فلسطين… ثلاث عواصف عربية بثلاث نكبات

فلسطيني يلوح بعلم بلاده خلال اشتباك مع قوات الاحتلال الاسرائيلي قرب رام الله امس (ا ف ب)

ما أن بدأت عاصفة الحزم العربية ضد انقلاب الفلول والحوثيين في اليمن شهر آذار/ مارس الماضي حتى تعالت الأصوات المطالبة والمتسائلة والمستهجنة عدم القيام بعاصفة حزم مماثلة لتحرير فلسطين من الاحتلال الإسرائيلي.

كما دائما كانت بعض الأصوات حسنة النية وترغب في استمرار التركيز أو العمل العربي المشترك من أجل فلسطين، لكن معظمها للأسف صدر عن الحشد الشعبي الإعلامي الذي يستخدم القضية الفلسطينية وعدالتها وجماهيريتها من أجل التغطية على انخراطه الفعلي في الجرائم التي يرتكبها النظام العصابة في الشام، كما في تأسيس الإمبراطورية الفارسية في العواصم أو الدول العربية الأربع حسب التصريح الشهير لعلي يونسي مستشار الرئيس الإيراني حسن روحاني.

والحقيقة وللأمانة وللتاريخ، إنه لم تكن ثمة عاصفة حزم عربية واحدة ضد الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، بل ثلاث عواصف انتهت بثلاث نكبات اثنتين منها: عسكرية والثالثة سياسية، علما أن دول الخليج، وضمن ثوابت التاريخ والجيوبوليتيك لم تتأخر عن القيام بواجبها في العواصف العربية ومساندتها مع الانتباه إلى أن عبء مواجهة الغزوات الأجنبية كما صنع حضارتنا ثقافتنا وانتصاراتنا، لم يكن يوما ملقى على عاتقها، بل على عاتق الحواضر الكبرى الثلاث القاهرة دمشق وبغداد، التي حوّلها الاستبداد حتى قبل الثورات إلى أرض مدمّرة أو مدمرة ومحروقة، حتى أن حزب البعث فعل ما لم يفعله أي من الغزاة عبر التاريخ، ألا وهو تدمير وحرق بغداد والشام معا.

مع بدايات المشروع الصهيوني قام العرب بعاصفة حزم أولى في فلسطين، وأرسلوا جيوشهم إلى هناك من أجل مناصرة أهلها ومنع المشروع الاستعماري من النجاح والنتيجة كانت نكبة أولى في أيار/ مايو 48 عندما هزمت العصابات الصهيونية تلك الجيوش، واحتلت ثلاثة أرباع فلسطين مهجرة مليون مواطن تقريبا من أهلها.

ماجد عزام

كانت الدول العربية آنذاك في معظمها مدنيات ديموقراطية شبه مستقلة، وكانت في طور الانعتاق من الانتداب الأجنبي، ولم تكن قد تحولت بعد إلى دول مستقلة قوية بالمعنى الحقيقي للكلمة، إلا أنه وبنظرة إلى الوراء كانت المرحلة آنذاك أفضل حالا بكثير من كل المراحل التي تلتها، وعلى كل المستويات ويمكن فقط الإشارة إلى دستور 1923 المدني الديموقراطي في مصر الذي كان يحتاج إلى بعض الإصلاحات من أجل التطبيق الكامل لفكرة الملكية الدستورية، وهو أفضل جوهريا من معظم الدساتير التي سبقته حتى اندلاع ثورة يناير 2011، ونفس الأمر يمكن قوله عن دستور 1950 في سورية الذي كرّس فكرة الدولة المدنية الديموقراطية لكل مواطنيها، أو دستور 1921 في العراق، علما أن حواضرنا التاريخية الكبرى الثلاث كانت ناهضة على كل المستويات تعج بالحياة والحيوية، وكان يحتاج الأمر فقط إلى إصلاحات لسد الثغرات واستكمال عملية الاستقلال والنهوض، ولكن هذا لم يمنع اثنتين منها من إرسال الجيوش لمواجهة المشروع الصهيوني لاغتصاب فلسطين.

بعد النكبة الأولى وضياع فلسطين اهتز العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه ما هيأ الظروف أمام حقبة الانقلابات العسكرية التي بدأت في القاهرة مع انقلاب 52، وامتدت كما هي العادة في هزات ارتدادية إلى دولنا وحواضرنا الكبرى، وحطم الانقلابيون كل ما كان موجودا قبلهم بما في ذلك فكرة الدولة المدنية الديموقراطية، وأسسوا بدلا منها فكرة الدولة العسكرية الاستبدادية مؤممين كل شيء لصالح السلطة أو السلطات الحاكمة، وكانت الحجة الأساس في كل ما فعلوه إزالة أثار النكبة الأولى وتحرير فلسطين من الاحتلال الإسرائيلي.

عقدان تقريبا على عاصفة الحزم العربية الأولى والنكبة الأولى شن العرب أو بالأحرى اضطروا للقيام بعاصفة حزم ثانية في حزيران/ يونيو 1967 انتهت بنكبة ثانية أدت إلى ضياع كل فلسطين، واحتلال إسرائيل كذلك لشبه جزيرة سيناء وهضبة الجولان بعد هزيمتها لثلاث، بل أربع جيوش عربية في ستة أيام بل ست ساعات في الحقيقة.

أنظمة الاستبداد العسكرية التي فهمت مغزى ما جرى هربت من مواجهة الحقيقة أو تسمية الأشياء بأسمائها وخففت من وقع النكبة بإطلاق صفة النكسة عليها، فقط كي لا تدفع الثمن أو تقوم الثورات ضدها خاصة أنها بررت كل تصرفاتها وقمعها ومصادرتها لحريات الشعوب المختلفة بذريعة تحرير فلسطين.

هنا حصل أمر مهم جدا، وفي سياق الهرب المنهجي والمتعمد إلى الأمام ورفض مواجهة الواقع المستجد اعترفت قاهرة ناصر أولا ثم دمشق حافظ الأسد بقرار 242 الذي قزّم فلسطين إلى الضفة الغربية، والقدس، وربط أي تسوية أو أي انسحاب من الأراضي العربية المحتلة بالاعتراف بإسرائيل والإقرار بوجودها أي ببساطة لم يتغير الحكام، وإنما جرى تغيير القضية.

بعد النكبة الثانية ومع استقلال معظم دول الخليج وبداية الثورة النفطية بدأت السعودية ودول خليجية أخرى مثل الكويت في لعب أدوار مهمة على الساحة العربية. وهكذا جرى توحيد الصفوف في قمة الخرطوم وإبداع اللاءات الثلاث الشهيرة، ردّا على النكبة، ثم بدأ ضخ المساعدات بالمليارات إلى دول الطوق لمساعدتها على إزالة أثار النكبتين، وبالتالي تحرير فلسطين أو جزء منها على الأقل.

وهكذا تم القيام بعاصفة حزم عربية ثالثة ضد إسرائيل في تشرين أول/ أكتوبر 1973 ولم يكن العالم العربي موحّدا يوما كما كان آنذاك، خاصة مع استخدام سلاح النفط الذي حسن ميزان القوى لصالحنا، ولكنه للأسف لم يمنع النكبة الثالثة التي جاءت سياسية هذه المرة.

بعد الحرب استمرت الدعم الخليجي السنوي بالمليارات طبعا لدول الطوق الثلاث، التي كانت في حالة حرب مع إسرائيل، كما لمنظمة التحرير الفلسطينية بصفتها القوة الصاعدة آنذاك غير أن الانتصار العسكري المحدود أدى مباشرة إلى نكبة سياسية ثالثة بالمعنى الدقيق للكلمة، حيث استغل الرئيس المصري الراحل أنور السادات الانتصار للذهاب إلى التسوية، والاعتراف والصلح مع إسرائيل وبالتالي انطلاق عملية التسوية كما عشناها في السنوات الماضية، بينما استغله حافظ الأسد لبناء الدولة العائلية الطائفية المتوحشة والبشعة. كما لاجتياح لبنان وتدمير النموذج العربي الديموقراطي الوحيد وصولا إلى تدمير البلد بكامله وتسليمه إلى الحشد الشعبي الطائفي التابع للمشروع الإمبراطوري الفارسي.

دول الخليج التي قامت بما عليها وفق طبائع الأشياء وحقائق التاريخ والجغرافيا، نقلت دعمها بعد ذلك إلى منظمة التحرير الفلسطينية التي وإنْ أخفقت في القيام بمهام التحرير الكامل، بعدما استنسخت منظومة الاستبداد العربية لو بشكل محدث وملطف، إلا أنها حققت إنجازات لا يستهان ولا يمكن أن يستهان بها فيما يتعلق بفرض القضية على جدول الأعمال الإقليمي والدولي، كما بتوحيد الشعب في أماكن تواجده ليس كلاجئين وإنما كثوار من اجل قضية عادلة، وهي إنجازات كان من الصعوبة بمكان تصور تحقيقها لولا الدعم الخليجي الهائل سياسيا وماديا أيضا.

وللأمانة أيضا لم يكن الدور الخليجي ضارّا يوما تجاه القضية الفلسطينية ومنظمة التحرير كما كان الحال مع سورية الأسد – الأب الابن – مثلا، وحتى ليبيا القذافي – وبدرجة أقل عراق صدام حسين – التي فعلت كل ما تستطيع من أجل إضعاف منظمة التحرير واحتكار القضية الفلسطينية والقضايا العربية الأخرى من أجل المساومة عليها لحفظ الدولة المتوحشة ونظامها الطائفي البشع.

إذن من السذاجة أو بالأحرى الديماغوجية وسوء النوايا ،مطالبة السعودية بقيادة عاصفة حزم عربية في فلسطين، فهي لا تستطيع القيام بذلك حتى لو أرادت ،كون المهمة ملقاة منطقيا تاريخيا وجيوسياسيا على عاتق الحواضر الكبرى الثلاث المدمرة أو المدمرة والمحروقة، علما أن الثورات العربية أوجدت بيئة مناسبة ومهمة، لإعادة بنائها على أسس متينة نزيهة وديموقراطية ،غير أن الثورات المضادة أعادتنا للأسف سنوات وربما عقود إلى الوراء، إلى زمن النكبات زمن الحزب الواحد الزعيم الواحد وذهنية بالروح بالدم العدمية، وبالتالي فان ومواجهتها وهزيمتها خطوة لازمة وضرورية لتهيئة الظروف أمام عاصفة حزم عربية فلسطينية ناجحة ومظفرة ،لان من فشل في امتحان امتحانات الخبز الحرية الكرامة، لا يمكن أن ينجح في امتحان فلسطين، ووحدها شعوب أنظمة ودول حرة يمكن أن توفر أو تساهم في توفير الحرية لها.

(عربي21)

السابق
هذه المرأة الانتحارية الأولى التي تقتل على الأراضي الفرنسية
التالي
المرأة الإيرانية بدأت بتحرير نفسها… ولم تنتظر وعود الإصلاحيين