حوار مع هاني فحص…عن الشيعة وايران وغيفارا وفيروز

غادرنا السيّد هاني فحص مخلفاً فراغاً سيصعب ملؤه، لكن انبعاث ذاكرته من ارثه سيبقى شهادة عميقة على الكثير من المحطات التي يرويها بحياد مؤرخ عاش زمنه. في الآتي ننشر أجزاء من حوار طويل أجرته الزميلة ثناء عطوي مع السيد الراحل قبل أشهر ضمن كتابها "حوارات في المسارات المتعاكسة". ويضيء الحوار على السيرة والنشأة والمواقف من قضايا شائكة بين الامس واليوم.

كيف أصبحت رجل دين شيخاً ومرجعاً؟
ما “مَشيخني” وجعلني أذهب إلى الحوزة الدينية أمران هما: اللغة العربية، وعاشوراء التي تتّصل باللغة. منذ طفولتي وأنا أتمتّع بحساسية لغوية، بإيقاع المُفردة والصورة، توّلد عندي عالم بديل، وأعيشه كأنّه حقيقي، مجاز اللغة عندي أجمل من الحقيقة. كنت أقرأ وأكتب الشعر ومواضيع الإنشاء، و كانت اللغة وكأنها شأن المشايخ وحدهم، فأطلقوا عليّ اسم الشيخ.
بعد أن اجتزت المرحلة الابتدائية سنة 1958 أقنعتُ أمي بأنه ليس من الضروري أن أتعلّم، وأنه ينبغي أن أذهب للعمل في بيروت. كان والدي قد جاء في هذه الفترة إلى بيروت للعمل أيضاً فوجدتها فرصة لي، لكني لم أعرف كيف وماذا سأعمل. اشتغلتُ في مصبغة لتنظيف الملابس، واشتغلتُ في فرن، وفي عدّة أماكن فوجدت الأمر صعباً، عدت ومكثت في البيت. كنت أمضي وقتي مع جارتنا العجوز أم علي حرب، أراقبها وهي تزرع الأرض أُسلّيها وأقرأ لها كلّ ما حفظت، ومن بينها قصّة عاشوراء التي حفظتها جيداً، ومثّلتها في مسرحية حضرها أهل القرية كلّهم. كنا نسعى للاحتفاء بعاشوراء في القرية حتى لا يذهب الناس إلى مدينة النبطية، ويشاهدوا احتفال الدم الذي يجري كلّ عام في هذه الذكرى. كان السيد محسن الأمين هو المؤسّس لهذا الاجتهاد الذي حرّم جرح الرؤوس منذ العقود الأولى من القرن العشرين.

ألم تكن لديك أحلام أخرى غير الجنّة؟
لم يكن هناك فلّاح إلا وحلمه الجنّة. كنا نعرف النبطية، لأننا نذهب إليها سيراً على الأقدام إلى سوق يوم الاثنين، أو إلى المدرسة أو نمرّ منها إلى بيروت عند الضرورة، أما القرى المحاذية فلا نعرفها. كان عالمنا محدوداً جداً ولولا الراديو لما عرفنا ما يجري من حولنا. حتى اليوم الجنة لا تزال حلماً، لكن تشكّلات وعينا لها وتصوّرنا عنها تغيّر.

 

ماذا كنت تعرف عن السياسة ؟
كنت أهتم في طفولتي بالعدوان الثلاثي وعبد الناصر ومصر وقضية السويس، إضافة إلى فلسطين التي كان نازحوها أمام أعيننا، مفردات كانت تشغلُ رأسي، ثم استفزّتنا الوحدة العربية ما بين مصر وسوريا. رُحنا نجمعُ المال بالقرش حتى نذهب ونرى عبد الناصر، ذهبنا إلى قصر الضيافة في سوريا ورأيناه في عيد الوحدة، وردّدنا أمامه “يا عروبة مين حماك غير البعث الاشتراكي”.. كان الراديو يومياً في حياتنا، إذاعة القاهرة كانت عبارة عن سينما ومسرح ومكان لمناقشة أطروحات الدكتوراه، قرأت يوسف إدريس ونجيب محفوظ عبر الراديو، وسمعت جلسات نقاش الكتب والمسرحيات، ولا يزال الراديو يشغلني حتى اليوم.

 

كيف استطعت أن تُجيّر حماستك نحو الديني في حوزة النجف؟
وصلتُ فلاحاً فالتاً من السلطة لا سيطرة لأحد عليّ، كانت الفوارق الطبقية كثيرة وهي قاسية، فعقّدت التصور وولّدت عندي قلقاً معرفياً كان وراء سعيي للمعرفة، وحوّلني إلى مُشاغب فكري، وطرح عليّ أسئلة لا تنتهي. صيّرتني هذه الفوارق بسيطاً وعميقاً، إذ حاضرتُ في كلية الفقه وأنا عندي 17 سنة. وجدتُ في النجف أبعاداً أخرى، فهي مكان مُشبع بالحرية. في النجف نختار أساتذتنا، نختار زملاءنا، نختار كتابنا وساعات الدرس، نختارُ أن لا ندرس. كانت هناك حرية إلى حدّ الفوضى المنظّمة. هو التأسيس الحوزوي هكذا، من المسجد إلى النظامية في بغداد إلى الزاوية في ليبيا، وهذا جعلني أتابع وأقرأ العالم كلّه وأنا في الحوزة. قرأتُ دوستويفسكي، وتولستوي وكافكا وإدغار آلان بو والوجوديين والعدم وسارتر وسوهو ونابوكوف وبابلو نيرودا وأدونيس وغرامشي وغارودي..

هل ممنوع على المرأة أن تدرس في الحوزة؟
لا أعرف، أو أعرف أنه لا مانع، واليوم يحصل ذلك، لكن ليس لغرض علمي بل محض سياسي. لكن لم يكن يوجد ولا امرأة معنا. ألف عام من تاريخ الحوزة لم تكن هناك امرأة واحدة، علماً أن الحوزة أسّسها الطوسي، وهو عندما جاء من بغداد بعد أن طرده السلاجقة وهدّموا مكتبته وبيته، جاءت معه فتاة عالِمة (كريمته)، ولم يتكرّر ذلك. المدينة هي عقل المرأة أما القرية فهي قلبها، وفيها يتكوّن عقلها على قياس قلبها وعضلتها.

 

كنت متأثّراً بشخصية غيفارا؟
أعجبني فيه روح التضحية وما في داخله من حلم بالعدالة. بكيت عليه عندما مات وعلّقت صورته في المنزل، من يُحب الإمام علي سيرى نضال غيفارا، ومن يُحب الحسين سيحب بابلو نيرودا. هذه الروح الكُلّية التي تحكم التاريخ، والفضاء الرّحب للتعدد والاختلاف. كنت أرى ديني هكذا، إنسانياً مشتاقاً للتغيير والعدالة، يتسامح مع الكفر بشرط العدل. الكلاسيك حماني لأنه كان على علم وتقوى ومُطمئناًّ إلى نيّتي وليس الحداثة النجفية.

 

كيف قرأت الحرب الأهلية في لبنان؟
لم أكن مُقتنعاً بالحرب، واعترفتُ بمسؤوليتي مُبكراً سنة 93 في مؤتمر حوار في تعنايل. قلت إن الدم على طرف جُبّتي نتيجة موقف خطأ أو السكوت عن أمر معين. حركة فتح وحزب الكتائب والحركة الوطنية جميعهم كانوا شركاء حرب. كنت ضدّ الحرب، ولم يذهب شاب من هذه الحرب الأهلية وأخبرني، ولم يعد شاب من هذه الحرب وباركته. لم أرَ أُمّاً من أمّهاتنا راضية بالحرب. أسّسنا مع بطرس لبكي وروجيه عساف وروجيه نبعة وإبراهيم الشويري وجورج ناصيف وغيرهم “لجان إطفاء” في المناطق لتخفيف الاحتقان، وكانت تجربة مختلفة ومهمّة.

 

رفضت الحرب الأهلية وكنت تناضل في صفوف فتح؟
دخلت سنة 1974 إلى حركة” فتح”، كنت أُعلّم في مؤسّسات الإمام الصدر في المعهد الشرعي، ونُدرّب الشباب على القتال وفكّ السلاح وتركيبه. كانت منظمة فتح فضاء واسعاً، ولا مرّة تلقينا أمراً ولا مرّة جاءنا تعميم تنظيمي، ولا التزمنا برأي أو موقف. كانت حركة شعب، وكان لنا إطارنا التنظيمي، نحن الذين تربّينا خارج فتح عقائدياً. كنا نُصدر مجلتنا ونوزّعها، وعندما لا يُعجبنا هذا القيادي نذهب إلى غيره، وإذا هدّدنا أبو موسى نذهب إلى أبو عمار، وهكذا.. خُضنا أول عملية سنة 1973 قبل أن ننخرط في صفوف” فتح”، كنا نذهب عند” فتح” ليلاً بعد أن نفطر ونُصلي، نستقلّ سيارة أُجرة ونتكدّس على بعضنا البعض سبعة أو ثمانية أشخاص. كنا ننزلُ إلى منطقة برج الشمالي للتدريب، ونذهب إلى العرقوب، لكني لم أكن عنفيّاً ولم أقتل أحداً.

كيف تعاملتم مع الدخول السوري إلى لبنان؟
كنا ضدّه لكن أيضاً ضدّ مقاتلته، كنا نجول على مواقع في الجنوب لإقناع الشباب بعدم إطلاق أي رصاصة على السوريين. ذهبت إلى أبو جهاد غاضباً وشكوت له أن الناس نسوا قضية فلسطين، فضحك وقال سترى قريباً، إذ كان يُهيّء لعملية الشهيدة دلال المغربي.

 

عقدت صلات وثيقة مع الإيرانيين المعارضين قبيل الثورة الإسلامية؟
صحيح بدأت علاقتي مع الإيرانيين في الخارج منذ سنة 1973، كان محمد صالح الحسيني صديقي، وهو إيرانيّ الأصل لكنه نجفي، طردته حكومة البعث إلى لبنان وكان مسؤولاً عن تنظيم الشباب المُسلم ومناضلاً حقيقياً ضدّ حزب الدعوة، عاش واستشهد في لبنان. جاءني وأنا ألقي محاضرة في منطقة النبطية حول مشروع “رؤيا لفك حصار الحزن في عاشوراء” مصطحباً معه جلال فارس، وهو من أهم قيادات الثورة. بعد انتهاء المحاضرة طلب جلال فارسي مني الحصول على النص ليُترجمه إلى الفارسية ويُرسله إلى الإمام الخميني، بعدها أصدرت أنا وفارسي كتاباً عن الخميني وإسرائيل، وكتاباً عنوانه “دروس في الجهاد” جمعنا فيه خطب الإمام الثورية.

 

زيارتك الأولى إلى إيران لتعزية الخميني أسّست لعلاقة متينة مع نظام طهران؟
ذهبت إلى الخميني سنة 1977 حاملاً رسالة تعزية من أبو عمار بابنه الأكبر الذي قُتل في ظروف غامضة، وقُتل بعده علي شريعتي في ظروف غامضة أيضاً، سلّمته الرسالة وأجريت معه حواراً لساعتين. ختم حديثه معي عن فلسطين ووحدة العرب، وطلب مني أن يُركّز العرب على هذه القضية. قبلها كنت في النجف وجاء الخميني سنة 1965 مُطارَداً من الشاه. ذهبتُ مع رفاقي وزملائي، واستقبلته في بغداد بفرح. كان سلوكه مُحترماً وبسيطاً ولا يريدنا حاشية له، ولم يكن طارحاً دولة إسلامية، هو جاء إلى تركيا منفياً كمناضل إصلاحي وليس مرجعاً، ولا حامل مشروع دولة بديلة. أقنعه الإيرانيون الذين كانوا يزورونه في تركيا أن عليه أن يكون مرجعاً، فقرّر ذلك وصدّر رسالته العملية هناك تحرير الوسيلة. لم يتحمّل الشاه ذلك لخلل في الاتفاق مع الأتراك على موقعه، فطلبوا من الأتراك طرده وجاء إلى النجف. وإذ كان العراقيون على خلاف مع الشاه، فقد استقبلوه واستخدموه لكنه كان واعياً لهذه المسألة. نسّق معهم ولم ينخرط، لذلك عندما عقدوا اتفاقية مع الشاه سنة 1975 تراجعوا عن دعمه، لكنهم لم يتخلّصوا منه لخوفهم من الشاه أيضاً، أي ليبقى رصيداً احتياطياً.
رأى الخميني في بغداد حركة “حزب الدعوة”، وطروحاتهم حول الدولة الإسلامية في اللحظة التي كانوا متأثّرين فيها بالأخوان المسلمين، كانوا تلاميذَ لسيد قطب، وكان السيد محمد باقر الصدر من المؤسّسين، ثم تنبّه وذهب إلى المرجعية. رأى الخميني ذلك، تأثّر بهم، وقرّر أن يتمايز عنهم. أعدّ أطروحة شيعية مستنداً إلى أدّلة فقهية عادة كانت موجودة، لكن لم يكن لها هذه القوة العلمية، ولم تكن تتمتّع بقوة الإسناد في مداركها، أعني ولاية الفقيه. جاؤوه في باريس بعرض للانتقال إلى ليبيا، خوفاً من رفض الفرنسيين تمديد إقامته، وكي لا يصبح تحت رحمة القذافي لأنه سيُتاجر به، اقترحنا عليه بالتفاهم مع أبي عمار الانتقال إلى البقاع في لبنان في أيلول سنة 1982 وإقامة حوزة له. سأل الخميني عن موضوع الأمن فطمأنوه أن الأمن سيكون بالتنسيق ما بين السوريين والفلسطينيين. وافق الخميني وكان الحديث بحضور ولده أحمد بهجتي والسيد محمد حسين بهشتي وبني صدر، لكنه طلب التريّث قائلاً عليّ أن أستشير زوجتي. بعدها أبلغني نواف سلام وطوني عبد النور أن دومينيك شوفالييه الأستاذ الكبير ومستشار الخارجية والداخلية الفرنسية، يريد رؤيتي، وعندما التقينا أبلغني أن الفرنسيين سيُمدّدون للخميني إقامته الباريسية لأنهم يريدون المحافظة على مصالحهم.

 

عشت قريباً من كبار رجالات السياسة في طهران؟
عشتُ في طهران ثلاث سنوات، وشغلتُ منصب عضو اللجنة العلمية للمؤتمرات التي تضمّ شخصيات كبيرة. كنت مستشاراً غير معيّن للإذاعة والتلفزيون الإيراني سنة 1982ومسؤولاً عن القسم العربي في هيئة الإعلام الحوزوي، كما أسّست وأشرفت على مجلة أبحاث اسمها “الفجر”. درّستُ في قُم فنّ البحث والكتابة وهو فرع استحدثته أنا، ودرّستُ أيضاً تاريخ الشعوب والاستعمار من القرن الثامن عشر.عُيّنت مستشاراً ثقافياً لشؤون العلاقة والاتصال بالعلماء المسلمين حول العالم، وكان رئيس الهيئة السيد علي الخامنئي، وأمينها العام الشيخ علي المشكيني، وأعضاؤها مجموعة من العلماء من بينهم السيد خاتمي عندما كان وزيراً للإرشاد.

 

من كان السيد خامنئي؟
كان غير خامنئي اليوم. كان مُثقفاً مطّلعاً على نتاجات العالم الثقافية، وكان البُعد الثقافي عنده أهمّ من البعد الفقهي، واجتهاده الفقهي أو أهليته لولاية الفقيه ليست مسلّمة وإنما رواية رواها رفسنجاني البراغماتي الأصلي. هو روى أن السيد الخميني قال إن السيد الخامنئي مؤهّل للقيادة، وبقي من يشكّ في أصل اجتهاده. أعتقد أنه بالمعايير الكلاسيكية الصارمة قد يكون ذلك صحيحاً لكنه لاحقاً اشتغل على نفسه فقهياً وتجاوز هذه الحالة وبقي عاقلاً وفهم أن مرجعيته لا تمشي. وإن كانت فتواه تُلزم الجميع في إيران، فذلك عائد إلى قوة السلطة الحاكمة. حتى حزب الله مرّ في مرحلة لم يكن قادراً فيها على فرض لا الخميني ولا الخامنئي، لكنه الآن ارتاح لأن الحزبية أصبحت أكثر تماسكاً وأكثر قدرة على الإلزام، وأصبح عندنا حزب ستاليني بالمعنى الكامل وشبه وهّابي أو حنبلي شيعي.

 

عملت إلى جانب الخميني والخامنئي بمن تأثّرت؟
لم أتأثر بأحد. أحبُ الشعب الإيراني وأكرهُ شاه إيران، لأنه ساعد إسرائيل على احتلال فلسطين. أحب العدالة والفقراء وحرية الفكر. منذ أن كنت في النجف توجّهت نحو المعارضة الإيرانية من دون تفريق، كان أصدقائي من مجاهدي خلق والليبراليين وجماعة بازركان وكريم سنجابي والكفاءات الليبرالية الإيرانية ومن بينهم الدكتور كاظم سامي.

 

ماذا عن الإمام الخميني؟
لفت نظرنا سلوكه العرفاني، وذوقه الرفيع وأناقته وحرصه الشديد على اختيار ملابسه. لا يُتمتم بالدين كغيره، حياته الشخصية كانت بسيطة، لم يتبدّل مصروفه بعد أن أصبح حاكماً أعلى. كان فطوره جبنة وريحاناً، وكل طعامه من البيت وبقي كذلك. كان يستيقظ باكراً يُصلي ويقرأ القرآن، يستخدم المُنبّه، يلفّه بحرام صوف ويضعه تحت أذنه كي لا يُزعج زوجته. في عيد الميلاد وأثناء إقامته في باريس، دعا جيرانه كلّهم إلى حديقة منزله ووزّع عليهم الورد وهنّأهم. أذكر عندما زارته صحفية إيطالية وقرّرت تحديه نازعةً الحجاب، لم يقل كلمة واحدة، نظر إليها نظرة قالت بعدها أحسستُ أنه عرّاني فخرجتُ وأنا أتلفّت ورائي.

 

ما الفرق بين الخميني والخامنئي؟
الفرق بينه وبين كلّ رجال الدين، بينه وبين السيد الخوئي وبين السيد محسن الحكيم وآخرين. هو وهجٌ عظيم، فيه سطوة وهو يتيم وغريب، أصله هندي وهو آت من كشمير. توفي والده باكراً فربّته أمّه وعمّته. كان شخصاً لا يُحتمل، وغصباً عن أيّ كان، يشعر من يكون إلى جانبه أنه ضئيل، لأن حضوره يطغي ويلغي.

 

هل تسمع فيروز اليوم أليست الأغاني من الأعمال الحرام؟
ليس صحيحاً، كلّ ما هو مفيد أو جميل حلال، وحديثاً اشتريتُ 60 أغنية لمحمد عبد الوهاب. الأغاني تُشعرني بروحانية عالية، وأنا أبحث عن الرّوح في الطرب، لا أخالف الشرع لكن رأيي أن بعض الأصوات الطربية أحنّ وأكثر روحانية من أصوات بعض المنشدين وقارئي الأدعية، بطريقة تُبعثر ما فيها من رقّة وروح وجاذبية. هذه أمور خلافية عند الجميع، ما يُحرّمها هي اللحظة والمزاج والثقافة، كما تتحكّم فيها مزاجية فقهية كبيرة.

 

تصف تعامل إيران مع شيعة لبنان وكأنهم جالية إيرانية؟
نعم لأن الإيراني استيلائي، لا يُحب أن يكون له دور وإنما نفوذ. الدور يعني الشراكة، الدور يشترط الآخر، والنفوذ استتباع واستلحاق، زبائني ريعيّ يشتري الرقبة والقرار، يهمّه الوصول إلى هدفه، هو براغماتي جداً ومسكون بهاجس الإمبراطورية التي يريد استعادتها بمنطق القوة الفارسية أو الشيعية أو الإيرانية مقابل الكثرة العربية. وقد جاءت للإيراني فرصة ذهبية سنة 1982 عندما ترك العرب فلسطين ولبنان، فاستغلّ غفلتهم، وذهب إلى قضية العرب الأولى، وإلى قضية السنّة الأولى وأمسك بها، فلسطين هي الذريعة، ونظّم حركة مال وذهب إلى النظام السوري. في الوقت نفسه كان العرب يُدلّلون النظام العلوي وحافظ الأسد، ولم يُقدّموا مشروعاً للعراق، تركوا الجنوب وتركوا فلسطين، وراحوا يُقدّمون مالاً بلا عقل وبلا برنامج.

 

هل المال الإيراني ذكي فعلاً ؟
جداً، سمعت بأُذني مسؤولاً مالياً إيرانياً يقول إذا أردت أن تُعطي عربياً أو لبنانياً ألف تومان، فلا تعطِه إياه دفعة واحدة وإنما أعطِه إياه على ثلاث دفعات، كي تربح منه ثلاثة أضعاف.

 

ما الذي جعلك تعيد النظر بأفكارك السياسية وبموقفك من إيران وحزب الله؟
انتبهتُ إلى وطنية إيرانية عميقة. أنا كنت شخصاً كوزموبوليتياً عابراً للوطن، لا وطنياً، أو لي وطن هو خرافي، بلا حدود، بلا مكان معيّن. انتبهتُ إلى أن هناك وطنية إيرانية، أنا مسلم فهل وطنيتهم هي ضد الإسلام، ضد الشريعة؟ هذه وطنية إيرانية في مكانها، لماذا لا أنتبه إلى وطنيتي ولبنانيتي؟! لماذا لا أنتبه إلى عروبتي؟! ليس بالضرورة أن أكون بعثياً، ولا قومياً عربياً، لكني عربي وهذا جزء من هويتي المُركّبة، فقرّرت العودة إلى لبنان لبنانياً عربياً من دون عداء لإيران، لكني مُصرّ على التمايز، وهكذا بدأت أتغيّر من موقع فكري وجدّدتُ قراءاتي لمعنى العروبة الثقافي، ونشأة الكيان ودوره ومعناه، ومعنى المواطنة كاختيار لا بدّ أن يصبح قانوناً.

 

أي مرجعية هي أكثر مُعاصرة وانفتاحاً؟
أنا لا أمنحُ شهادة، كل مرجع له ميزة، لكن رأيي من رفض أن يصبح مرجعاً، واختلفت جداً معه، هو الشيخ محمد مهدي شمس الدين. هو بدأ كلاسيكياً متشدّداً وصعباً، وانتهى إلى حداثة وَقِرة. لم يكتب ولم يقل شيئاً دون المستوى، وكان أهمّ من قرأ الثقافة المجتمعية التعدّدية من منظور حديث وتقانة كلاسيكية.

مَن تُقلّد اليوم؟
مرجعي هو السيستاني، وكنت أول من قلّد الإمام الخميني في لبنان.

لماذا غيّرت؟
هذا طبيعي في الوسط الشيعي. ثبُت لي أن السيستاني أعلم من الموجودين،على علوّ شأنهم العلمي، ثم إنني لا أقلّد الميت، لقد انتقلت من الخميني إلى المنتظري ومن بعده إلى السيستاني.
السيد فضل الله نصّب نفسه مرجعاً وحورب هل فكّرت أن تُعلن نفسك مرجعاً؟
لا أبداً، أنا مثقف ورجل إشكالي. أنا أحترم جداً الشيخ محمد مهدي شمس الدين، الذي قد يكون أعلم من السيد فضل الله أو مساوياً له، مع تمايزه عن الجميع بمستواه الفكري والمنهجي والنقدي. أنا طامح كي أكون جزءاً من حركة مرجعية فكرية واجتماعية، تمرّ بالفقه والفتوى، لكنها ليست مضطرّة أو مهتمة بإنتاج الفتوى، لأن لها آلية إنتاج ليست متوفرة لدى المثقف الديني بل هي من أدوات الفقيه.
موقفكم مما يجري في سوريا والبيان الذي أصدرتموه أخيراً أثار ردود فعل مُستغربة لماذا؟
أقسى كلام صدر على أصدقائنا السوريين كان من الليبراليين السُنّة، وليس من المتطرفين السنّة أو جماعة القاعدة أو غيرهم،لأن هؤلاء لا نتوقّع منهم الرضا ولا نريده. قالوا لنا تأخرتم، فقلنا لهم ما ذنبنا إذا لم تقرأوا إلّا ما تكتبونه أنتم؟! هناك بُعد شخصي في أول بيان، وهناك بُعد ثنائي مهمّ وذو دلالة مع السيد محمد الأمين في البيان الثاني. لكن هناك شيعة عرب وقّعوا على الثالث.
أين أنت في السياسة اليوم؟
لا أعرف. أبدو أقرب إلى 14 آذار لكني لست منهم إذا كان لدينا هناك أو بقي لدينا 14 آذار. هم يتصرّفون وكأنهم عوام، انفعاليون أكثر منهم فاعلين وكسولون، ينتظرون متى يتأزّم حزب الله حتى ينشطوا، كالتلميذ الذي سأله والده عن درجته في الامتحانات فقال (الأخير)، لكن إذا مات رفاقي كلّهم سأكون الأول.

ماذا عن 8 آذار؟
هناك بُعد أخلاقي وفكري في السياسة، وهناك بُعد تنظيمي. يُعجبني الشقّ التنظيمي عند جماعة 8 آذار، يُنظّمون خبثهم وتحالفاتهم وانقلاباتهم وتنازلاتهم، المستوى الأخلاقي في عملهم لا يعجبني، ولو أبعدوا الدين عن عملهم لكان أفضل. لكني أعيش هاجس الخوف من انهيار حزب الله.

 

هل تريد للحزب أن يبقى؟
ليس بهذه البساطة، لا أحد يبقى، وكلما زاد الحزب تماسكاً كان مُهدّداً أكثر. لا أريده أن ينهار علينا، أريده أن يُسرع إلى المشاركة العقلية مع الآخرين، وأن يُصبح عقله بحجم عضلته الكبيرة. ولا تُحفظ قيمة سلاح الحزب ولا سُمعته ولا إنجازه إلّا ضمن إدخاله طوعاً في مشروع الدولة.

 

فيما يتعلّق بالأزمة السورية هناك خوف عموماً لدى الشيعة؟
في البداية كان خوفاً غير منطقي لكنه صار منطقياً. لطالما كان الشيعة محبوبين في سوريا لأنهم خارج لعبة الانقلابات والتغيّرات السياسية، وقد علّمهم ذلك السيد محسن الأمين. أذكر عندما زارني في طهران بعض وجهاء الشيعة في الشام، وطلبوا مقابلة السيد الخامنئي ليقولوا له اتركنا بحالنا ولا نريد تعزية بالبرامكي، كنا نعيش مندمجين في الشام. للأسف تأثّر الشيعة بوهج المقاومة والمال. نحن نعمل اليوم على حماية التعدّد في سوريا، على حقن الدماء ونشكّ في نجاحنا. نُعدّ وثيقة لحماية التعدّد، وليس الأقليات، بالتعاون مع المعارضة في إيران ومع الفاتيكان وقوى الاعتدال في العالم.
هل تعتقد أن سوريا ذاهبة إلى استقلال كامل؟
ذاهبة إلى استقلال كامل لكنه مُكلف جداً وليس موعده قريباً. حتى الإيرانيون يتوقّعون في قرارة أنفسهم أن استقلال سوريا من دون الأسد ونظامه سوف يأتي، لكن الباطنية الإيرانية تعمل على أطروحة أخرى.. الله يسترنا منهم.

السابق
«بيضة كندر» تقتل طفلة..
التالي
بانتظار رأي القوة المجردة من أي إلتزام