البحث عن سياسة الأمل

طوال أكثر من أربعين عامًا مضت افتقرت النخب السياسية الحاكمة والمعارضة لرؤى كلية وشاملة للتنمية ونموذجها الذى يحوز على رضا قطاعات اجتماعية واسعة تؤيد هذا المشروع وسياساته وأهدافه ومآلاته. ومن الشيق ملاحظة أن مصر فى المرحلة الناصرية كانت لديها رؤية ونموذج للتنمية قائم على رأسمالية الدولة الاحتكارية، وهدفه تسريع عمليات تطور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للقطاعات الاجتماعية العريضة، فى ظل سياسة التأميمات والإصلاح الزراعى وتطوير السياسات الاجتماعية فى التعليم واتساع قاعدته ومجانيته، وفى التأمينات الاجتماعية والصحية، وفى تقديم الثقافة إلى أوسع الفئات من أبناء المصريين. قل ما شئت من انتقادات للناصرية وناصر فى مجال الحريات، وفى البيروقراطية وتمددها، ولكن كانت هناك رؤية تستند إلى مفهوم الاستقلال الوطنى وعدم الانحياز ودعم حركات التحرر الوطنى فى الإقليم العربى، وفى إطار حركة القارات الثلاث.
كان هناك اعتماد على نخبة تكنوقراطية، ومثقفين تشكلت فى إطار المرحلة شبه الليبرالية وتميز عمليات تكوين النخب فى التعليم الوطنى، أو أبناء البعثات إلى أوروبا –فرنسا وبريطانيا أساسًا- والمجتمع السياسى شبه المفتوح، والتعدد الدينى والمذهبى والثقافى فى إطار نموذج للتفاعلات السوسيو- ثقافية حول المدن الحديثة فى إطار كوزموبولتيانى حول القاهرة والإسكندرية والمنصورة.. إلخ. هؤلاء هم الذين قادوا المشروع الناصرى فى أكثر مكوناته تطورًا لإيمانهم برؤية الناصرية الاجتماعية والاستقلالية، وبمفاهيم التقدم والتحديث والحداثة.

لعب المثقفون المصريون وإبداعهم الفكرى والإبداعى دورًا محوريًّا رغم اختلاف بعضهم مع الناصرية لأسباب أيديولوجية ولرفض طبيعة النظام التسلطى وخطاباته السياسية التعبوية وانتهاكاته للحقوق والحريات الأساسية. إن هذه الرؤية لاقت تأييدًا كبيرًا من الفئات الوسطى والعمال والفلاحين، والسبب الرئيسى هو سياسة الأمل، وأن مجمل المشروع التنموى الاجتماعى يجد فيه غالبية المصريين مرادهم. التأييد الكبير للمشروع جاء تعبيرًا عن اقتناع هذه الفئات الاجتماعية العريضة، بأن هذا المشروع يلبى أمنياتهم ورجاءهم وآمالهم. هذا المشروع تعرض لأسباب موضوعية وتاريخية وأخطاء فادحة إلى هزيمة كبرى، فى أعقاب يونيو 1967، وانتكس المشروع نسبيًّا كنتيجة للتعبئة القومية المصرية لاسترداد الأراضى العربية المحتلة وبينها أراضينا فى سيناء، وإزالة آثار العدوان وهو ما أحدث تغييرًا كبيرًا فى المشروع التنموى.

كان المشروع يعتمد على فهم الواقع التاريخى للتخلف والمشروع التنموى الملائم لإحداث تغييرات وتحولات اجتماعية واسعة حول مفهوم العدالة الاجتماعية. كان المشروع مفتوحًا على معرفة النماذج والتجارب التنموية فى دول القارات الثلاث. قل ما شئت من انتقادات حول الناصرية، لكن مشروعها اعتمد على سياسة الأمل؟ والسؤال ما سياسة الأمل؟ هى مجموعة السياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التى تعبر عن أهداف قطاعات اجتماعية غالبة، تقتنع بالمشروع وترى فيه آمالها ومستقبلها الاجتماعى، وللدولة والنخبة السياسية الحاكمة التى تتبنى سياسة الأمل، التى تؤسس على أهداف وتحديات هيكلية محددة وحزمة سياسات لمواجهتها وتحقيقها، وذلك على أسس واقعية، وليس بناءً على سياسة للإيهام والكذب وترويج لأوهام تعكسها سياسات الحكم ومؤسساته. تراجعت سياسة الأمل وغامت فى ظل النظام الساداتى وسياسة الانفتاح- سداح مداح -كما سماها أحد بهاء الدين آنذاك- التى فتحت الأبواب أمام المضاربات المالية والعقارية، والضغط لبيع القطاع العام وهى سياسات لم تهتم بإشاعة الأمل وإنما الأوهام الخاصة بالثراء السريع، والقيم غير المنتجة، ونهب المال العام والفساد الإدارى والسياسى، وغابت سياسة الأمل كنتاج لطبيعة خطاب الالتواء وترويج الأوهام لدى الرئيس السادات، وغالب حكوماته. بدى للغالبية من المصريين أن النظام أدار ظهره لأمانى ورجاء الغالبية الاجتماعية، من هنا تساقطت قاعدة التأييد تدريجيًّا لا سيما فى أعقاب حرب أكتوبر 1973، والتأييد الشعبى للسادات، وكان من أبرز عناصر التفكيكات للدولة وللتكامل القومى المصرى، وذلك بالمصالحات التى أجراها مع الإخوان المسلمين، والجماعات الإسلامية واستخدام الأزهر، والإخوان فى الهجوم على القوى اليسارية والقومية والليبرالية بدعاوى مكافحة الإلحاد، وهى دعاوى أيديولوجية لا يساندها الواقع الموضوعى. والأخطر تأييد نمط التحالفات الإقليمية صوب الدول النفطية، وتأثيرها على بعض مسارات التطور الاجتماعى الداخلى فى مصر، من ناحية أخرى الوقوع فى غواية التنمية الرأسمالية على النمط الغربى، وبدء تفكيك القطاع العام والترويح لقيم الفهلوة وانتهاز الفرص السانحة، والالتفاف على قانون الدولة الحديث.

 

غابت سياسة الأمل فى مرحلة حكم مبارك طوال أكثر من ثلاثين عامًا، وتراجعت شعبيته وقاعدة تأييده الاجتماعية والجيلية لسياسة الإقصاء للكفاءات الجيلية الشابة لصالح الموالين للحكم وأجهزته الأمنية ونظائرها، فى إطار حزب وطنى يحتكر المواقع البرلمانية مع إعطاء بعض الأحزاب الشكلية بعض المقاعد فى البرلمان فى ظل سياسة تزوير الاستفتاءات والانتخابات العامة، وانتشر الفساد الهيكلى للنظام، وفى الوظيفة العامة، ومؤسسات الدولة، وتراجع مبدأ سيادة القانون، وإرادة لمواجهة الفساد بكل أشكاله. أن نهب بعض رجال الأعمال لرأس المال المصرفى ولمشروعات القطاع العام التى تم  خصخصتها، وأراضى الدولة التى تم الاستيلاء عليها بأثمان بخسة.

ترتب على غياب رؤية خارج سياسة الخصخصة والفساد، غياب آمال الفئات الاجتماعية العريضة فى السياسات الاقتصادية والاجتماعية، فى ظل تدهور نظام التعليم وسياساته ومناهجه فى كل مراحله، وانخفاض كفاءة خريجى التعليم الرسمى والخاص وعدم ملاءمتهم لسوق العمل. من ناحية أخرى انهار النظامان الصحى، والتأمينات الاجتماعية، وتحولت السياسة الثقافية إلى الاستعراضات فى العاصمة دون تقديم الحق فى الثقافة إلى مواطنى الدولة.

 

هذه الأسباب وغيرها ساعدت على تزايد معدلات الغضب الاجتماعى والسياسى من النظام وسياساته وبعض رموزه الفاسدة. غابت أيضا سياسة الأمل، وتآكلت قاعدة تأييده الاجتماعية، ومن ثم كانت ضمن عوامل أخرى أحد محركات الانتفاضة الثورية فى 25 يناير 2011. وعنوان المقال الحالى كان عنوان مقدمة كتاب صدر بالعربية والفرنسية حول الاحتجاجات الاجتماعية والثورات المدنية وقبلها كان عنوان مقال بجريدة الشروق أثناء أيام الانتفاضة الثورية فى 25 يناير 2011.

 

وفى ظل مراحل الانتقال السياسى الثلاث كان الهدف هو تحقيق الأمن، ورفض ممارسات جماعة الإخوان المسلمين والسلفيين، وضرورة استعادة الدولة حيوية هياكلها، وهيبتها، الآن هذا الهدف عارض ويرتبط بعدم الاستقرار السياسى والأمنى، ولا يشكل سياسة للأمل تستجيب لآمال وأمنيات وأهداف ومصالح كتل اجتماعية عريضة فى تطور نمط حياتهم، والارتقاء بقدراتهم، وحل مشكلات البطالة والتضخم والتعليم والصحة والثقافة والإعلام وغيرها من المشكلات الاقتصادية الهيكلية، واعتلالات النظام الاجتماعى، وشكل النظام السياسى، وسياسات التحول الديمقراطى، وتمكين المرأة والشباب سياسيا واقتصادية وثقافيا. بدا أن أولوية الأمن وسياساته هى الأساس الذى تتبناه النخبة السياسية والانتقالية حتى فى ظل الانتهاء من خارطة الطريق بعد انتفاضة 30 يونيو. من هنا يمكن تفسير غياب رؤية لنموذج التنمية المأمول وما هى الأهداف السياسية والاجتماعية المتغياة، والقواعد الاجتماعية العريضة التى يتبنى هذا المشروع أو ذاك مصالحهم وتطلعاتهم الآنية والمستقبلية.

 

من هنا يمكن تفسير نمط من البراجماتية البيروقراطية فى التعامل مع المشروعات الاقتصادية والتوتر بين رجال الأعمال، وبين سلطات الدولة البيروقراطية. الذرائعية البيروقراطية تعمل دون رؤى خارج سياسة السوق، ودون رؤية سياسية كلية ينتظم حولها حزمة سياسات اجتماعية تستجيب لتطلعات الأجيال الشابة والقاعدة الاجتماعية العريضة التى تعانى من عسر الحياة، وسياسات تؤدى لإفقار هذه الفئات الاجتماعية.
من هنا لا بد من تأسيس رؤية وسياسة للأمل تستحوذ على قاعدة تأييد اجتماعية وسياسية حول نموذج التنمية المرغوب، والإصلاح الديمقراطى المأمول فى إطار مبدأ المواطنة وعدم التمييز بين المواطنين أيا كانت انتماءاتهم الاجتماعية والدينية والمذهبية. إن هذا التوجه لا بد أن يؤسس لتطور ديمقراطى وإصلاحى شامل، وإلا سيتراكم الغضب الجماعى، ويشكل خطرًا على استقرار الدولة والمجتمع معًا، وذلك لأن سياسة الأمل تجدد الشرعية السياسية للحكم وتضفى عليه الحيوية والعزم السياسى، وتدفع لمشاركة قطاعات واسعة فى العمل والانضباط والجدية.
(التحرير)

السابق
اسرار الصحف المحلية الصادرة يوم الثلثاء الواقع في 29 كانون الاول 2015
التالي
… عن زهران علوش ومقتله