هاني فحص: روحانية متسامحة في عصر الكراهية

رغم أسفار العقل والروح والقلب المزمنة المسكون بها هاني فحص، لكنه رابط في الموقع الذي اختاره لنفسه منذ بداية حياته، لم يتكرر شئٌ في حياته كما تكرر انحيازُه للضحايا والمهمشين والمعذبين والثوار.كان صوتُه صدى أوجاع المحرومين، وانحيازُه لقضايا الحرية والعدالة، وللانسان من حيث هو انسان.

 
يبدو أن دراستَنا في حوزة النجف معا، عبر زمنين، والموقعَ الطبقي الفلاحي المشترك بيني وبين هاني فحص، ونمطَ الحساسيات النفسية المتقاربة بيننا، وأحلامَ المهمومين بقضية الحرية والعدالة، والسعيَ من أجل انقاذ النزعة الانسانية في الدين، هو ما جذبني اليه، وجعلني أقرأ في صورته صورتي، وفي أحلامه أحلامي، وفي همومه همومي، وفي أسئلته أسئلتي، وفي بعض معاركه معاركي، وفي كدحه المزمن كدحي. لم تكن الأسئلةُ مقفلةً لديه، ولم تبلغ المفاهيمُ صيغتَها النهائية في وعيه، ولم يتوقف في محطة أخيرة في أسفاره. كانت أسئلتُه مفتوحةً تتوالد منها باستمرار أسئلةٌ جديدة، ومفاهيمُه في صيرورة تخلع عليها كلَّ حين صورة بديلة، وأسفارُه لا تكف عن أن تظل أسفاراً، انه كائن هويتُه ومهنته السفر، فهو لم يسافر ليصلَ، بل يصلُ ليسافرَ، ويسافرُ ليمضيَ على الدوام مسافرا. انه يهرب من السكون كما سكون الصخرة، يهرب من الغياب كما يغيب الموتى، يهرب من القبح والظلام، يعشق الضوء والجمال، نشيدُه (الحب ايمانا، الايمان حبا). رغم تجربته الثرية في المقاومة الفلسطينية، والثورة الاسلامية في ايران، غير اني رأيته ثائراً، مبادئُ ثورته اللاعنف، وداعية دعوته ارساء مرتكزات السلام، وبناء أسس العيش المشترك، واحترام كرامة الكائن البشري، بغض النظر عن أثنيته وديانته ومذهبه وطائفته. يحذّر هاني فحص على الدوام من التفسير العنيف الفاشي للنصوص الدينية، بوصفه لا يمحق جمالَ الدين ورحمته وسلامه فقط؛ بل تتوالد من رحمه موجةُ إلحاد تقوّض الدينَ من داخله. كثيراً ما كان يحذّر هاني فحص من نزعات الثأر والانتقام والفتك، وينبه الى أن بناء الأوطان يتطلب أن نتغلب على جروحنا وذاكرتنا الموجعة، كما تغلب الفيتناميون على جروحهم، وشفوا من ذكرياتها المريعة، بعد أن دفنوا أحقاد وثارات المجازر التي فتكت بهم في قبور ضحاياهم. لكن جروح التسلط والاستبداد والتمييز والالغاء والاضطهاد والعنف النازفة في بلادنا تأخّرَ الشفاءُ منها. لا نشفى منها بالعقل والمعرفة فقط، بل يتطلب الشفاءُ؛ حياةً روحية أصيلة، وضميراً أخلاقياً يقظاً.

 
أدرك هاني فحص ضرورةَ النقد للحياة العقلية، وتأثيرَه الحاسم في ديمومة التفكير، وضرورةَ تجديده. وكيف أنه حين يتوقف النقدُ ينغلق العقل، ويتحجرالتفكير، بل يمسي التفكيرُ ضداً لذاته.كذلك أدرك أنه لن يتغير نمطُ حياتنا، من دون أن تتغيرَ ذهنياتُنا، ورؤيتُنا للعالم، ومفاهيمُ الانسان والفكر والتاريخ في ثقافتنا.

 
كنا معاً في مؤتمرات وندوات في بلدان متعددة، في كل مرة تتعزز قناعتي أن هاني فحص مثالٌ لرجل دين تجتمع في روحه آلامُ الكل، ذلك أني أجده حيثما كان وأنى ذهب يحمل جراحاتِ كربلاء وأوجاعَ المهمشين من الشيعة، حتى يُخيّل إلي لحظةَ أصغي لحديثه عن الشيعة، وكأنه حامل خشبة صلبه من أجلهم، الذي لا تسمع منه إلا صوتَ دموعهم ودماءهم، واستغاثات محروميهم. لم يغادر النجفَ وحوزتها، وأطيافها، مهما نأت به الأيام عنها، ظل نجفيا أكثرَ من النجفيين، ولم يتمكن من الافلات من ماضيه النجفي الذي (لن يمضي) حسب تشديده. أراه رجلَ دين بروحانية تنتمي الى الحاضر، ومدنياً بروحانية رجل دين. إنه تجسيدٌ لروحانية متسامحة تتناغمُ وايقاعِ رهانات العصر.

 

 
لم أسمعه يوما ينشغل بما ينشغل به بعضُ رجال الدين من كلام عن التحريم والتأثيم واللعن والتكفير والتبديع والتفسيق، أو عوالم القبر والبرزخ وما بعد الموت، وتدبيج مشاهد وحكايات تثير الهلع في قلوب الناس، من الكتب المليئة بالاسرائيليات والموضوعات، لكني طالما سمعته لا يكف عن الحديث حول الحياة، وتمجيدِ الدين لقيمتها، ورفضِ تحريم زينة الله التي أخرج لعباده، والطيبات في الدنيا.
بوصفه رجل دين لم يقلقه التفكير الحر، أو يخشى الأسئلة المشاغبة، بل كان مولعاً بتطوير أسئلته الخاصة باستمرار، وظل يحرص على تعميق هذه الأسئلة، ويترقب أن تتوالد الاجابات في سياق نكون فيه مختلفين.

 

 
أما لبنان؛ فكان مسكونا بلبنان الوطن الجامع، شعارُه المزمن: (الوطن نصابنا، الوطنية هويتنا)، وان رصيدَ لبنان وثروته تكمن في تنوعه، وتعدد مكوناته. يتنوع ويتعدد الانتماء في ضمير هاني فحص بتعدد المكونات في لبنان، وبتعدد ما عاصره من ثورات، وما عاشه من بلدان، وما واكبته خطواتُه من هموم وأوجاع الانسان، فلم يمنعه الانتماء لوطنه لبنان من الانتماء للنجف، وفلسطين، وايران، بل الانتماء الى الانسان من حيث هو انسان. تتوحد في ضميره هذه الانتماءات، وكأنها بمثابة قصيدة موسيقية لا تنشد ألحانَها إلا همومُ الانسان.

 
الأديان والمذاهب والطوائف ترسم لانتماء الانسان حدوداً لا يعبرها عادة، وربما تضعه داخل أسوار مغلقة ليس بوسعه الافلات منها، ولدى رجال الدين تصير هذه الأسوار صارمة، لا يتخطاها إلا الأفذاذ، لكن ما لفتني في هاني فحص هو عبور كل الأسوار، فهو عابر للطائفية، والطائفة، بل والديانة، رغم انه مكرس بايمان عميق، ولم يتخلف عن عبادة أو طقس أو شعيرة دينية، يفرضها اعتقادُه الديني، وتعبّدُه الفقهي الشيعي. كلما حسبته بعيدا عن التشيع وعبور طائفته، برهنت مواقفُه وممارساته انه منخرط في كل هموم البؤساء والمحرومين من الشيعة. كان يلفتني هذا الايقاعُ المتناغم في تبنيه لآلام الشيعة وآمالهم، بموازاة آلام وآمال مواطنيهم اللبنانيين من الطوائف والأديان الأخرى، لم أجد لمواقفه تفسيرا سوى انه كان عابرا لكل ما هو طائفي، لكن هاجسَه المزمن همومُ كل الناس. يجد هاني فحص ذاتَه تشترك مع كل الناس، حيثما تحقق مشترك انساني، دائما يعثر على ما هو مشترك، وكأنه لا يرى ما هو خاص، فلا تسجنه أسوار ديماغوجية، ولا تعيقه تصنيفات لاهوتية، ولا تمنعه هويات أثنية، ولا تعطله خرائط جغرافية. انه يسمع صوتَ الله عبر صوت الانسان، ويكتشف سبيلَ الله بوصفه سبيلا يمر عبر الانسان، وتتجلى له رحمة الله برحمة الانسان، ويبصر نور الله بإشراقه في قلب الانسان، ويجد كرم الله من خلال اكرام الانسان، كما أن حب الله في مشاعره يتجسد في حب الانسان. يشتكي لي على الدوام في السنوات الأخيرة قبل رحيله، من أن مجتمعات كما نحن، تمزقها الحروب، وينهكها التسلط والاستبداد، يصبح عبور الطائفية فيها غربة، أما ممارسة التسامح واحترام كرامة الانسان من دون تمييز فأشدّ اغتراباً.

 
حين نلتقي لا يكف عن متابعة ورصد الانتاج الفكري في الحوزة، ويتسائل عن الأعمال الجادة الجسورة، وما يمكن أن تساهم به هذه المؤسسة العريقة من اجتهادات رصينة، تضع التفكيرَ الديني في الاسلام اليوم في سياق يتخطى استهلاكَه في الطقوس المهرجانية، ويعيد الصورة المفتقدة للاسلام، التي انهكها التوحش وشناعات الدم المسفوح، والعدوان على كل ما يرمز للحياة.

 
في كل محطات حياته كانت رسالة هاني تتلخص بإسلام ينشد السلام، ويمجد كرامة الكائن البشري، ويحمي حقوقَه في الحرية والمواطنة والعيش الكريم. كان قلقا من اننا كمن يربي ثعابين، إلاّ أنه يطاردها بعد فرارها من أوكارها. نطارد الانتحاريين، لكنا نهمل المعتقدات والمفاهيم التي سممت أرواحهم، وأفسدت ضمائرهم. مادامت هذه المعتقدات والمفاهيم متفشية في منابرنا ومدارسنا وجامعاتنا وفضائياتنا ووسائل اعلامنا، لن تتوقف ولادة المزيد من الانتحاريين في مجتمعاتنا.

 
أنا بطبيعتي رجل ظلّ، أهرب من الحضور الاعلامي، لا اعرف شاشة التلفزيون، أتمنع من الحضور والتواصل عبر الراديو وغيره، عالمي هو الأوراق والكتب أمس، والأنترنيت والكمبيوتر اليوم، لكن سيد هاني يحتفي باليومي والعابر والهامشي والراهن، يتوهج حضورُه في مختلف وسائل الاعلام المرئية والمسموعة والورقية، لا يتردد في الاستجابة لأية دعوة صادقة، ولا يفكر كثيرا بالبرتوكولات والديكورات والعناوين والألقاب، بل يهبّ مستجيبا للمساهمة في فعاليات وأنشطة منتديات ومؤسسات وندوات وحلقات دراسية ونقاشات مع مختلف الجماعات، التي يرى انها تنشد بناء الأوطان والانسان. كل مرة ألتقيه في العامين الأخيرين قبل رحيله يحدثني جذلا عن مبادرة انسانية يتولاها هو، بمعية فريق من رجال الدين من طوائف أخرى، في جمعية (فرح العطاء)، هدفها التربية على: المحبة والتسامح والاحترام المتبادل، والسعي لانقاذ أطفال العراق، عبر تضميد جراحهم، واغناء أرواحهم، ورسم ابتسامة على وجوههم الحزينة. حماستُه وغيرته على العراق لم ألمسها لدى الكثير من رفاقي السياسيين وغيرهم ببغداد. أحيانا أجده كالسمكة المختنقة، تلتقي في روحه كلُّ أوجاع العراق المريعة في هذا الزمن الأسود. يتمنى ويقترح ويبادر بفتح أية نافذة للنور تفضح ما تختنق به بلادُنا من ظلام. يفتش على الدوام عن كلمات الفرح في زمن يغرق بكلمات البكاء.

 
تأخر وصولي المحطة التي بدأ بها هاني فحص حياته، حين سلك دربا لم يمر بخرائط الدولة الدينية، فقد كنت كما جيلي من المتدينين الشباب في العراق قبل أربعين عاما، مسكونين بفكرة الدولة الدينية، التي كانت تتمثل صورتُها في مخيلتنا بعصا سحرية، وسفينة خلاص تنقذنا من فاشية صدام حسين، وكل ألوان الاضطهاد والتمييز التي كنا ضحاياها، وانها الفردوس الأرضي الذي لا تشبهه دولة في الماضي والحاضر، لا في الشرق ولا في الغرب. أتذكر حين كنت أقرأ كتاب (معالم في الطريق) لسيد قطب، في مطلع السبعينيات، وانا تلميذ في الثانوي، كنت أتقد حماسة، أنفعل وأهيج وأبكي، وأكاد لفرط أشواقي لهذه الدولة المتخيلة أطير في السماء، إذ يخيل الي وأنا أكاد أرقص مع شعارات سيد قطب البارعة في مخاطبة الغرائز، وتأجيج الأحاسيس والعواطف، وكأن كلَّ مشاكلي الشخصية وعائلتي، بل كلُّ مشاكل العالم ستحل، وتنتقل البشرية فجأة لعالم كله رخاء وتضامن وسعادة، لا فقير فيه أو محروم، كما أنا وأهلي. طفقت أفتش عن جماعة دينية تنشد هذه الوعود، واستبدت بي روح رسولية انقاذية، تسعى لتغيير العالم، كي أحل مشاكله كلها، وأنجز له مانفستو خلاصه الأبدي. لم تتمزق أوهامي إلا بعد أكثر من عشر سنوات، بعد أن تكشف لي أن تلك الوعود ليست إلا أحلام أرواح معذبة، تفتش عن عزاء تسكن به، ويهدأ به وجعها. التقيت وسيد هاني في محطتي الثانية، التي بدأتْ قبل أكثر من ثلاثين عاما. بعد أن أدركت وقتئذ أن الدولة ظاهرة وضعية مركبة عميقة ابتكرها الانسان، انها أعمق وأغنى وأهم ظاهرة سياسية اجتماعية اقتصادية ثقافية، أبدعها التفكير والخبرة البشرية، عبر تجارب خطأ تفضي الى الصواب، وهدمٍ يفضي الى البناء، وحروبٍ تفضي الى السلام، وصراعاتٍ تفضي الى الحوار، ونزاعاتٍ تفضي الى التفاهم.

 
قرأ هاني فحص المدونة الفقهية في مدرسة النجف، فأدرك انها لا تتسع للدولة الدينية،كذلك نظر في آراء فقهاء النجف منذ الشيخ محمد حسين النائيني حتى الشيخ محمد مهدي شمس الدين، فاكتشف انهم لم يفكروا بدولة في سياق المدونة الفقهية، ما خلا حالات محدودة.

 
كان المرحوم سيد هاني يسألني عن سبب اخفاق رفاقي الاسلاميين في العراق في بناء الدولة، رغم وفرة موارد بترول العراق وثرائه، كان جوابي هو: يمكننا التعرف على عقل الجماعات الاسلامية ونمط تفكيرهم عبر النظر للأدبيات التي يعتمدون عليها في التربية والتثقيف، ففي هذه الأدبيات لا نعثر على ما يشي بمفهوم واضح للدولة الحديثة، قد ترد اشارات لأمثلة لما قبل الدولة الحديثة، كدولة الخلافة والدولة السلطانية. لم أجد أحدا من رجال السلطة يفهم أن الدولة الحديثة ظاهرة مركبة عميقة واسعة، ذات طبقات وأبعاد مختلفة، تتطلب خبراء من ذوي التكوين الممتاز في مختلف التخصصات، في: الحقوق والقانون، والسياسة، والاقتصاد، والأموال، والتجارة، والتنمية، والادارة، والزراعة، والصناعة.. وغير ذلك من العلوم والمعارف الجديدة.

 
كلما كان فهم المرء محدوداً يحسب نفسه يعرف كل شئ عن كل شئ. لذلك يتحدث ويكتب بعض قادة الجماعات الاسلامية عن قضايا تخصصية مختلفة، لا يفهمها بشكل دقيق، ولا يستطيع أن يعطي الرأي الصائب فيها سوى المختصين في العلوم الانسانية والاسلامية، والتكوين الأكاديمي الرصين، والمعرفة العميقة بالتراث ومسالكه المتنوعة، لكن مثل هؤلاء القادة – وبعضهم من الأطباء والمهندسين والمختصين في العلوم الطبيعية – لا يعبأون بذلك، فتجدهم أحياناً يكتبون ويتحدثون في مختلف التخصصات، ويصدرون الأحكام في الدين والدنيا، بلا دراية وتخصص وخبرة.

 
الفهم المتفشي في أدبيات الاسلاميين للدولة والسلطة مبسط لا يكاد يتخطى السطح، وكأنه فهم من يحسب البحر بعمق سنتمتر واحد. انهم يحسبون أنفسهم يفهمون كل شئ، ويعرفون بكل شئ يتصل بالدولة وشؤونها. من هنا لا يستعينون بالخبراء في بناء الدولة، لعدم شعورهم بالحاجة لهم. ذلك سر فشل الدولة في بلادنا، الدولة اليوم لا يبنيها سوى الخبراء من مختلف التخصصات.
خسارتي برحيل هاني فحص أقسى خساراتي في العقد الأخير من حياتي. لكن حتى لو غادر هو إلى عوالم الملكوت، فإنه لن يغادرني أبداً؛ إذ يمكث دائماً جزءٌ منه فيَّ، مثلما يمكث جزءٌ مني فيه.

 

ندوة حول كتاب: (الشيعة بين الاجتماع والدولة، للسيد هاني فحص). بيروت، معرض بيروت للكتاب 1-12- 2015.

السابق
طقس نهاية الاسبوع ماطر والثلوج على 1800 متر
التالي
بري يلتقي سلام في عين التينة