ميثولوجيا لبنان واسطورة تمايزه الإنسانيّ

امين الياس

منذ بداية القرن العشرين، تواجهت في المشرق العربي، ولا سيما في المنطقة المحيطة بالإمارة اللبنانية هويات ثلاث: اللبنانية، والعربية، والسورية. كثير من الحبر سال حول صراع الهويات هذا. ما سنحاول القيام به في هذا المقال هو استعراض لكيفيّة نظرة بعض المثقفين اللبنانيين، ولا سيّما محاضري الندوة اللبنانية (التي أسسها الاديب ميشال أسمر في العام 1946 – 1984، والتي لعبت دور وزارة الثقافة في لبنان لما يقارب النصف قرن)، إلى الهوية اللبنانية.

اقرأ أيضاً: الدكتور ملحم شاوول: مفهوم المواطنة ارتبط بظهور الحداثة

تشكّل “الميثولوجية اللبنانية” ركنًا أولًا في بنيان الهويَّة اللبنانية بالنسبة للندوة اللبنانية. فلبنان، هذا الكيان الحديث الطريّ بحاجة لأن يجد مبرراته التاريخية والحضارية في الماضي السحيق وذلك رداً على المقولات التي تعتبر لبنان كياناً صنعه الاستعمار. من هنا كانت العودة مع شارل قرم إلى الحضارة الفينيقية، بحيث يكون عمر لبنان خمسين ألف عام. وها هو فؤاد إفرام البستاني يرى في إنسان مغارة أنطلياس، إغبرت (Egbert)، الذي عمره 35 ألف سنة، الإنسان “اللبناني الأول”. فجأة تطير بنا سفينة الميثولوجيا قروناً عدّة لتحطّ في زمن الإمارتين المعنية والشهابية معتبرة أبطالهما، فخر الدين الثاني وبشير الكبير، رموزاً “للقضية اللبنانية” ومؤسِّسين للبنان الحديث ولتوْق اللبناني الدائم إلى الحرية وإلى الاستقلال عن محيطه.

ندوة شؤون جنوبية في صور

ركن ثانٍ: تحديد هوية لبنان مع التشديد على ربطه بالإرث الفينيقي. فلبنان بحسب محاضري الندوة هو هذه القطعة من الشرق المتميّزة عمّا عداها بتضاريسها الجبلية وبموقعها الجغرافي الوسطي ما بين الشمال والجنوب وما بين الشرق والغرب. أكثر من هذا، فإن موقع لبنان وطبيعته الجغرافية جعلتا منه ملجأ تأتي إليه الأقليات الدينية المضطهدة ليصبح أرضاً ليس فقط للحرية بل لأولية الروحانيات على كل ما عداها. وفق هذه المعطيات يصبح لبنان كياناً استثنائياً، إنه “لبناني”، “صنع لبنان”. إنه موجود بذاته. أما الهويات المحيطة، أكانت عربية أم متوسطية أم أوروبية فيمكن لها أن تكون صفات ثانوية.

إنّما، لا تبدو الهوية اللبنانية، بحسب الندوة اللبنانية، منغلقة على ذاتها، بل إن كنهها إنفتاح وتلاق مع الآخر. اللبنانية هي “أنسنة”؛ إنها إنسانية وعالمية – على حدّ قول سليم حيدر – وهذا تماماً ما يمكّنها، منطلقة من جوهرها اللبناني، لاقتبال العروبة والمتوسطية وأوروبا أيضاً.

ركن ثالث: تحديد الكائن اللبناني. ماذا يعني أن تكون لبنانيًّا؟ اللبناني هو وليد زواج جبل لبنان بالبحر المتوسط. إنه العصارة التاريخية لكل الحضارات التي مرّت على لبنان من أيام الفينيقيين إلى اليوم. متمتعاً بروح المغامرة والحرية تراه مستعداً للذهاب إلى أقاصي الأرض بخلاف “عربي الصحراء” الذي يفتقد حسّ الأفق الفسيح مكتفياً بما تقدمه له صحراؤه.

اقرأ أيضاً: هويتنا: خيار طوعيّ حُرّ

بالخلاصة، وعلى أركان ثلاثة، ركَّزت الندوة اللبنانية أسس الهوية اللبنانية: ميثولوجيا لبنانية عمادها الحضارة الفينيقية؛ هوية لبنان متمايزة وإنسانية في آن؛ وكائن لبناني هو وليد تزاوج البحر المتوسط والجبل.

السابق
غشاء بكارة العرب
التالي
ناظر يعتدي على تلميذ ويشج رأسه «بالجرس»