التشنيع بالشيعة العرب بجريرة إيران

لا ريب أن العمل على بناء تصور نظري أو فكري واضح، حول طبيعة العلاقة بين الشيعة العرب وجمهورية إيران الإسلامية، من الموضوعات الحساسة، لا عتبارات عديدة، لعل من أبرزها أن طبيعة الاصطفافات الطائفية الحادة اليوم في المنطقة، لا تقبل بأية لغة وسطية، معتدلة، وكل طرف يريدك أن تعبر عن قناعته الفكرية والسياسية بكاملها، وبدون أية نقيصة.

وبالذات في الموضوعات والقضايا، التي تثير بطبعها الكثير من النقاشات والحوارات والسجالات.

ومن المؤكد أن الاقتراب الموضوعي من طبيعة العلاقة المتصورة بين الشيعة العرب في كل دولهم العربية وجمهورية إيران الإسلامية، قد يثير الكثير من السجالات. ولكننا في ذات الوقت نعتقد أن هذا الموضوع وأمثاله، يثير الكثير من السجال والنقاش الذي يختزن الكثير من عناصر التوتر، إلا أنه على المستوى الواقعي محدود بحدود المعطيات والحقائق البشرية والسياسية القائمة في المنطقة.

وعلى كل حال نود في هذا المقال أن نعمل على بناء تصور فكري ـ سياسي لطبيعة العلاقة بين إيران والشيعة العرب، مع إدراكنا التام أن ظروف الشيعة العرب ليست واحدة، فهناك وجودات شيعية دولها تعيش حالة العداء والخصومة مع النظام السياسي في إيران، وفي مقابل هذا، هناك وجودات شيعية تعيش دولها علاقة طيبة وإيجابية ومتداخلة سياسيا واقتصاديا مع إيران . لذلك من التعسف المنهجي بناء تصور فكري وسياسي لمجتمعات شيعية لا تعيش أوضاعا سياسية واجتماعية متشابهة أو متداخلة، وبالذات في الموضوع الذي نقترب منه فكريا وسياسيا. ولكننا سنتجاوز هذا الخلل المنهجي والعلمي، بالاتكاء على مجموعة من المبادئ الأساسية التي تنظم طبيعة العلاقة المتصورة بين جمهورية إيران الإسلامية والشيعة العرب بكل تنوعهم وميولاتهم وعدم تشابه ظروفهم السياسية والاجتماعية.

وسنعمل على بناء تصورنا الفكري والسياسي من خلال النقاط التالية:
1ـ من المؤكد أن طائفة مذهبية سواء كانوا شيعة أو غيرهم من الوجودات المذهبية الإسلامية حينما تشعر أنها منقوصة الحقوق ولا يتم التعامل معها مثل بقية المواطنين، لا يعكس هذا الشعور نزعة لا وطنية أو توجها للالتصاق بطرف إقليمي مماثل مذهبيا. وإنما طبيعة الإنصات العميق لمعطيات الواقع، ستحدد بشكل لا لبس فيه طبيعة الصوت الذي يرتفع حول هذه المسألة أو تلك.

وبالتالي من حق أي مواطن بصرف النظر عن دينه أو مذهبه أو قبيلته أو أي شيء آخر، أن يعمل على تحسين وضعه وتطوير أحواله، لأن الإنسان بطبعه يريد أن يعيش دائما في أحوال حسنة على مختلف الصعد والمستويات.

ولكن ما نود أن نقوله في هذا السياق كمحدد من محددات طبيعة العلاقة التي تتجاوز الأوطان والجغرافيا الوطنية، أن طائفة أو أية مجموعة بشرية، تعيش منقوصة الحقوق خير من أن تعيش بلا وطن.

فالوطن كمفهوم وحقائق ومسار ومسيرة، هو حجر الزاوية لكل المجموعات البشرية سواء اتحدت وتشابهت في دوائر الانتماء أو تباينت واختلفت في دوائر الانتماء..
ولا يمكن لأي عاقل أن يضحي بوطنه من أجل الآخرين.

لهذا فإننا نقول وبضرس قاطع: إن الشيعة العرب في كل دولهم الوطنية، لا يروا أن هناك بديلا عن أوطانهم، ولا يتصورون أن يعملوا على تخريب مدنهم ومجتمعاتهم من أجل مدن أخرى أو مجتمعات أخرى، حتى ولو كانت مماثلة لهم في الانتماء المذهبي.

والمعادلة الفكرية والسياسية التي تحكم أغلب النخب الدينية والفكرية والسياسية للشيعة العرب تعتقد وبعمق وبدون مزايدة على أحد، أنهم يتحملون أن يعيشوا في أوطانهم بحقوق منقوصة، ولكنهم لا يتحملون ولو للحظة أن يعيشوا بلا وطن.

يتطلعون أن يحسنوا أوضاعهم المختلفة في ظل أوطانهم، ولا يبحثون عن حلول لأوضاعهم بالتضحية بأوطانهم.

فالوطن في التفكير الديني والسياسي للشيعة العرب، هو من ثوابتهم ومقدساتهم، ولقد ضحوا من أجله بالغالي والنفيس، وعلى استعداد تام للتضحية في سبيل عزة وطنهم وصيانة كرامته. وحتى أكون صريحا في هذا السياق، فإن الشيعة العرب ينظرون إلى أوطانهم هذه النظرة، بمعزل عن طبيعة النظام السياسي الذي يحكمهم ويسيّر شؤونهم المختلفة. فالوطن من الحقائق المتعالية، والتي لا يمكن حبسها أو التعامل معها بوصفها هي المرادف للدولة أو السلطة.
فالجبلة الإنسانية مجبولة على عشق وحماية وطن الإنسان بصرف النظر عن طبيعة أوضاعهم السياسية والاجتماعية الأخرى.

والجميع في هذا السياق يتذكر أن الشيعة العرب في العراق عانوا الويلات من نظام صدام حسين، إلا أنه حينما قامت الحرب العراقية ـ الإيرانية فإن غالبية الشيعة في العراق دافعوا عن وطنهم وقدموا آلاف الضحايا في سبيل ذلك. فلم يمنعهم طبيعة الرؤية أو الموقف من نظام صدام حسين من الدفاع عن وطنهم العراق..

2ـ دولة إيران كأي دولة في هذه الدنيا، تعتز بمشروعها وتعمل على تعميمه وبناء نفوذها السياسي والثقافي والاقتصادي خارج حدودها، وكل المكاسب الذاتية والموضوعية التي تقوم بصنعها، هي لصالح شعبها، كما أن أخطاءها وكبواتها ستعاني من تأثيراته ومتوالياته شرائح المجتمع الإيراني.

ولو تأملنا عميقا في لحظات التجلي السياسي في تاريخ إيران السياسي . فنجد أن أبرز لحظات التجلي حينما يتحد المذهبي مع القومي في الدولة وصناعة القرار السياسي. هذا ما حدث في ثورة الدستور في بداية القرن الماضي، كما حدث في ثورة مصدق في الخمسينات وهو ذاته ما تكرر بزخم أقوى وأوسع في الثورة الشعبية في عام 1979م .

لذلك فإن نمط التفكير السياسي الإيراني، يتعامل في انتماء أكثريته للمذهب الشيعي بوصفه أحد عناصر الوحدة الداخلية وصانع الهوية الوطنية في أبعادها الإيديولوجية والثقافية.

ولكن تكامل المذهبي مع القومي في التجربة السياسية الإيرانية يخص إيران وحدها، ولا يمكن لاختلاف الظروف والأحوال والسياقات التاريخية والثقافية من تكرار التجربة في منطقة أخرى من العالم الإسلامي. حتى نظرية ولاية الفقيه المطبقة في إيران، ستجد في العالم العربي من يؤمن بها فقهيا، ولكنه لا يوجد أحد على حد علمي من يعمل على تنفيذها في فضائه الوطني.

وأمامنا تجربة الشيعة في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين. فكل الطروحات السياسية التي قدمت من النخب السياسية الشيعية هو بناء دولة اتحادية، تعددية، ديمقراطية، ولم تقدم أية أطروحة سياسية حول ولاية الفقيه في العراق. حتى المرجعيات الدينية في العراق، وعلى رأسهم السيد السيستاني، بثقله الديني دعم وساند بناء نظام سياسي، ديمقراطي. ولم يقترب أي فصيل شيعي عراقي من مشروعات بناء دولة شيعية في العراق.

ونحن هنا لا تتحدث عن بلد طرفي في المعادلة الشيعية، وإنما عن بلد مركزي، ويحتضن حوزة علمية ذات عمق تاريخي. ومع ذلك لم يتحدث أحد عن تكرار التجربة الإيرانية.

وعلى كل حال ما نود أن نقوله في هذا السياق: أن إيران كأي دولة في العالم، تبحث عن عناصر قوتها وبناء نفوذها خارج حدودها. ونحن هنا نستطيع القول: إن غالبية النخب الدينية والفكرية والسياسية في المجتمعات الشيعية العربية، ضد أو ليست مع أية علاقة عضوية بالمعنى السياسي أو الأمني مع جمهورية إيران الإسلامية .

اقرأ أيضًا: «إعلان مضايا» الشيعي: ليس بإسمنا يا حزب الله

والعلاقات الدينية والثقافية مع إيران، لا تعكس أية رغبة لبناء علاقات عضوية معها .

وبصراحة تامة فإن غالبية النخب الشيعية العربية، تعتقد وبعمق أن أية علاقة عضوية مع أي طرف خارج حدود أوطانهم، هو في المحصلة النهائية مضر لهم راهنا ومستقبلا. وإن الشيعة العرب لا يتحملون أية مسؤولية، تجاه نزعة إيران في التوسع وبناء النفوذ.

وخلاصة القول: إن جمهورية إيران الإسلامية، من الحقائق البشرية والسياسية الموجودة في المنطقة، ولها مشروعها السياسي الخاص بها، كما أن الشيعة العرب في كل مجتمعاتهم ودولهم من الحقائق البشرية والثقافية والسياسية الموجودة، ولا يمكن لأي عاقل أن يضحي بوجوده من أجل وجود الآخرين .

وإن تصويب العلاقة بين شركاء الوطن الواحد، عبر مشروع للاندماج الوطني، بحيث يشعر الجميع بالمساواة والعدالة، هو السبيل الذي يحاصر النفوذ السياسي الإيراني. وعليه فإنه كلما ازداد اندماج الشيعة في أوطانهم، تضاءلت فرص التأثير والنفوذ الإيراني أو غيره. وإن الأكثرية الإسلامية التي يعيش معها الشيعة العرب، تتحمل مسؤولية أساسية في هذا السياق. فهي معنية قبل غيرها بالانفتاح على الواقع الشيعي العربي، ومحاصرة كل نزعات التطرف والنبذ التي يعاني منها بعض الشيعة العرب . كما أنه لا يجوز وطنيا وأخلاقيا وإنسانيا، جعل ملايين البشر في دائرة ومربع الاتهام لا لشيء إلا لمماثلتهم المذهبية مع إيران.

فإذا كان التماثل المذهبي هو العيب، فهذا يطال الجميع. فالجميع على المستوى الوطني، له ما يماثله مذهبيا. أما إذا كان المعيار هو رفض الخضوع لأية أجندة أجنبية. فتعالوا جميعا نحمي أوطاننا بتعزيز وحدته الوطنية، القائمة على حق الاختلاف والتعدد. فكل أوطان الدنيا تحتضن تنوعا وتعددا، ومع ذلك حافظت على وحدتها وصانت جبهتها الداخلية.

وما نود أن نقوله في هذا السياق، هو تبعا لتباين الخيارات أو المصالح، من حق أية دولة أن تتخذ ما تشاء من مواقف تجاه سياسات وخيارات إيران. ولكن نتطلع إلى تجنيب المذهب الشيعي لأنه ليس خاصا بإيران أي جدل أو صراع معها. ولعل من أبرز الإشكاليات والتي تثير الكثير من التوترات المذهبية والطائفية هو حالة الربط بين إيران والمذهب الشيعي، وكأن المذهب الشيعي من مختصات إيران، وبالتالي يتم التشنيع على المذهب الشيعي في سياق التشنيع على إيران، مما يفضي إلى المزيد من الإرباك والتوترات .

كما نتطلع أن تسود العلاقة الإيجابية بين المسلمين بكل دولهم وشعوبهم، وإن طبيعة العلاقة التي ينسجها الشيعة العرب مع من يماثلهم مذهبيا، هي ذاتها العلاقة التي ينسجها أهل السنة مع من يماثلهم في الانتماء المذهبي. وهي علاقة ذات طابع ديني وثقافي واجتماعي .

(العربية)

السابق
لبنانان لا لبنان واحدا.. في كل مناسبة
التالي
حدود الدور الإيراني