أبو عمار.. الختيار.. ملك التفاصيل

ياسر عرفات هاني فحص

أبو عمار، القائد العام، المناضل العام، الأخ، الوالد.. السيد الرئيس لاحقاً إلخ… كان أليق ألقابه به وأحبه الى من حوله هو “الختيار” أي الجد حسب المتعارف لدى الشعب الفلسطيني، كأن من هم حوله، وهم كثر، وكأنه بينهم المبارك هو ومن حوله، كما هي القدس التي بارك الله ما حولها، هذا الما حول الذي يمكن أن تكون حدوده حدود الأوطان والشعوب العربية كلها، من دون أن تكون القدس أو أبو عمار محصورين أو منحصرين فيها، على الرغم من الحصار الطويل، حصار القدس وحصار أبي عمار على تخومها في رام الله، ربوة الله، هذا الحصار الذي أصبح في المعنى الحضاري والمستقبلي، وإن طال مداه، حصاراً للمحاصر وفضاءً للمحاصر… كأن من حول أبي عمار إذن قد أدركوا أن هذا الرجل، ومبكراً، وفي عز الشباب، قد ارتقى نضالاً وصبراً وحكمة ودأباً وخبرة وذاكرة وحلماً وحباً واستيعاباً وسماحة، الى مستوى الجد، الى مستوى الشيخ الكبير، شيخ العشيرة الفلسطينية الديموقراطية التي تتسع للجميع، فإن شذ عنها شاذ وغادرها، فإنه يصير الى أشداق الذئب أو الفراغ والندم.

هناك مجال كبير للكتابة السياسية والتاريخية التي يمكن أن تشكل دليلاً علمياً وعملياً على هذه المكانة التي تبوأها ياسر عرفات في رعيله ورهطه وحركته ومنظمته وشعبه، غير أن الكتابة الخاصة، أي كتابة التفاصيل، وفي حدود المتاح، تبقى أشد اقتراباً من أسرار ومظاهر التميز والإبداع في سيرة الرجل، الرجل البسيط، كأنه الماء أو الهواء، بساطة وضرورة حياة، والمركب كأنه الماضي والحاضر والمستقبل، كأنه الوجع والفرح، الوعد والوعيد، الصحو والمطر، الخصم الحبيب والحبيب الخصم، والصابر الذي ترقص شفتاه انفعالاً والمنفعل الى حد الذهاب فى الصمت البليغ، في مناسبات ومفاصل يحلو، بل يحب فيها الكلام حسب المتعارف في حياة الناس وسلوكهم… تناولنا معه طعام الغداء على شرف وفد إيراني ودعانا الى حفل تكريم للأسيرين المحررين لتوهما أبو علي مهدي بسيسو ووليم نصار.. ذهبنا ونحن نتوقع أن يكون محور كلامه الغاضب هو ما قام به العقيد القذافي من إقفال مكتب المنظمة في طرابلس الغرب والبدء بتشكيل لجان ثورية من العمال الفلسطينيين المقيمين في ليبيا بديلاً عن المنظمة. وخطب أبو عمار ولم يأتِ على ذكر الموضوع في ختام الحفل، وكنت موجوعاً على فعلة العقيد بنا في لبنان باختطافه للإمام الصدر، ضيفه، فكنت واعداً نفسي بكلام قاسٍ يقوله أبو عمار محقاً ويشفي غليلي.

غير أنه لم يقل شيئاً، وأدرك خيبة أملي، فربت على كتفي، وقال: فلسطين تحتاج صبراً طويلاً وكثيراً، وأنا يهمني حل المشكلة، حتى لا تتحول الى أمثولة لدى الآخرين، وأنا لا أقيم اعتباراً لأي مضايقة إذا ما طالتني، أما أن تطال القضية فهذا ما يجب أن أتلافاه دائماً.

قبلها.. كنت قد ذهبت بتنسيق معه ومع المرحوم أبي جهاد الى القاهرة (عام 1976) تمهيداً للسفر الى ليبيا لتحصيل ما تبقى من ثمن التبغ الجنوبي المركون في منازل الفلاحين، بعدما تمنعت شركة حصر التبغ عن شراء المحصول، وحصل خلاف بين الخارجية الليبية والاتحاد الإشتراكي على مستوى السفارة في القاهرة، فلم أستطع السفر، وبقيت في القاهرة شهراً ونصف الشهر حائراً في أمري، لا أستطيع أن أعود الى المزارعين الذين ينتظرونني، خالي الوفاضي… والتقيت في القاهرة المرحوم كمال جنبلاط وشكوت له أمري، فشكا لي أمره عائداً من ليبيا مترعاً بالخيبة.. الى أن انعقدت القمة في القاهرة ووصل أبو عمار، وعندما رآني فسألني ماذا فعلت، ولماذا أنت باقٍ هنا؟ فأخبرته وشكوت له وأظهرت ضيقي وانزعاجي، فعاجلني بالحث على الصبر بنبرة عالية، وقال: لا تشعر بالذل، لو كنت في صدد أمر شخصي لكان من حقك أن تشعر بالذل، أما وأنك بصدد قضية عامة فهي عزك. وكل عزاباتك تصبح مدعاة افتخار.. وأضاف: وهذه هي تجربتي، لقد أعزتني فلسطين وحررتني من الشعور بالذل على الرغم من كل محاولات الإذلال… وحكى لي عن الأوقات التي قضاها على أبواب وزارة الداخلية في العراق طمعاً بلقاء صالح مهدي عماش نائب رئيس الوزراء وزير الداخلية في أوائل عهد أحمد حسن البكر وذكرني بأن أبا جهاد (خليل الوزير) إياه، قضى شطراً من عمره متردداً يومياً على مقر الرئاسة في الجزائر، عله يحظى بلقاء مع الرئيس بن بلة، الى أن أصبح بعض الموظفين في دار البلدية، مقر الرئيس في العاصمة، وعدد من المراجعين كثيري التردد الى المكان، يحسبونه موظفاً جزائرياً ويعرضون عليه أموراً وظيفية.. فقررت الاستمرار في عملي واستطعت في النهاية أن أحصل على ثمن ما تبقى من المحصول من مكان آخر، أي أنني استطعت أن استنقذ بعض حق المزارعين الجنوبيين من أموال النفط العربي التي كان قسم منها، القسم التقدمي لا يُصرف إلا على تغذية الحرب والخراب في لبنان، حتى إذا ما دخل لبنان في السلم الأهلي بعد الطائف والبناء أنقطع المال التقدمي، واستمر مال الدول التي سميناها رجعية بالوصول من دون استعراض.

فقرة اعتراضية: كما قلت في مقدمة كلامي، لن أخوض في الشأن السياسي، في إشكالية الحرب في لبنان والدور الفلسطيني، ذلك أني ميال منذ زمان الى النقد المخلص والقاسي لهذه الحرب وكل الأطراف المشاركة فيها، وقد عارضت علناً كلام بعض القيادات الفلسطينية التي حصرت المسألة نقدياً في بعض الأخطاء… ولكني لا بد أن أنصف ياسر عرفات بعض الشيء في حدود ما عرفته وجربته بالشراكة معه أثناء الحرب… زرته في بداية الحرب، في عيتا الفخار، وكانت قد أخذتني بعض لغة الشارع السياسي اللبناني الملتبس بالتقدمية والطائفية، وعلى غير عادتي ولغتي قلت في الحديث معه كلاماً طائفياً فسكت وأردت أن أودعه فاستبقاني ولم أدرِ لماذا؟ حتى جاء وفد من أهل المنطقة فسلم عليهم وسمى بعضهم باسمهم، وهمس في أذني قائلاً: يا شيخنا هؤلاء كلهم مسيحيون وهم ممن اختبرت إخلاصهم لفلسطين في الأيام الصعبة. ولم يزد شيئاً ولكني فهمت كثيراً، وعدت الى منزلي، وعلى طول الطريق كنت مشغولاً بنزع أشواك الطائفية من جسدي وقلبي وعقلي.

هاني فحص

وقد نجحت الى حد كبير… ومن علامات هذا النجاح أنني وبعض الأصدقاء المستنيرين من أعضاء الأحزاب القومية واليسارية شكلنا لجنة دائمة الانعقاد بالتنسيق مع أبي عمار وأبي جهاد وتشجيع منهما، وكانت مهمة هذه اللجنة متابعة الأحداث وضخ القيم والأفكار الوطنية في مقابلة الكلام الطائفي وأصدرنا مجلة “الوحدة” الأسبوعية لهذا الغرض، وكتبنا بيانات ومقالات وأخذنا تواقيع أعداد كبيرة من ذوي الشأن في سائر الطوائف مطالبين بالسلم الأهلي وإنهاء الحرب وتكرر ذلك مراراً منسجماً مع دور القيادات الروحية (الصدر وخريس وأبو شقرا وخالد) على نفس الخط والاتجاه، وتعدينا في شغلنا هذا الشأن الطائفي الى الشأن الوطني والقومي. وبالتفاهم الكامل مع أبي عمار توليت حماية شباب الصاعقة واتحاد قوة الشعب العامل وحركة أمل في الجنوب، وبأوامر مهمة من أبي عمار هربت بعض من كان يحوم حولها الخطر الى حدود الأمان على أبواب دمشق. وقدموا لي بعض أسلحتهم هدية فتقبلتها أمانة أعدتها اليهم بعد إنجلاء الغيمة، وبالتفاهم مع أبي عمار وأبي جهاد كنت أذهب الى مواقع المقاتلين في جبل الريحان مقابل المواقع السورية للتشديد عليهم بأن لا يتعاملوا مع الجندي السوري كعدو.

وتتويجاً لهذا المنحى والمسعى أصدرنا، أي مجموعة من كوادر فتح والكتيبة الطلابية نشرة أسبوعية سميناها “الفجر” تكفلنا فيها بالصراحة دفاعاً عن العلاقة السورية الفلسطينية واللبنانية، وكدنا أن ننال على ذلك عقوبات قاسية من بعض القيادات الفلسطينية بالإضافة الى تشهير خطباء الحركة الوطنية بنا… وعندما تشكلت الجبهة القومية لـ (حزب البعث ـ الجناح السوري، واتحاد قوى الشعب العامل وحركة أمل) انفتحنا على الجبهة بتشجيع من ابي عمار وأبي جهاد. لتأتي الأحداث من بعد فتثبت صواب هذا الخيار وسلامته.

انتهت الى هنا الفقرة الاعتراضية، فنعود الى كلامنا في التفاصيل.

دخلت مكتبه يوماً بعد الظهر فوجدت أعضاء المكتب في وجوم وتوتر… فسألتهم ما الأمر؟ قالوا غضب علينا لخطأ كبير، قلت وما الحل؟ قالوا الحل ميسور خاصة مع وجودك وطلبوا مني الانتظار وغادر أحدهم المكتب ليعود بعد قليل مصطحباً طفلاً من أطفال سكان البناية، وطلبوا مني أن أدخله الى القائد العام، وعندما دخل الطفل تحول القائد العام بسرعة ضوئية الى ختيار، قبلاً ومداعبة ولعباً طرفاه لطفل والختيار الذي لم يكن بإمكانه أن يكون ختياراً لولا أنه احتفظ بالطفل في صدره، وبعد موجة اللعب فتح جراره وتناول لعبة صغيرة قدمها للطفل وأجلسه على ركبته، يعلمه كيفية تشغيل اللعبة، وشرع في محادثتي ونادى على أحد من المكتب وأمره بالشاي لي.. لم يكن يشرب الشاي إلا صباحاً، خفيفاً وبالعسل، مع الخبز المحمص واللبن الرائب المجفف. وكان السيد حسين عثمان من بعلبك يتعهده بالعسل الصافي، أو قليل الغش.. والويل لمن يحضر مأدبة ابي عمار لأنه سوف يبدأ بتوزيع الطعام الذي يعجبه هو على الجميع ولا بد أن يأكلوا.. ومرة أعجبتني الخضار المسلوقة فانهلت على الوعاء، ولأول مرة قال لي إني مضطر الى البخل، فهو لم يكن يستطيع أن يستسيغ طعام الغداء خصوصاً من دون تغليب الخضار المسلوقة على سائر الأصناف، ومرة كنت قد زرته في أحد عصاري شهر رمضان، وكان من معزوميه على الإفطار في كيفون العميد وليد سكريه والمرحوم الرائد أمين قاسم مع ابي جهاد.. وأكلنا ما أكلنا حتى امتلأنا، ثم التفت ابو عمار الى صينية الكفتة بالطحينة الأكلة المحببة عند أهلنا في فلسطين، وكان يحبها، فأخذ يوزع قطعاً منها على الضيوف ويرغمهم على أكلها، وعندما لاحظت حرج الرائد قاسم، نهضت مسرعاً للخلاص من الكفتة، فرماني بنظرة ممزوجة بابتسامة عارفة.. اعقبها بضحكة.. وضحك الجميع ونجا البقية من دسم الكفتة بالطحينة..

ويوماً دخلت عليه فوجدته منفرداً بأحد قياداته الميدانية. يكيل له الملاحظات القاسية خفف عندما دخلت وأخبرني بأن الرجل أخل بواجبه الميداني، وأمر بإنزاله الى السجن، وبعد ثلاثة أيام، كنت أتمشى قريباً من أحد مقرات أبي جهاد خارج بيروت.. وصلت سيارة ابي عمار نزل وقدم لي رفيقه البطل فلان… نفس الشخص الذي أدخله السجن أمام عيني، ضحكت وقلت له لقد رأيته قبل أيام في المكتب.. انتبه وقال: إذا لم أسامح وأغفر كثيراً من الذنوب أو مظاهر الضعف البشري فلن يبقى معي إلا قليل من القليل.. ثم ذكرني بقول رسول الله (ص) “من كانت هجرته لله ورسوله فهي كذلك ومن كانت هجرته لرزق يقتسمه أو امرأة ينكحها فهي كذلك”، وعقب: يا مولانا المهم طهارة الرسالة والرسول.. الرسول طاهر دائماً، أما نحن فنتعرض للنجاسة دائماً… الأهم طهارة الهدف.. والمسألة تحتاج الى صبر على العقبات وعلى الثواب معاً.

هذا هو الختيار.. الجد الأكثر تسامحاً مع أحفاده من آبائهم، ومن منا لا يشكو من تسامح ابيه وأمه مع أولاده، ومن من أولادنا لا يشكو من تسامحنا مع أولادهم أحفادنا؟ الختيارية إذن استحقاق من الحب والسعة والاستيعاب والتساهل وكره المعصية لا العاصي..

العلاقة بايران

لا أريد أن أمضي في التفاصيل اليومية… لأن غيري قد يكون أكثر قدرة مني على رسم اللوحة بكل ألوانها، أي ألوان أبي عمار، وانتقل الى تجربة عشتها معه بشكل مميز لكوني معنياً بها أكثر من غيري ولن أطيل في تفاصيل العلاقة المبكرة مع الثورة الإسلامية في ايران وكوادرها وقواعدها في لبنان والخارج ومع قائدها الإمام الخميني (قده) منذ أوائل سنة 1974م… حيث دخل على السياق الذي كان قائماً وكان دوري أن أعمقه.. سوف اقتصر على الأيام الأخيرة.. استدعاني ليلة الحادي عشر من شباط، ليلة النصر مضطرباً فرحاً.. وصورة القدس والخميني أمامه… قلت له: تحبها؟ أي القدس، فقال: مرتع طفولتي وشبابي هي حلمي، ونظر في صورة الإمام وقال: مقدر لها أن لا يحررها عربي، كان كلامه يعبر عن قسوة ومرارة في التجربة، وألح علي أن اتصل تلفونياً بطهران.. وبعد ساعة من الجهد اتصلنا واطمأننا وسجلنا أسماء الوزراء الجدد… وألح أن أبلغهم رغم كل المخاطر عن حركة جماعة الموساد في طهران وقادتها وعديدها والجهة التي توجهت اليها. قبل ليلة واحدة كان قد طلب مني أن أجهز نفسي للسفر الى طهران ففعلت وحجز لي على طائرة أوروبية من دمشق، وسافر هو شخصياً الى دمشق للقاء تيتو أو فالدهايم إذا لم تخني الذاكرة، فلجأت الى المرحومين ابي جهاد وسعد صايل لترتيب سفري.. ومساء ذلك اليوم أبلغاني أن رحلة الطائرة قد ألغيت وبإمكاني الذهاب الى منزلي..

ولم أذهب، وقضيت بقية السهرة مع أصدقاء في بيروت وانتقلت للنوم في منزل أحد الأصدقاء، وحوالي الثانية ليلاً طُرق الباب فإذا بالأمين فتحي يقول: أبو عمار في انتظارك، في الطريق فهمت أن أبا عمار أرسل في طلبي الى منزلي في كيفون فلم يجدوني، فأرسل الى النبطية للبحث عني في جبشيت فلم يجدوني، وأخذ يستدعي أصدقائي الذين يعرفهم من فتح وغيرها ومنهم هاني الحسن الذي أوقظ من نومه لأن فتحي سمع أبا عمار يقول: أريد هاني عندي هنا. وعاد فتحي الى كيفون ليسأل زوجتي عن البيوت التي انام فيها في بيروت فأرشدته الى منزل السيد عبد الحسن الامين… ودخلت المكتب فاستقبلني بالتساؤل: ماذا افعل وأنت رجل دين! ماذا فعلت؟ لماذا لم تسافر؟ قلت اسأل سعد صايل وأبا جهاد، قال: هذان لا خبرة لهما في قضايا السفر.. قلت له يا أبا عمار دعني وشأني انا اشتغل كل شيء وحدي بمفردي.. من كتابة الشعر الى شراء خضار البيت، قال: تزاود علي! انا اليوم عملت كذا وكذا واجتمعت بفلان وفلان، وخطت زر بنطالي وكشف لي عن الموقع الذي خاط فيه الزر.. وقال: طيب انا حجزت لك على طائرة اسكندنافية من دمشق وبقي على موعد اقلاعها نصف ساعة والآن نتصل لتأخير الموعد، فاستعد للسفر.. قلت يا ابا عمار ليل وجليد وانا وحيد أهلي لماذا هذه المخاطرة؟ وهل انت بحاجة الى شهيد آخر؟. قال غلبتني وطلب لي كوباً من الشاي وأطلق سراح المحجوزين..

بعد ليلة النصر قرر ابا عمار ان يرسل وفداً للتأييد والتهنئة في طهران فاختار عدداً من القيادات والكوادر ومعهم من تبقى من الجنود الايرانيين العاملين في القوات الدولية الذين اشتغلنا معهم وسحبناهم في حركة ضد نظام الشاه، ومعهم ايضاً بعض القيادات الايرانية المقيمة في بيروت، وقررنا ان نصطحب معنا الكاتب بلال الحسن ومحمود درويش، فاقترح محمود ان اتدخل بمصالحة ابي عمار مع احد الكتاب اللبنانيين المخلصين لحركة فتح والذي خاصمه بسبب هجوم كاسح عليه، على أبي عمار، وجاء الرجل وصفي اللبن.

وبقينا ثلاثة ايام وأبو عمار يلعب بأعصابنا، مصراً على ان نسافر على متن طائرة شحن.. عصر اليوم الثالث قال لي: لا بأس ان تنام في منزلك وتنتظر حتى الصباح، فذهبت الى كيفون، وبعيد صلاة الفجر طرق فتحي باب بيتي وقال: هات حقيبتك واتبعني.. تبعته وتحركت سيارة الفولفو ستايشن البيضاء نحو دمشق، في جو مثلج قارس. وفي أول الطريق قلت لفتحي والمرافقين: وأين أبو عمار؟ ألا يريد أن يودعنا؟ وكيف نسافر؟ أشار فتحي الى السائق، كان أبو عمار هو السائق.. فازداد الموقف غموضاً وجمالاً.

غاب ابو عمار عنا ظهر اليوم التالي وعندما عاد دعانا الى الانتقال الى مطار دمشق، ابو مازن وحامد ابو ستة وهاني الحسن وجلال فارس وآخرون، وذهب معنا الى المطار، ومشى معنا الى سلم الطائرة، ثم صعد السلم، فقلنا إنه يودعنا بقبلة خاصة، ودخل الطائرة وجلس وربط حزام الأمان، وأخبرنا أنه التقى الرئيس المرحوم حافظ الأسد وودعه وأن هذه الطائرة هي التي يسافر على متنها الرئيس الأسد. فشعرنا بأمان إضافي ونوعي.

عندما دخلنا الاجواء الايرانية حاصرتنا اربع طائرات فانتوم ايرانية، طلبت التعرف الى هوية ركاب الطائرة، قال ابو عمار: قولوا وفد فلسطيني رفيع المستوى.. أصروا على معرفة أسماء الوفد، وكانت وجوهنا عرضة للإصفرار، فرفع أبو عمار طرف الفيلد العسكري عن عينيه، كان مصراً على النوم، وقال: ألا تعرفون أن أكثر الطيارين الايرانيين قد تدربوا في إسرائيل؟ لا تعطوهم الأسماء، وأصر، وطلب منهم الاتصال بالجهات الرسمية في طهران… وجاء الأمر بإخلاء السبيل لنا.. فحيتنا طائرات الفانتوم بتحية معروفة وعادت بعد دقائق لتواكبنا.. كانت تلك مفارقة من مفارقات الثورة الايرانية ومفارقات ابي عمار التي لا تعد ولا تحصى.

اكتفي بهذا القدر، لعلي أعود ثانية الى الكتابة عن تفاصيل الرحلة التاريخية في طهران وخراسان والاهواز. املاً أن يسلم ابو عمار ويقرأ هذا الكلام ويوافق عليه أو يصحح أو يزيد أو ينقص لأن ذاكرته أقوى من ذاكرتنا.. لأنه يصنع الاحداث ونحن نتكلم عنه وعنها، نشجبه أحياناً. ثم نعود الى وعينا فنرى الحكمة في ما اختار الختيار. الذي يتوهج في تفاصيله، في تناقضاته والجدل العظيم والجميل بين هذه التناقضات التي تتوحد فيه فيبدع ويحاصر محاصريه مريضاً وصحيحاً. نائماً ومستيقظاً يقظاً في الحالتين.

(المستقبل)

السابق
قل لي كيف تنام زوجتك بقربك… أقل لك من أنت!
التالي
مشاهد حيّة تعبّر عن سريالية صارخة من الحرب السورية