، ويفوز بجائزة الشعر، حاضراً بقامته المديدة وبشعريته الهائلة.

كنتُ، أنا الطالب الطريّ العود، والطامح إلى أن أكون شاعراً، أجد في كينونة محمد، وفي كتاباته، وموضوعاته، صورةً للشاعر الموهوب، الهامشي، البوهيمي، الحقيقي، بما ينطوي عليه النعت من معنى. لم أخطئ عندما واصلتُ خطايَ في باب الأدب والنقد، ورحتُ أتابع تجربة هذا الشاعر. بل تعززتْ نظرتي إلى شعريته الفذة، في الشعر والنثر، حتى باتت عندي علامةً فارقةً متمايزة في أدب تلك المرحلة، وفي امتدادات ذلك الأدب إلى اللحظة الراهنة.

محمد العبدالله هو عندي شاعرٌ وكاتبٌ حقيقي. بل هو شاعرٌ وكاتبٌ مُرهِبٌ للروح، من كثرة ما هو حقيقي. مُصعِّدٌ للتجربة اليومية والإنسانية إلى ذرى البهاء، ونازلٌ بها إلى الجحيم. أكان ذلك في جنون عيشه أم في ولوج أدبه إلى حيث لا يلج سوى الشعر المذهَّب بوجع العتمة والضوء. يكتب كمَن يقبض على إيقاع الروح، وكمَن ينزف، لكن بكثيرٍ من الإحساس بماء الوجدان والعصب، والكبرياء المؤنسنة، الممزوجة برهبة السخرية والمرارة. عندما يؤرَّخ لمرحلة الشعر في السبعينات، يحضر محمد العبدالله اسماً قوياً، راسخاً بذاته، مختلفاً عن غيره، بؤرةً من الأساليب والأنواع، متفلتاً من كل الأوصاف والألقاب والاعتبارات، السائدة آنذاك. شعره ونثره جارحان في كل شيء، لأنهما ينموان في القلب، في الجسد، في الأرض، في المكان، في الناس، وفي الأشياء. جارحان ويشرقطان، ويصيبان في الصميم.

إقرأ أيضاً: النحلة بيعقصها الدبور
كتاباته هي من النوع الذي لا يكتفي بالكتابة، لأنها تأخذ الكلمات لتجعل منها أرضاً مجمّرة للحريق المكتوم أو المنصَت إليه، وتربةً صالحةً للزيتون والقمح، وفضاءً سلساً لموسيقى الهواء النقيّ. وهو يأخذها، ويأخذ
بها، إلى حيث يصنع لنفسه مكانةً في الكتابة ليست لغيره، ولا يشاركه فيها أحدٌ من أبناء جيله الكثر.
الوجود الذي يكتبه محمد العبدالله، كشاعرٍ موصولٍ بأعباء الشرط الإنساني، الفردي والجماعي، هو ورطةٌ مجبولةٌ بجحيم اليومي والحبّ والعبث والسخرية والخفة والهجاء والمرارة واللاجدوى والغضب واليأس. حتى ليصل في الكتابة إلى مطارح يلمسها بالنسغ المعتم، لا بالكلمات فحسب. هذا المنجم الأدبي الوجودي، البالغ التنوع لديه، من حيث وفرة المقاربات والأساليب المستخدمة، وخصوصياتها الخلاّقة، يعنيني كثيراً، على مستوى الذائقة الشخصية، لأنه مرتبط بجانبٍ من فكرتي عن الشعر والأدب مطلقاً. في هذا المعنى، ليس وجعاً عادياً ذلك الوجع الذي يكتبه محمد العبدالله. إنه وضعُ يدٍ على بؤرة المغناطيس التي تكهرب الكلمات. وسيكون من الصعب على شاعر واحد أن يمتلك كل هذه اللياقة الأدبية المتكاملة، التي جعلته يتنزه في قصيدة الوزن، وفي قصيدة التفعيلة، وفي قصيدة النثر، وفي القصيدة المحكية، وفي الأغنية الفصحى، وفي الأغنية المحكية الشعبية، وفي فنون السرد والقصة والدراما على السواء.
هناك كتبٌ لا تأفل تواريخ قراءتها. “رسائل الوحشة” لمحمد العبدالله، من بين هذه الكتب، و”بعد ظهر نبيذ أحمر… بعد ظهر خطأ كبير”. هذان كتابان لا يمكن لناقد أو لشاعر أو لأديب أن يتغافل عنهما. إذا كان للمصير البشري، ألماً، أو وحشةً، أو نكتةً، أو موسيقى، أو أغنيةً، أو حبّاً، أو يأساً، أو مرارةً، أو خفّة، أو سخريةً، أو عبثاً…، إذا كان للمصير البشري هذا تفسيرٌ شعري، فهنا يستطيع القارئ اللبيب أن يعثر على تفسيرٍ قلّ نظيره، في أنواعه وأشكاله الأدبية الباهرة كافة.
قبل شهرين، أصدر أصدقاء محمد العبدالله كتاباً له عنوانه “أعمال الكتابة”، هو بمثابة تحية للشاعر الكبير، الموجوع والمريض. أطلب من الكلمات أن تُرهِب الوجع والمرض، وأن تلتئم، لتبلسمكَ، يا شاعري، يا محمد العبدالله. أنتَ عزيزٌ وجديرٌ ومستحق.

إقرأ أيضاً: رضيوا بمرحبا… وين المياه والكهربا؟!

للتذكير، أصدر محمد العبدالله الكتب الآتية: “رسائل الوحشة” (شعر)، دار الفارابي، 1978، “بعد ظهر نبيذ أحمر… بعد ظهر خطأ كبير” (شعر وقصص)، الدار العالمية، 1981، “جموع تكسير” (شعر)، دار المطبوعات الشرقية، 1983، “حبيبتي الدولة” (تغريبة روائية)، الدار العالمية، 1987، “تانغو” 1987، “بعد قليل من الحب بعد الحب بقليل” (شعر)، دار الجديد، 1994، البيجاما المقلمة” (قصص)، دار عالم الفكر، 1996، “كيفما اتفق” (نصوص)، دار المسار، 1998، “قمر الثلج على النارنج” (شعر)، دار الفارابي، 1998، “لحم السعادة” (نصوص)، دار الفارابي، 2000، “حال الحور” (شعر)، دار الفارابي، 2008، “الله معك سيدنا يليها دخلك يا حكيم” (مسرحيتان)، دار الفارابي، 2009، “ألف ومئة وأحد وعشر يوماً في بيروت” (سيناريو سينما)، دار الفارابي، 2010، “قصائد بيروت” (شعر)، دار الحرف العربي، 2010، “بلا هوادة” (شعر)، دار الحرف العربي، 2010، و”أعمال الكتابة”، دار الفارابي، 2015.

(النهار)

السابق
الولاء الملتبس في دول اللجوء
التالي
ياسين جابر: التكفيريون هم فقط من لا يقبلون الآخر ويقيمون التحالفات على القوة والإجبار