كيان موحّد للمعارضة السورية يولد أخيراً في الرياض

من المتوقّع أن يشهد تمثيل المعارضة السورية تشكيلاً جديداً يكرّسه مؤتمر تستضيفه الرياض، بتكليف من لقاء فيينا لـ «مجموعة الدعم الدولي لسورية». ولعل اللغط والجدل والصراعات والتنافسات والتدخلات، فضلاً عن الأخطاء، التي رافقت المحاولات السابقة لبلورة كيان تمثيلي للمعارضة، جعلت الجانب السعودي يتردد في قبول هذه المهمة. إذ إنه لا يملك تشكيلة مسبقة أو جاهزة يريد تسويقها لكن لديه رؤية مبدئية لمن هم معارضون أو أشباه معارضين، كما أنه لا يريد الاصطدام مع الآخرين أو الدخول في مساومات معهم في شأن خياراتهم وأفضلياتهم، إلا أن الجانبين الاميركي والروسي أصرّا معاً على أن تتولّى السعودية هذه الخطوة، ما يرشحها لأن تكون لاحقاً مرجعية لوفد المعارضة إلى المفاوضات.

 

ما شجّع الرياض أيضاً أن بيان فيينا (14 تشرين الثاني – نوفمبر) انطوى على مجمل العناصر التي يمكن أن تسهّل المهمة. فالمجموعة الدولية عبّرت بوضوح عن استرشادها ببيان «جنيف 1» والقرار الدولي الرقم 2118 الذي يتضمّن نص ذلك البيان ويضفي عليه مزيداً من الشرعية. كما أن المجموعة اتفقت على ضرورة دعوة ممثلي النظام والمعارضة إلى مفاوضات بإشراف الأمم المتحدة «بأسرع وقت ممكن» وحددت لها موعداً مبدئياً هو 1/1/2016. صحيح أن بيان فيينا الأخير استوقف كثيرين ببعض الصياغات التي تبدو كأنها تتصرّف بنص «جنيف 1»، كـ «إقامة هيئة حاكمة ذات صدقية وشاملة الجميع وغير طائفية» وليس «هيئة حكم انتقالي بصلاحيات كاملة»، إلا أن توجه الإرادة الدولية إلى مفاوضات بين وفدين، أحدهما النظام، مثّل للمرّة الأولى اعترافاً دولياً كاملاً (روسياً – إيرانياً أيضاً) بالمعارضة الحقيقية المدعوّة الآن إلى الرياض لتشكيل وفدها، ما يرشّحه لأن يكون القيادة الأولى للمعارضة منذ بدء الصراع السياسي والعسكري في سورية.

اقرأ أيضًا: خالد خوجا لـ«جنوبية»: ضد تفجير الضاحية.. ولا وهم لدينا بسلام قريب

هذه القيادة، التي تكون قد تأخّرت أربعة أعوام ونيّف، ويُفترض أن تولد أخيراً في العاصمة السعودية، تؤكّد ما كان معروفاً، وهو أن المعارضة – الخارجة من مجتمع أمعن نظام الأسد الأب والابن في تهشيمه معنوياً وتجريفه سياسياً وإيذائه أمنياً وحرمانه اقتصادياً – كانت دائماً في حاجة إلى من يساعدها في الانتظام. لا شك في أن أطر «المجلس الوطني» و «الائتلاف» و «الجيش السوري الحرّ» و «التنسيقيات» المحلية كانت وليدة الضرورة، وبالنظر إلى انعدام التجارب السابقة لديها فقد كانت حالاً متقدّمة، وحين توافر لها الدعم اتسم معظمها بالحيوية، وتميّز جانبها العسكري بالجدية والفاعلية حتى أن «الجيش الحرّ» انبعث أخيراً كرقم صعب رغم كل ما عاناه من تجاذبات خارجية وما فرض عليه من قيود اميركية وما يتعرّض له من ضغوط روسية حالياً.

 

كان لا بدّ من أن تأتي هذه اللحظة، إذاً، لحظة التفاوض، رغم صعوبتها، بل رغم ضآلتها بالمقارنة بضخامة التضحيات، ورغم كمٍّ هائل من الظروف المحلية والاقليمية والدولية التي توالت وتراكمت وتضافرت كما لو أن العالم كله، والقدر، حكما بأن شعب سورية غير جدير بالإنصاف، أو كأنه لم يكفِه أن يُبتلى بمثل هذا النظام. ليس في التفاوض انتصار لأي من الطرفين، هذه هي القاعدة في النزاعات الأهلية. لعل النصر في أن تبقى سورية كلها لجميع السوريين. كان نظام بشار الأسد وحليفه الإيراني قد انهزما ولذا استنجدا بروسيا لتعينهما على الاحتفاظ بـ «سورية المفيدة» – «غنيمتهما» المفترضة. وكانت المعارضة قد بذلت/ وبرهنت ما تستطيع، رغم أصدقاء – أعداء أهملوها وشكّكوا فيها وتلاعبوا وعبثوا، ورغم ضخّ «داعش» في مناطقها، ورغم تفريخ فصائل عميلة للنظام أو مهووسة بالدين وسيلة للسيطرة فصارت عبئاً على الثورة لا رافداً لها، حتى لم يعد هناك فارق بين النظام و «داعش» وبعض الفصائل إذ تتغذّى جميعها من استمرار الصراع ولا ترى مصلحة في إنهائه.

 

إذا قُدّر للتفاوض أن يبدأ ويستمر، فلن يكون سوى بداية بطيئة للخروج إلى وضع آخر، غير مسبوقٍ على أي حال، فمنذ خمسين عاماً لم تشهد سورية ندّيةً بين نظام ومعارضة. كانت المعادلة الميدانية التي ارتسمت عشية التدخّل الروسي تفيد بأن النظام يخسر لكن الولايات المتحدة وروسيا وإيران لا تريد انهياره، واسرائيل التي استشعرت نهايته طالب رئيس وزرائها الرئيس الاميركي بالحفاظ على دور للأسد. أي أن كل هذه القوى استعدّت للجم المعارضة ومنعها من متابعة الزحف نحو دمشق، وبمجيء الروس اختلّ ميزان القوى لمصلحة النظام وإنْ لم يمكّنه من استعادة قوته المفقودة والمنهكة. لذلك لم تستبعد موسكو إمكان «الحل السياسي» لأن ضرباتها الجوية وترسانتها الصاروخية لن تفعل أكثر من مضاعفة جرائم غرِق النظام والإيرانيون في دمائها حتى رؤوسهم، أما محاربتها «داعش» كهدف معلن فلا يزال مجرد شعار دعائي.

 

يحاول الأسد والإيرانيون اجتذاب الروس إلى تأجيل أي خطوة سياسية، متذرّعين بكذبتهم الثابتة عن محاربة الإرهاب أولاً. إذ لا مصلحة لهم في أي كلام عن «عملية سياسية» يمكن أن يحرف الدبّ الروسي عن استراتيجية سحق المعارضة، كما رسموها له. لا شك في أن إسقاط الـ «سوخوي 24» وتفجّر العداء الروسي – التركي جاءا في توقيت يخدم الوظيفة التي يتمنّاها الأسد والإيرانيون للدور الروسي، بدليل القصف الهستيري الذي أقدم عليه في كل الأنحاء، باستثناء مناطق «داعش»، غير آبه بتهجير أقلية كالتركمان أو مهتمٍّ بزيادة التعقيدات الميدانية للمسعى السياسي. غير أن هذه التطوّرات يجب ألا تغيّب ضرورة التهيّؤ للتفاوض، كونها تضفي عليه مزيداً من المبررات، وأهمها أن السعي الأسدي – الإيراني إلى إرجاء أو إحباط أي تفاوض بات حافزاً لقبوله والتحضير له بكل ما يتطلّبه من حنكة وجديّة.

 

جاء تكليف السعودية العمل على وفد موحّد للمعارضة بمثابة خط النهاية للسباقات التي جرت منذ بداية هذه السنة بين عدد من الأطراف بغية سلب المعارضة ورقة تمثيلها، عبر تنظيم مؤتمرات وندوات من موسكو إلى استانة (عاصمة كازخستان) إلى القاهرة، وصولاً إلى محاولة دمج مخرجاتها في صيغة يعوّل على سذاجة ستافان دي ميستورا لاعتمادها في وفد معارض معروف مسبقاً أن النظام لعب دوراً محورياً في تشكيله سواء من المعارضين المزعومين العاملين منذ زمن في خدمته أو من موالين له معروفين جداً أو أخيراً من أشخاص استزبنتهم طهران وموّلتهم ليقوموا بأنشطة تروّج لكونهم «معارضين للنظام». استضافت موسكو لقاءين لتكتشف أنها تدور/ أو تُدار في مشروع زائف وملفّق. أما لقاء استانة فلا قيمة له، وأما لقاء القاهرة فقد يفيد في تسهيل مجيء «معارضة الداخل»، تحديداً «هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديموقراطي»، إلى الرياض وتحصين انخراطها في نسيج كيان موحّد للمعارضة يضمّ «الائتلاف» والفصائل العسكرية و «هيئة التنسيق» وعدداً من المستقلّين.

 

من شأن صيغة كهذه أن تزيل اللبس وتتفادى اختراق وفد المعارضة أو «تفخيخه» بأعضاء يمثّلون النظام، وما دام لهذا الأخير وفده فبإمكانه أن يضم من يشاء من «معارضين» يستأنس بآرائهم. ويبقى الأهم أن يكون وفد المعارضة موحّداً في رؤيته لـ «حل سياسي» يحقق انتقالاً سياسياً عبر مرحلة انتقالية تقودها هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات، وليس اندماجاً في «حكومة النظام» ونسيجه، خصوصاً أن أياً من النصوص المرجعية (القرار 2118، بيان جنيف1، خطة فيينا) لا يقترح اندماجاً كهذا. صحيح أن روسيا وإيران تفضّلان استمرار النظام الحالي و «بقاء الأسد» كضمان لمصالحهما في سورية، بل تشاركانه استخدام إرهاب «داعش» نهجاً ابتزازياً لدول «لقاء فيينا» تحقيقاً لهذا الهدف، إلا أن منطق إنهاء الصراع الذي بات يفرض نفسه على مداولات المجموعة الدولية لا ينفك يكشف الأوهام: فبقاء الأسد، «حتى لو وافقت عليه لا يمكن أن ينجح» (وهذه عبارة دقيقة لباراك اوباما)، فهو لا يساعد في القضاء على «داعش»، والأهم أنه وصفة مسبقة لإفساد أي حل سياسي وتخريبه.

(الحياة)

السابق
تركيا ترد على تهديدات بوتين.. بالغاز القطري
التالي
زهرا: فرنجية مرشح طبيعي للرئاسة والبحث جار حول مشروعه السياسي