أحمد بزُّون… وملحميّةُ الاحتفاء بالجسَد الأُنثويّ…

تتصف المسيرةُ الشعرية، للشاعر والصحافي أحمد بزُّون، بما نُسمّيه "حوار الحياة"، وانطلاقاً من ذلك، أحسبُ أنّ الشِّعر لدى أحمد بزّون، ليس مصدر حياة، أي ليس إثبات وجود، وبالتالي، فهو ليس مصدر متعةٍ، لهذا الشّاعر، بل هو انبثاقُ متعة، وانبجاسُ نور الغواية، غواية تلوين الوجود، بما لا شأن له، بتاتاً، بنزعتي التشاؤم أو التفاؤل، من عبثيّة الحياة، ولا منطقيّتها.

فالشِّعر الـ”بزّوني”، ما هو إلاّ احتفاء خالص، بنور الوجود، وذلك نابعٌ – وعلى ما يُستشفُّ من قراءة هذا الشِّعر – من الامتلاء بوضوح داخليّ، لهذا الشّاعر يهتِكُ حُرُماتِ الغُّموض الدّنيويّ، بالفيضِ الصُّوفيّ الحسّيّ – إذا صح التعبير – الذي يملكه متخيَّلُهُ الإبداعيّ، الذي يلعب بالزّمن، لعِب الباحث عن المعنى الكامل، الذي لا تطارده لعنةُ الموت، ولا تُكدِّرُ صَفْوَ وجدانيّته، “نَأْمةُ إزعاجٍ” – ولو عابرة – على الصّعيد التَّخييليّ: “تُصَفِّي أمي ضوءَ الصَّباح بمنديلها لأشربهُ”، “لو أستطيعُ لشربتُ الثُّمالةَ قبلَ الكأسِ”، فـ”عندما يَهْدُرُ النَّهْرُ في داخلي/ تنهضُ حقولُ الأقحوان”. وهذه ثلاثُ صورٍ شعريّة، هي بعض تنويعات ما يحفل به، ديوانه الجديد، الصادر حديثاً، تحت عنوان: “للقهوة وقتٌ نَرْكنه في الزَّاوية”، (من منشورات “مؤسسة الانتشار العربي” في بيروت في طبعة أولى 2015).

اقرأ أيضاً: أحمد بزون: لماذا نطالب المثقف بأخلاقيات ليست متوفرة فيه بالضرورة؟

ففي هذا الدِّيوان، تُواجهنا اللغة الشِّعرية لأحمد بزون – مجدداً – لغته الخاصّة، والمتميّزة ببصمتها الخاصّة، التي تشُفُّ، حتى الجمام عن ملتقى: الرُّوى والأحلام والأسئلة، فلُغَتُهُ الشِّعرية، تتلاطم فيها المشاعرُ، والأحاسيسُ، هنا، عبر أربعةٍ وسبعين قصيدة، متفاوتة الطّول، متعدِّدة المناخات، يغلب عليها الاحتفاء الباذخ بالجسد الأُنثويّ، في إنشاديّة ذكوريّةٍ ملحميّة، (كما في قصائده السابقة) يكتمل فيها، قُطْبا – الوجود، اكتمال الرُّوح الإنسانيِّ، الذي هو وحده القادر على التئام صُدُوعِ الرُّوح، وشفاء غليل القلب، وانتشاء الجوانح، بما يجمع الجوارح، على فضاءات كشوفٍ لنورانيّة الحياة، وذلك من خلال محاولات، تلمُّس هذا الشاعر، (فنّياً وعبر التحام الشكل بالمضمون)، لآفاق آمالٍ مشعّةٍ، بمآلاتِ اليقين المطلق بوحدة الوجود.

ونورد هنا، مختاراتٌ من هذا الدِّيوان، نبدؤها بالقصيدة/ المفتتحِ، التي هي مهداةٌ (بل إنّ هذا الديوان كله يهديه الشاعر) لشقيقه، الكاتب والصحافي الراحل الشّهيد حسن بزّون. (وهي القصيدة التي لها مناخها المستقلّ في هذا الدِّيوان).

غياب (إلى أخي حسن)

لم أعلّق صورتَك على جدار

حتى لا تنزفَ دماً جديداً

ولم أتركْ حبلَ الدمعِ يجلدُ عينيّ

حتى تبقى بسمتُك عقاربَ الوقت

ولم أطلقْ كفَّيَّ بالصراخ

لينبت صوتُكَ الهادئُ بين أعشاب الأذن.

أمس، رأيت وجهَكَ ينبضُ على صفحة زرقاء

وجرحَك يلمعُ بين جفنين جافَّين

وفي الوديان تتلوّى آخ عطشى…

مع ذلك، أفرحُ لأنك ما زلت شاباً في الصّورة

وقد نأى بي الشيبُ عنك،

وصارتِ المسافةُ قلقاً ينمو في العتمة.

أمس حاولتُ أن أجمعَ عظامَكَ المغروزةَ في التراب

أن أغسلَ الرخامَ من حطام ربعِ قرنٍ

أن أتكئَ على حروفِ كتابيكَ

أن أوقظَ اسمَكَ النائمَ في حنجرتي

لكني وجدتُ المرايا سوداً.. والمدى صخرةً بركانيّة

والسماءَ تخنقُ طيورَها

والنجومَ تمطرُ نحاساً ثقيلاً

ورأيتُ نفسي أرقصُ فوقَ ألسنةٍ من نار

وقد حمَلَني الشوقُ على رؤوس جبالِهِ

ورماني من شرفةِ صخرةٍ عاليةٍ

فسقطتُّ مِعطفاً فارغاً

صوتي رمادٌ

ورمادي ينتظرُ ريحاً تنتحرُبه على تخومِ الصحراء

آلهة

كيف أقطع المسافة بين جبلين من ناركتاب احمد بزون

وأعْبُرُ ذلك الوادي إلى البحر

لأطفئ الشجرة التي أحملها على كتفِي

قدماي عالقتان في وَحْلِ البراكين.. وفمي خاطه

إلهٌ كذّاب

يا أبي.. لماذا وضعتَ نطفتك في هذا الصلصال

الملتهب.. ورحلتَ!

علمتنا أن الله واحد أحد…

فلماذا يتربع في رأس كل قاتل إله

يصلّي له، ويسنُّ بذكره السكين!

أو يحشو بغضبه الرصاص!

يا أبي.. من يتقاتل هنا: الآلهة أم البشر؟ ولماذا؟

ما دام التاريخ لم يهزمْ إلهاً!!!

يا أبي.. أمسِ رأيتُهم يضربون الرأس فيتشظى

إلهُهُ في رؤوس سواه

فالآلهة لا تموت.. لا تموت..

فلماذا يصرّون على قتلها؟؟؟

يا أبي.. من يدلني كيف أصل إلى البحر؟

فعلى جانبيَّ الطريق طائفتان من غضبٍ أشعلتا

البرَّ كله!

تشهقان زيتاً، وتزفران ناراً ومسامير؟؟؟

يا أبي.. علّمْتَنا ألا نكفرَ.. نعم!

لكنْ.. وحده الإله الذي تصلّي له أمي يبتسم لي!

جسد

رأيت جسدَك مبتسماً على السَّرير..

رفعتُ السريرَ فوجدتُ بحراً تحته..

رفعتُ البحرَ فغرقتُ..

وعندما انتشلتْني موجةٌ تمسَّكْتُ بمركبٍ وَرْدِيّ..

وسحبتُهُ قليلاً لأرى شقاً تراءى لي وسطَ القمر

ولفرط دهشتي غرقتُ في الضوء…

ربَّ جسدٍ يُسكرُ أكثر من خمرةٍ منسية.

آثام

لماذا لا توصدي النوافذ كلَّها،

فالبرد يمطر على السرير،

والعواصفُ تؤرجحُ الجدران،

والنباحُ يطقطقُ زجاجَ صدري.

امسكي أذيالَك كي لا تأخذَها ريح،

وأنفاسَك كي لا تخالطَها عيونُ الرجال.

واقتربي الآن لنشعل كومةَ آثامنا،

فينتصب الدفءُ،

وندرِّبُ غطاءَ المُخْمَلِ الجديدَ على رائحة جسدَينا

قصة فستان

مرة، شَرَدَ مني نفسٌ حار،

فصار خجلُك مخالبَ هرّة.

ثم هبّتْ ريحٌ من يدي على فستانك

فقدَحَتْ في عينيك حرابٌ…

وأمسِ، همسْتُ لجسدك بشفتيّ فخرج الصبحُ منه،

وفرّ الفستان نفسُهُ،

مثلما تَفِرُّ الغيومُ من شمسِ هذا الصباح…

وهجمتِ فتراجعتُ، هجمتُ فتراجعتِ.

ثم التصقنا.. وتدلَّتْ ثيابُنا من النافذة.

اقرأ أيضاً: «زوجة لرجلين»… لتحقيق العدالة الاجتماعية

السابق
جيش الإسلام: يدرس اقتراحاً بوقف إطلاق النار قرب دمشق طرحه وسيط دولي عبر شخصية محلية
التالي
الجيش : تفجير ذخائر غير منفجرة في محيط بلدات جنوبية