مأزق تضخم الهوية الطائفية وخياراتها

شهد لبنان المزيد من تضخم الهويات الخاصة ولاسيما الطائفية او المذهبية على حساب ضمور الهوية الوطنية، فالطائفية حولت الطوائف بصفتها مكونات اجتماعية وثقافية إلى هيكليات سياسية ذات استقلالية خاصة بها، بحيث اعتبر التدخل في شؤون الطائفة الخاص هتكاً للعيش المشترك.

الدستور أقر للطائفة بحق التعليم الديني، وتنظيم شؤون الأحوال الشخصية التي تتوسع فوق مساحة واسعة من نشاط الافراد والجماعات. هذا الأمر ولّد شبكة مصالح داخل الطائفة وتراتبيات ومرجعيات لا ينصّ عليها القانون، وظهور أشكال استبداد داخلية لا يطالها القانون بحكم أن كل ذلك من شؤون الطائفة الخاصة.

 

ويشكل الجدل حول الجلسة التشريعية التي دعا اليها رئيس مجلس النواب نبيه بري تحت عنوان الضرورة الخميس المقبل، مجالا لاستعراض هذه الهويات الخاصة ليس بوصفها مكوّنا حضاريا او دينيا، بل مجالا سياسيا سلبياً يكشف عن حال تضخم مرضي للخصوصية يشلّ الدولة ويقصيها. فالتمييز بين الدولة ككائن أعلى، وبين مكونات المجتمع الأخرى التي تمارس أنواع نشاط أخرى، يجعل الدولة تخرج من المجتمع بالمعنى الوظيفي، علماً انه لا يحق لأية جهة اجتماعية ممارسة تشريع القانون وتطبيقه، أو ممارسة أي نوع من أنواع الإكراه، لأن ممارسته خارج الدولة يصبح اعتداءاً وجرماً قانونياً تحاسب عليه الدولة، لكونه اعتداءاً مباشراً على سيادتها.

إقرأ أيضاً: الإنتداب هو الحل

“استئثار السنة” او “غبن المسيحيين” او “تغول الشيعة”، عناوين وشعارات يتم تداولها في المسرح السياسي اللبناني وهي عناوين تعكس المأزق الذي وصلت اليه المكوّنات السلطوية الطائفية التي باتت عاجزة عن تقديم الحلول التي تضمن بقاء الكيان السياسي الأعلى متماسكاً (اي الدولة) مع استمرار حفظ نظام مصالحها الخاص كجماعة او أفراد. لذلك وان كان هذا دفع بعض الجماعات اللبنانية الى الوقوع في اغراء تضخيم الهوية الخاصة، وصولا الى تبني خيارات تتنافى مع شروط سيادة الدولة، فهذا النهج كشف في الواقع وفي الملموس عن نزعة تدميرية للدولة وللمكون الاجتماعي نفسه، خصوصا ان هذا التضخيم للخصوصية لم يستطع اصحابه الترويج له والتحكم بمساراته الا عبر تبريره بكونه حالة استثنائية وظرفية، لا لقناعة بشرط الدولة بل بل لعجز موضوعي وتاريخي عن ايجاد مسوغات موضوعية ومنهجية وقابلة للحياة تبرر هذا الخروج مشروع الدولة.

 

الخروج على الدولة هو مسار غير دستوري والتساهل المتمادي للسلطات المتعاقبة حيال هذا الخروج لا يعني ان الدستور والقانون اللبناني يشرع عملية الخروج هذه، وبالتالي فان نسف النظام السياسي وتعديل الدستور، لن يحقق المبتغى في تثبيت مشروع الدولة، ذلك ان الأزمة ليست في طبيعة مواد الدستور بقدر ما هي ازمة تسبق التعديل، وهي الخروج على اصل فكرة الدستور ومواده الى خيارات تنسف اساسيات الدولة واصل وجودها.
من هنا الدولة هي صاحبة الحق الحصري في تشريع القانون وتعديله وتطبيقه بشتى الوسائل، بما في ذلك وسائل الإكراه. هذه الخاصية لا تحدد العلاقة مع الدول الأخرى فقط، بل هي خاصية داخلية أيضاً، هدفها التمييز بين الكائن السياسي الأعلى الذي تنحصر به مهمة التصدي للشأن العام، وبين المكونات الاجتماعية الأخرى، التي كانت تاريخياً تنافس الدولة مهامها، مثل الكنيسة والإقطاع وطبقة النبلاء في القرون السابقة.

إقرأ أيضاً: الرئيس بري: وجدتها… انها الكفور!

الرهان الوحيد لتحقيق فاعلية مواطنية في بناء الدولة، هو في خلق حراك مجتمعي لبناني، وقد بشّر الحراك المدني الاخير بما بذره في معزل عن النجاحات او الخيبات التي تعرض لها، لكنه بالمعنى التاريخي هو حلقة تمهد لحلقات تفعل الحراك المجتمعي. اهمية هذا الحراك هو في ان تستعيد فيه المكونات الاجتماعية على تنوعها ذات المصلحة في تثبيت قواعد المواطنية زمام المبادرة، ليكون بإمكانها وقف المصادرات التي تمارسها الطبقة السياسية بحقوق افراد المجتمع، وليكون بإمكان هذا المجتمع اللبناني استعادة مرجعيته الفعلية في صناعة القرار السياسي. إذا كانت معوقات فاعلية الدولة وفاعلية المجتمع موضوعية، فإن الحل هو في إيجاد شروط موضوعية مقابلة، تمكن المجتمع من استعادة قدرته على أن يكون مرجع نفسه، وتمكن الفرد من أن يكون سيد مصيره.

السابق
طائرة إسرائيلية ترسم خط الافتراق بين موسكو وطهران
التالي
مسؤول اميركي: ممارسات إيران لم تتغير بعد الاتفاق النووي