العلاقات التركية الإسرائيلية.. الماضي والراهن

لا يمكن فهم التطورات المتسارعة في حوارات التطبيع بين تركيا وإسرائيل، أو تحليلها واستيعابها، من دون إلقاء نظرة تاريخية على المراحل المختلفة لتطور العلاقات بينهما، بما في ذلك السنوات القليلة الماضية التي أدت إلى القطيعة الرسمية، وتخفيض مستوى العلاقات بين البلدين.
صوتت تركيا ضد قرار تقسيم فلسطين في الأمم المتحدة في عام 1947، وانتظرت عاماً ونصف لكي تعترف بالدولة العبرية، وتتبادل التمثيل الديبلوماسي معها دون درجة سفير في مارس/ آذار 1949، ولتكون الدولة الإسلامية الثانية التي تفعل ذلك، بعد إيران التي سبقتها بعام. بعد ذلك، اضطرت تركيا القديمة إلى تخفيض مستوى العلاقات مع الدولة العبرية إثر العدوان الثلاثي ضد مصر في نوفمبر/تشرين الثاني 1956.

ما بعد 1991
عمدت أنقرة إلى تخفيض المستوى التمثيلي، المتدنّي أصلاً، ليصل إلى درجة سكرتير ثان، رداً على قرار إسرائيل ضم القدس إليها في عام 1980، ولم تعد العلاقات بعد ذلك إلى مستوى اعتيادي عبر تبادل السفراء، إلا في عام 1991، أي بعد انطلاق مسيرة التسوية العربية الإسرائيلية في مدريد في العام نفسه.
إذن، الطفرة الأهم في العلاقات حصلت بعد اتفاق أوسلو والانفتاح العربي الإسلامي على إسرائيل، حيث تم توقيع اتفاقية للتعاون الاستراتيجي بين البلدين، خصوصاً في السياق الأمني العسكري في نهاية التسعينيات، كما جرى التوقيع على اتفاقية للتجارة الحرة، والتي دخلت حيّز التنفيذ في مطلع العقد الأول من القرن الحالي.
بدأت مرحلة تركيا الجديدة، أو عصرها الجديد، مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة “صوتت تركيا ضد قرار تقسيم فلسطين في الأمم المتحدة في العام 1947، وانتظرت عاماً ونصف لكي تعترف بإسرائيل” في عام 2002، ووراثته تركة تركيا القديمة الثقيلة من العضوية في حلف الناتو إلى اتفاقية التعاون الاستراتيجي مع إسرائيل. وبنظرة إلى الوراء، يتبين أن فكرة أو حقيقة التعاون الاستراتيجي بين البلدين انتهت، وماتت بمجرد وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، وإعادته التدريجية إلى الحكم المدني، وتحجيم الهيمنة العسكرية على القرار السياسي وتقليصها، وسارت العلاقات الثنائية في سياقها العادي السابق إلى أن قرر الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وكان رئيساً للحكومة، تعليقها، تحديداً في ما يتعلق بالتعاون الأمني العسكري بين البلدين، على خلفية الحرب الإسرائيلية العدوانية ضد غزة في عام 2009.
مع ذلك، بقي التبادل الديبلوماسي على حاله، مع وجود السفيرين في أنقرة وتل أبيب، إلى أن حدثت حادثة الاعتداء الإسرائيلي على سفينة مرمرة، والتي أدت إلى تخفيض درجة التمثيل إلى مستوى قائم بالأعمال، ووضع تركيا شروطها الثلاثة من أجل إعادة تطبيع العلاقات.

العلاقات التركية الاسرائيلية
العلاقات التركية الاسرائيلية

ومن الزاوية الإسرائيلية، قد وضعت تل أبيب العلاقة مع أنقرة في سياق نظرية مؤسسها، بن غوريون، عن العلاقة مع الحزام الإسلامي، أو الجيوبولتيكي، المحيط بالعالم العربي، ومقصود طبعاً علاقات استراتيجية مع إيران وإثيوبيا وتركيا.
طوال نصف قرن تقريباً، بقيت العلاقات مع تركيا عادية جدّاً، وحتى من دون سفراء، بينما نجحت إسرائيل في نسج علاقات استراتيجية مع إيران وإثيوبيا، إلى أن انهارت في نهاية السبعينيات، وبشكل متزامن تقريباً، مع الثورة الإيرانية وسقوط الإمبراطور هيلاسيلاسي في الحبشة.
مع ذلك، وفي ظل القطيعة العربية الإسلامية مع الدولة العبرية، ظلت العلاقات مع تركيا باردة، إلى أن انطلقت مسيرة مدريد وأوسلو، والحديث عن نهاية (أو حل) الصراع العربي الإسرائيلي مع إسرائيل، فدخلت العلاقات في مرحلة جديدة، خصوصاً مع رغبة أنقرة في الضغط على سورية حافظ الأسد، لوقف دعمه حزب العمال الكردستاني، أو لعبه بالورقة الكردية بشكل عام. واستمر الدفء في العلاقات عشر سنوات، وانتهى مع حادثة مرمرة في عام 2010، ودخول العلاقات الرسمية في مرحلة الجمود، بعدما تم وقف التحالف، أو التعاون الاستراتيجي، قبل ذلك بعام ونصف. وعلى الرغم من القطيعة، أو الخلاف الحاد، لم يتحدث أحد في الدولتين عن قطع نهائي للعلاقات أو إغلاق السفارات، وإنما طرحت كل دولة رؤيتها، أو شروطها، للتطبيع أو إعادة العلاقات إلى مستوى عادي ومقبول.
أصرت أنقرة، دائماً، على شروطها الثلاثة المعروفة، الاعتذار والتعويض ورفع الحصار عن غزة، بينما رفضت تل أبيب، أو تمنّعت، وحاولت تخفيض سقف الشروط التركي مع التأكيد، من جهتها، على أهمية العلاقات، أقله من وجهة نظر المؤسسة الأمنية، والتي أيّدت الاعتذار والتعويض والتفاوض على شرط رفع الحصار، بينما رفض وزير الخارجية آنذاك، أفيغدور ليبرمان، صاحب نظرية منتصب القامة الاعتذار، كونه مهيناً ويمس الكرامة حسب تعبيره، وانحاز رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، إلى وجهة نظره، ولم يمتلك الشجاعة السياسية، وحتى الإرادة، لمواجهة وزير خارجيته المندفع المنفلت والأكثر تطرّفاً.
ظلّت إسرائيل تقدّم رجلاً، وتؤخر أخرى، إلى أن قدّم نتنياهو الاعتذار في مارس/آذار من عام 2013، بعد تدخل مباشر من الرئيس الأميركي، باراك أوباما، وغضّ طرف من ليبرمان، ضمن سياق سعيه إلى التقرب من الإدارة الأميركية وأوروبا، بعدما أغلقت الأبواب في وجهه، وتحول إلى ضيف غير مرغوب فيه، بينما بات إيهود باراك بمثابة وزير الخارجية الفعلي لدى البيت الأبيض، وبروكسل أيضاً.
تبدلت الأمور إسرائيلياً مع تشكيل الحكومة الحالية، وكان من أولى المهام التي قام بها مديرعام  “الطفرة الأهم في العلاقات حصلت بعد اتفاق أوسلو والانفتاح العربي الإسلامي على إسرائيل” وزارة الخارجية، دوري غولد، صديق نتنياهو ومستشاره، لقاء نظيره التركي، فريون سيزلى أوغلو، في روما يونيو/حزيران الماضي، للتعبير عن الانفتاح على تطبيع العلاقات، بما في ذلك شرط رفع الحصار، علي اعتبار أن الشرطين الأوّلين مفهومان ضمناً مع نقاش على تفاصيل التعويض وآلياته، وتزامن عودة السفراء، وإيقاف مقاضاة المسؤولين الإسرائيليين.
إذن، كانت إسرائيل منفتحة على فكرة رفع الحصار في الصيف، ضمن سياق تهدئة غير مباشرة مع حركة حماس برعاية أممية، إلا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو، تراجع كعادته، في اللحظات الأخيرة، بحجة عدم إعطاء شرعية دولية لحماس بشكل أساسي، كما لرفض النظام المصري والسلطة في رام الله أي اتفاق تهدئة مع حماس، حتى لو تضمن رفع الحصار.
وبدا أن الأمور عادت إلى نقطة الصفر، أو البدايات، خصوصاً مع تصعيد تل أبيب المفاجئ ضد أنقرة في موضوع اللاجئين، واتهامها بتعمّد إغراق أوروبا بهم. كما باستيعابها وحتى ترحيبها بالتدخل (أو الاحتلال) الروسي لسورية، والتوصل إلى معادلة تنسيق ملائمة معها، وبلا أي أثمان. وبالتالي، انتفاء الحاجة إلى تلبية شروط أنقرة فلسطينياً وسورياً.
توتر العلاقات بين أنقرة وموسكو على خلفية إسقاط الطائرة الروسية، ورغبة أنقرة في تنويع مصادر الطاقة لديها، واتضاح فشل موسكو في حسم الأمور لصالحها، بل وتزايد العلامات على غرقها في الوحل السوري، وحاجة نتنياهو إلى زبائن جدد لتسويق الغاز، بعد قتاله المرير لتمرير خطة الغاز لخدمة لمصالحه ومصالح حلفائه، معطوفاً على ضعف النظام المصري، وانفتاح إسرائيل، مرة أخرى، على فكرة رفع الحصار أو تخفيفه، أدت، مجتمعة، إلى إعادة الزخم، واستئناف حوارات التطبيع، مع الانتهاء تقريباً من الشرطين الأولين، والانكباب والعمل على حلول وسط مقبولة ومرضية، فيما يتعلق بشرط رفع الحصار عن غزة.

فلسطين وحصار غزة
لتكوين صورة دقيقة واضحة عن طبيعة الحوارات والنقاشات الجارية، لا بد من التركيز على أهم (وليس كل) ما قيل من الجانبين، فرئيس الوزراء التركي، أحمد داود أوغلو، مثلاً، قال، في 22 ديسمبر/كانون أول الماضي، أمام كتلة حزبه البرلمانية، إن القضية الفلسطينية بتجلياتها “تعيش في أحلامنا، فكيف ننساها في المفاوضات”، وكان نائبه، نعمان قورطلموش، قد نصح بعدم الأخذ بالتسريبات الإسرائيلية الموجهة إلى الرأي العام الداخلي، ومؤكداً أيضاً على تحقيق تقدم في المفاوضات التي ما زالت مستمرة، على مستوى الخبراء، وسيتدخل السياسيون للحسم في اللحظات الأخيرة، أو عندما تقتضي الحاجة.
وكان لافتاً ما نقلته وكالة رويترز، يوم 18 ديسمبر، عن مصادر تركية مطلعة، قوله إن مفاوضات الغاز تجري أصلا من القطاع الخاص، وقطعت شوطاً مهما منذ فترة، وتنتظر فقط الغطاء، أو التطبيع السياسي بين البلدين، لوضع اللمسات الأخيرة على الاتفاقية، أو التفاهمات النهائية. وقال المتحدث باسم الحكومة التركية، إبراهيم قالن، في 28 ديسمبر، إنه لا تطبيع من دون تنفيذ إسرائيل الشروط التركية الثلاثة، ورفع الحصار عن قطاع غزة وتخفيفه، والسماح بوصول المساعدات الإنسانية إلى القطاع. ونقلت الصحف التركية عن الرئيس أردوغان قوله، يوم 2 يناير/كانون ثاني الجاري، إن الأحوال في قطاع غزة سيئة، والناس يعانون من انهيار البنى التحتية، ولتركيا أفكار فيما يتعلق بحل تلك المشكلات، وتلقت موافقة مبدئية على نقل البضائع إلى غزة من خلالها، لكنها لن تتعاطى مع أي شيء باهتمام، وعلى محمل الجد، إلا إذا تلقت نصاً مكتوباً.
إسرائيلياً، وبينما ذكرت صحيفة هآرتس (18 ديسمبر) أن قضية رفع الحصار عن قطاع غزة العقبة الأهم بين الجانبين. ونقلت الإذاعة الإسرائيلية عن مصادر رسمية، في اليوم نفسه، قولها إن تل أبيب ليست بصدد استعادة التحالف، وإنما ترتيب العلاقات فقط بين البلدين، وقد وصفها الجنرال المسؤول في وزارة الدفاع، عاموس جلعاد (25 ديسمبر) بأنها معقولة اقتصادياً، محيت أمنياً محيت.
جاء التوضيح الإسرائيلي الأهم من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أمام كتلة الليكود البرلمانية “احتمال كبير للتوصل إلى تفاهم، يشمل تخفيفاً وتحسيناً جدياً وملحوظاً للأوضاع في قطاع غزة، فيما يتعلق بالبنى التحتية وحرية حركة البضائع، من القطاع وإليه” في 21 ديسمبر، وأكد فيه أن المطلب الإسرائيلي يركّز على الأمن، وضمان عدم تخطيط حركة حماس أي عمليات ضد إسرائيل في تركيا، موسّعاً الدائرة لكي لا تشمل الشيخ صالح العاروري فقط، وإنما محرري صفقة تبادل الأسرى مع المجند جلعاد شاليط المبعدين إلى تركيا. ومشيراً، في السياق أيضاً، إلى المطلب التركي الدائم رفع الحصار عن غزة، ومطالبتها بتنفيذ مشاريع لتحسين البنى التحتية المنهارة فيها، ومؤكداً أن ما يجري الآن من حوارات ليس مفاجئاً أو جديداً، كون تل أبيب تجري حوارات مع أنقرة كل بضعة شهور. وانتهى إلى أن حكومته ترفض رفع الحصار البحري عن غزة. وبدا غريباً أن يتطرق نتنياهو إلى الحديث عن الحصار البحري تحديداً، وهل يأتي ذلك في سياق أن لا حصار آخر، أو أن لا مانع من تخفيف الحصار البحري، مثلاً، مع التمسك بمواصلة الحصار البري.
طرحت تل أبيب، كعادتها، البعد الأمني لموازنة سقف المطلب التركي فيما يتعلق بالحصار والتعويض، أو تخفيضه، ولكن ما من قضية هنا، كون أنقرة أبلغت حماس، منذ زمن، أنها مرحب بها وبقيادتها، من أجل نشاطات سياسية وإعلامية، وهى نصحتها علناً، على لسان وزير خارجيتها السابق، شاويش أوغلو، في سبتمبر/أيلول الماضي، بتبني الأساليب السياسية والديبلوماسية لحل الصراع، مع دعمها حل الدولتين وحق حركة حماس في اتخاذ ما تراه مناسباً لها من سياسات. وفي كل الأحوال، غادر الشيخ صالح العاروري إسطنبول قبل أربعة أشهر، وبات الأسرى المحررون في صفقة شاليت مواطنين أتراكاً، بعد منحهم الجنسية، فتسري عليهم القوانين والسياسات التركية الرسمية المتبعة.
عموماً، تصر تركيا على رفع إسرائيل الحصار عن قطاع غزة، أو تخفيفه جدياً، ولن يكون تطبيع معها من دون ذلك. وحسب مصادر تركية وفلسطينية مطلعة ووثيقة الصلة، ثمة نقاشات حول حل مشكلة الكهرباء والبنى التحتية المنهارة، بما في ذلك تسريع إعادة إعمار ما دمرته الحرب، بل الحروب الثلاث السابقة.
يجري الحديث، مثلاً، عن سفينة تركية لتوليد الكهرباء، وهي فكرة رفضتها تل أبيب سابقاً، والعمل منصب الآن علي التفاصيل والضمانات، كما يجري النقاش حول خط دائم، أو موسمي، لنقل البضائع والمواد الضرورية لإعادة الإعمار من تركيا إلى غزة مباشرة، بضمانة ورقابة تركيتين. وبذلك، يكاد يكون رفع الحصار عن قطاع غزة، في ما يتعلق بحرية البضائع، مفروغاً منه، مع حوار بشأن تحسين حرية الحركة للمواطنين، ومن هنا، يدخل العامل المصري إلى الصورة.
تفهم تل أبيب أن النظام المصري في حالة تراجع، وحتى انهيار، وأنه ليس في وضع يسمح له بالفيتو على رفع الحصار أو تخفيفه، وربما يتم إقناعه بتحسين أو زيادة أوقات فتح معبر رفح، أو حتي بتلقف المبادرة الفلسطينية لفتح المعبر. وعموماً، سيكون النظام المصري طرفاً غير مباشر في اتفاق التطبيع، للحفاظ على صورته، ودوره ومصالحه، وربما للتخفيف من الوهج أو الحضور التركي، بعد رفع الحصار في غزة، والملف الفلسطيني بشكل عام.
.. تصر ّأنقرة وتفهم تل أبيب أنه لا يمكن، لعوامل نفسية وسياسية، التوصل إلى التطبيع الذي بات حاجة مشتركة للجانبين، من دون مقاربة جدية وفعالة لقضية حصار قطاع غزة، مع أفكار خلاقة عن احتمال مشاركة أطراف أخرى في التفاهم، وبالتالي، نحن أمام احتمال كبير للتوصل إلى تفاهم، يشمل تخفيفاً وتحسيناً جدياً وملحوظاً للأوضاع في قطاع غزة، فيما يتعلق بالبنى التحتية وحرية حركة البضائع، من القطاع وإليه، مع انفتاح على أفكار خلاّقة أخرى، خصوصاً فيما يتعلق بحرية حركة المواطنين من غزة وإليها براً أو بحراً.

(العربي الجديد)

السابق
سيناريو ما بعد « ترئيس عون »…
التالي
إليسا تعليقًا على ترشيح جعجع لعون: سأغني في حارة حريك!