في أغراض التصعيد الإسرائيلي ضد تركيا

صعّدت إسرائيل لهجتها، الأسبوع الماضي، وبشكل مفاجئ، ضد تركيا، وفي سياق استغلالها جرائم باريس لنفاق فرنسا، وأوروبا بشكل عام، لشيطنة المقاومة الفلسطينية، ولتبييض صفحتها، ووضع نفسها في صلب الحرب العالمية ضد الإرهاب، وصلت إلى حد اتهام أنقرة بتعمّد إغراق أوروبا باللاجئين، لإحداث مشكلات اجتماعية ثقافية أمنية لها. كما نقلت القناة الثانية، في 15 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، عن مصدر حكومي رسمي، زعم أيضاً أن حكومته حذّرت، ومنذ أسابيع، من تحول تركيا إلى ثغرة أمنية جنوب القارة العجوز.
جاء التصعيد المفاجئ بعد شهور فقط على لقاء وكيل وزارة الخارجية الإسرائيلي بنظيره التركي في روما، لمناقشة تحسين العلاقات الثنائية وتطبيعها، كما بعد أسابيع فقط على حديث القائمة بأعمال السفارة الإسرائيلية في أنقرة، وغازلت فيها السلطات التركية، من أجل تجاوز الخلافات، والعمل بشكل مشترك من أجل الاستقرار والسلام والأمن في سورية، والمنطقة بشكل عام.
ما الذي تغير في الأسابيع والشهور القليلة الماضية؟ ولماذا بدّلت إسرائيل خطابها تجاه تركيا من النقيض إلى النقيض، ومن الحديث الودّي أو التصالحي إلى العدائي والحادّ؟
يمكن الحديث عن ثلاثة أسباب رئيسية وراء هذا التغير المفاجئ، وهي نتيجة الانتخابات التركية والفوز الساحق الذي حقّقه حزب العدالة والتنمية، والأغلبية الكبيرة التي نالها، وستخوّله تشكيل الحكومة منفرداً، وعلى راحته، والتدخل العسكري الروسي في سورية، الذي وصل تقريباً إلى حدّ الاحتلال (ما يريح تل أبيب بالتأكيد)، محوّلاً موسكو إلى اللاعب الأهم المؤيّد للنظام، بدلاً من طهران، إضافة إلى القرار الإسرائيلي عدم التوصل إلى تهدئة مع حركة حماس، والإقلاع بالتالي عن فكرة رفع الحصار عن غزة، أو حتى تخفيفه بدرجة ملموسة عنها.

اسرائيل
كان لقاء وكيل وزارة الخارجية، دوري غولد، بنظيره التركي، فريدون أوغلو، في روما، في يونيو/حزيران الماضي، تعبيراً عن توجه إسرائيلي أوّلي لتحسين العلاقات مع تركيا، وكلام القائمة بأعمال السفارة في أنقرة، أميرة أورون، في 13 أغسطس/آب الماضي، جاء في السياق نفسه. ولكن، بعد انتخابات يونيو/حزيران، وضمن فهم تل أبيب أنها أضعفت حزب العدالة والتنمية، وأنه سيكون مضطراً لتشكيل حكومة ائتلافية، وأن أيّ انتخابات مبكرة لن تغير المشهد السياسي بشكل عام، علماً أن أحزاب المعارضة كلها ترغب في إنهاء حالة العداء مع تل أبيب، أو تحسين العلاقات وعودتها إلى طبيعتها، كما يطالب علناً الحزبان اليساريان، الشعب الجمهوري والشعوب الديمقراطية الذي وصل زعيمه، صلاح الدين ديمرطاش، إلى حدّ الإقرار بالحق الحصري لليهود في القدس، تماماً كما حق المسلمين في الكعبة، وحقّه وزملاؤه في كعبتهم، أي ميدان تقسيم.
حزب العدالة ضعيف كان يعني بالمصطلح الإسرائيلي عدم التشدد في مطالبه، أو بالأحرى مطلبه الأخير المتمثل في رفع، أو حتى تخفيف جدي للحصار عن قطاع غزة، بعدما جرى تجاوز المطلبين الأولين، أي الاعتذار والتعويض لأهل الضحايا وللمصابين في جريمة سفينة مافى مرمرة في مايو/أيار من عام 2010، وهو المطلب الذي كانت إسرائيل منفتحة، في ذلك الوقت، عليه، وقد فكّرت فعلاً في التوصل إلى هدنة، ولو تقنية مع حماس، وفق تفاهم القاهرة أغسطس/آب 2014، لتثبيت وقف نهائي للنار في غزة ومحيطها، على أن يتضمن وقف هدنة طويلة، ورفع الحصار، وفتح المعابر، وإعادة الإعمار، وفق ما عمل عليه مبعوث الرباعية السابق، توني بلير، بضوء أخضر أو حتى برتقالي، من تل أبيب وواشنطن.
تراجع نتنياهو، في اللحظات الأخيرة، لخشيته من حصول انجراف أو تسونامي أوروبي ودولي تجاه الحركة الإسلامية، ولخشيته من أن يحدث ذلك سيرورة تؤدي إلى انهيار السلطة في رام الله، علماً أن بقاءها ما زال حاجة أو مصلحة إسرائيلية، إضافة طبعاً إلى الرفض المصري القاطع لأي تخفيف أو رفع للضغط عن حماس، كون القاهرة لا تريد أن تكون تل أبيب أقل تشددّاً منها تجاه الحركة الإسلامية، خصوصاً مع ذهاب نظام السيسي بعيداً في التحالف والتنسيق الأمني مع تل أبيب في سيناء، غزة، وفلسطين بشكل عام.
“ما الذي تغير في الأسابيع والشهور القليلة الماضية؟ ولماذا بدّلت إسرائيل خطابها تجاه تركيا من النقيض إلى النقيض، ومن الحديث الودّي أو التصالحي إلى العدائي والحادّ؟”

إذن، لم تعد تل أبيب تريد أو تستطيع تلبية المطلب التركي، فيما يتعلق برفع الحصار عن غزة، وعلى الرغم من أنها لم تعلن صراحة عن موقفها من انتخابات أول نوفمبر/تشرين الثاني المبكرة، إلا أن ليندا شتراوس، الباحثة في معهد الأمن القومي، الوثيق الصلة بالمؤسسة الأمنية أفصحت عن حقيقة هذا الموقف، عندما كتبت الجمعة الماضية، 13 نوفمبر، معتبرة أن الفوز الساحق لحزب العدالة سيغري الرئيس رجب طيب أردوغان لمواصلة خطة المتشدّد ضد إسرائيل.
هذا فيما يتعلق بالبعد الفلسطيني، أو الغزّي، من العلاقة التركية الإسرائيلية. أما فيما يخص رغبة تل أبيب بالتعاون مع أنقرة أو التنسيق معها، فيما يخص سورية، وتبنّي الدبلوماسية الإسرائيلية في أنقرة القناعات التركية، وتحديداً لجهة اعتبار الأسد جذر المشكلة، وأصل المرض، وذهابها إلى حد القول إن تعاوناً تركياً إسرائيلياً، كان سيمنع وصول الأوضاع إلى ما وصلت إليه في سورية، وكان سينعكس إيجاباً على الأمن والاستقرار في المنطقة كلها، فيبدو أنه بات من الماضي تماماً، كما الحديث عن رفع الحصار ضد غزة أو تخفيفه.
بعد التدخل الروسي، باتت موسكو اللاعب الأهم عسكرياً، وسياسياً، ولو في صفوف القوى المؤيدة للنظام، بل إنها دفعت طهران ومليشياتها إلى المكان الثاني، والقوات العسكرية الروسية تنتشر أو تنشط في المناطق المتاخمة لإسرائيل والحيوية لها، وحرصت القيادة الروسية على التوصل إلى تفاهمات مع الحكومة الإسرائيلية، وصلت إلى حدّ فتح خط مباشر بين القيادتين العسكرية للبلدين، وعلى قاعدة تفهم المصالح المشتركة، وغض روسيا طرفها، وحتى موافقتها الضمنية على استمرار إسرائيل في سياساتها المعلنة، وتنفيذ غاراتها وطلعاتها في الأجواء والسماء السورية، وتفهم تل أبيب حرص موسكو على الاحتفاظ بنظام بشار الأسد، ومنع سقوطه أو انهياره أمام تقدم المعارضة.
وبدت المفارقة أن موسكو لم تطلب أي ثمن لتنفيذ طلبات تل أبيب وشروطها، بل إنها كانت حريصة على التفاهم التام معها، على أمل تخفيف الضغوط الأميركية والغربية ضدها، وضمن تساوق روسي ما مع فكرة أو قاعدة أن الطريق إلى واشنطن يمرّ أيضاً بتل أبيب.
قياساً إلى المعطيات السابقة، اعتقدت تل أبيب أن الرئيس أردوغان وحكومة حزب العدالة والتنمية سيكونان أكثر تشددّاً معها، ولن يتنازلوا عن مطالبهم والتزامهم بتحقيق الشرط الثالث، أي رفع الحصار عن غزة، بينما تبدو إسرائيل غير مستعدة له، ضمن استلابها سياسة الحفاظ على الوضع الراهن بأي ثمن. أما سورية فتتصور تل أبيب أيضاً أن موسكو ستظل اللاعب الرئيس في سورية، على المدى المنظور، وسيكون في وسعها الاستغناء عن التنسيق أو الحوار مع تركيا فيما يخص التطورات فيها.
هل ستسير الأمور وفق ما تشتهي السفن الإسرائيلية، ليس بالضرورة، فسياسة الوضع الراهن لن تصمد وقتاً طويلاً، وستنهار حتماً في غزة وفلسطين بشكل عام، ونظام عبد الفتاح السيسي الذي بات عاملاً مهماً في بلورة السياسات تجاه غزة، يتآكل هو أيضاً، وسينهار مع الوقت وفق تقديرات عديدة في إسرائيل نفسها، ما يعني زوال سبب مهم، يمنع رفع الحصار ضد غزة أو تخفيفه. أما روسيا فستغرق بالتأكيد، أو على الأقل، ستتورط في الوحول السورية، وستكون نفسها مضطرة للحوار مع تركيا وحلفاء المعارضة السورية، من أجل إنجاح العملية السياسية، وإنقاذ نفسها بأقل الخسائر السياسية الاقتصادية والأمنية. والخلاصة أن تل أبيب ستكون مضطرة على المدى المتوسط للعودة إلى الحوار مع أنقرة، من أجل تحسين، بل تطبيع العلاقة معها، باعتبار ذلك مصلحة لدولة صغيرة، تعيش في خضم بحر، بل محيط من التغيّرات والتحولات العاصفة.

(العربي الجديد)

السابق
الطيار الروسي «يُكذّب» الأتراك: لم يوجّهوا «أي تحذير» قبل إسقاط المقاتلة
التالي
اسرائيل تستعد لموسم الشتاء في «المزارع»