الذكرى الأولى لرحيل هاني فحص: «كاهن معمّد بالحبر ومتوضّئ بالضوء»

اقام المجلس الثقافي للبنان الجنوبي والحركة الثقافية – انطلياس ورابطة اصدقاء كمال جنبلاط والنادي الثقافي العربي والرابطة الثقافية لمدينة طرابلس والمجلس الثقافي لمدينة زحلة ولجنة جبران الوطنية ومنتدى صور الثقافي، احتفالا تكريميا للعلامة الراحل السيد هاني فحص، في قاعة الاخوين رحباني في مقر الحركة الثقافية في انطلياس، لمناسبة الذكرى السنوية الاولى لرحيله.

حضر الاحتفال ممثل الرئيس ميشال سليمان الوزير السابق ناظم الخوري، وزير الشؤون الاجتماعية رشيد درباس، جاد الاخوي ممثلا وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق، الدكتور ساسين ساسين ممثلا رئيس حزب الكتائب النائب سامي الجميل، النائب احمد فتفت، العقيد عثمان شمس الدين ممثلا قائد الجيش العماد جان قهوجي، امين سر “حركة التجدد الديموقراطي” الدكتور انطوان حداد وعدد كبير من الوجوه السياسية والثقافية والاعلامية.

درباس
في البداية تحدث الوزير درباس ، فقال: “على مدرج انطلياس، وفي حمى كنيستها، يعود الينا السيد مضمخا بطيب يجعل صدر التنفس رحبا. وان هو لم تدركه الآناف، ويخرج علينا من السكرستيا كاهنا يتلو ما تيسر من كثافة غيابه الحي، ويباركنا بمبخرة الارواح التي يتصاعد منها بخور الذكرى دوائر متشابكة بين المحاجر والضلوع، فتمتلىء النفوس نعمة وبشاشة بتماس الذكرى مع الغياب، كنغبة العطش من ماء سراب”.

اضاف: “ولست ابن مروان ولا الحجاج طبعا، لكنني نثرت بين يدي كنانة الكلمات التي كنت كتبتها في السيد حيا وبعد الموت، وعجمت أحرفها ومعانيها واخترت من سطورها اكثرها دفئا واشدها شجنا، وها أنذا ارمي بها امامكم مثل سهام مغروزة في مهجة الرحيل”.

وتابع: “اما اول هذه السهام بقولي فيه: “مذ أوت هالة السيد الى حفرتها، ايقنت ان النور صديق الديجور، كأن العينين تثقبان التراب بأشعة ما فوق الموت، او كأن التراب مرآة الدنيا في حساب الاخرة”.

يقول ابو الطيب:
وما الموت الا سارق دق شخصه يصول بلا كف ويسعى بلا رجل

لكن ذلك السارق خاب فعله عندما أبت الروح ان تسلم نفسها اليه وبقيب مشروعا فكريا وحضاريا استدرج اليه السيد أهل الرؤى وبحارة المحابر وربابنة الكشف، يتحلقون حوله في كل صفحة من مطبوعة، وكل صورة على شاشة وكل تردد في هواء، حتى صاروا منظومة متكاملة تأسف للرحيل قبل الاوان، لكنها تنهل من نبع يتدفق في كل زمان، اذ ان السيد هاني لم يكن إماما او اديبا او شاعرا او سيد اقلام فحسب، بل هو بالاضافة الى ذلك كاهن معمد بالحبر، متوضىء بالضوء كمعظم اهل التنوير يرى الى الله حبا خالصا ساطعا في عيون الناس وعلى وجوه الفقراء، ويراه خصوصا عدو الجهل، فهو الذي بعث جبريل الى نبيه بقوله “اقرأ”، ولهذا ظل السيد هاني يفحص طوال عمره قدرته على القراءة حتى قرأ الشهادتين، فذهب ولم يذهب. بل جعل وقوفنا في عزائه طقسا من طقوس الرحيل المؤقت. اما الحقيقة الدائمة فانه ما زال يركب رحلته التي لا تنتهي في فضاء لا ينتهي.

تكريم هاني فحص

واضاف: “عجمت سطرا آخر فوجدتني اقول فيه: هلا أعرتني عمامتك السوداء اضمد بها حزني ووجداني. ايسمح لي ان اغمس سن قلمك في محبرة الدمع لاكتب عنك بمداد من رواسب النور الباقي في البؤبؤ”.

وقال: “ايها الساكن في النهج طويلا، الرحالة في كل الاماكن، تاجر طيوب يوزعها من قمقم لهاته بلاغة تعطر الاسماع بشذا العترة النبوية”.

وتابع: “ايها الكوكب الدري المستضيء بالنور الماشي على لمعاته، المدثر بسطوعه، المعلم ان الحياة ان لم تكن نورا على نور فليست سوى حفنة موت.

ايها الروح الذي استردته سماؤه، والارض ما زالت بحاجة اليه. ايها الماء الذي شربه ترابه، ها هي الغيمة تسترد بك قرضها الحسن. يا زارع التبغ ومدخنة حتى امتلاء جيوب الرئتين بلون هموم الناس. أشهد انك لم تصب باحتقان في التنفس، فمنك نتنشق الفكر الزلال، لان نفثات دخانك كانت تتراقص امام عيوننا كالصبايا في مسرح هجم عليه الظلام وتعالى الفحيح في حواشيه، فكنت تسري كأنك الحفيف او كأنك الجبة التي امتلأت يما لا يرى، او كأنك اللسان الذي لا يحتاج الى الكلمات. ها انت تقلع عن ادمان التلذذ بالتبغ فأدمنك منبته حتى استعادك الى أمك، لتسكب فيها ما أعطتك الدنيا من الخصوبة والعذوبة وفصاحة ألسنة الملائكة التي تهيم عشقا بأهل الارض”.

وقال: “أيها الاثنا عشري الذي عاقر اشهر السنة الاثني عشر وقرأ الالواح الاثني عشر وعاد الينا بحصاده من بيادر الحضارة، لقد سجيناك وحملناك على وسادة من التبغ لتمتع مجددا بشميمه، وودعناك باسم الواحد والثالوث غير المنقسم على اثني عشر كفا نورانيا تزرعك في قلب النور”.

يقول الشاعر:

ولما حضرنا لاقتسام تراثه اصبنا عظيمات اللهى والمآثر
واسمعنا بالصمت رجع جوابه فأبلغ به من ناطق لم يحاور

ويقول هيرودوت: في قاع النيل توجد شمعة تطفو الى سطحه كلما حل الظلام. وانت ايها السيد ما زلت في هذا الظلام المتمادي حولنا، شمعة القاع وشمعة الذرا”.

واضاف: “ايها الصديق العزيز، انتبذت معك مكانا قصيا اثناء ندوة عن كتاب لصديقنا المفكر المناضل كريم مروة، فسنحت لي فرصة التفرس في لحيتك، ورحت اتهجأ حروفها بين السواد المعاند والابيض الزاحف، فاطمأنت نفسي الى انك في انضج العمر وأينعه، وانه ما زالت بقية وارفة للفكر المستظل بك، ولكن رئتيك خذلتا تهجئتي، وكما يفعل المتعللون، فزعت الى المطلقات والى الافراط في الحديث عنك حيا باقيا على قيد الصفحات وتضاعيف الذكريات. ولكني اصدقك الشعور، ان اسئلة القلق التي كابدتها، تفضي بي الى يقين: ان ليس لغيابك ما يعوضه، فالمادة لا يزينها الخيال”.

تكريم هاني فحص

مروة
ثم تحدث كريم مروة فقال: “انه من السمات التي امتاز بها السيد هاني انه كان يمارس اجتهاده في الفكر الديني في شؤون حياتية متعددة الجوانب ليس كرجل دين فقيه وحسب بل كإنسان من الدرجة الاولى. وكان يعتبر ذلك حقا من حقوقه الطبيعية، وكان اهم ما طرحه من دون حرج هو ان المدينة هي الاساس في الاوطان، وان لا دولة في الاسلام بالمعنى الذي يروجه من يريدون قمع حرية الفكر والرأي والنشاط الانساني باسم الاسلام”.

سيف
بعده، القى امين عام الحركة الثقافية في انطلياس انطوان سيف كلمة اكد فيها “ان السيد هاني اكد الصمت بالكلمة وبالسلوك، زار من كانوا يرون من الابعدين، طرق ابوابا نادرا ما طرقت من امثاله ولم تفتح مدن بأوسع ما فتحت له، وكان اكثرنا جدية ووطنية وانسانية واكثرنا شجاعة واحتمالا لتبعات امواج النار من الهيكل”.

شيا
اما الدكتور محمد شيا، فرأى “انه في هذا الزمن المأزوم الذي نعيشه في بلدنا وفي بلاد المسلمين تبدو الحاجة الى السيد هاني اعظم والى حكمته ومحبته، خصوصا وانه كان يمتلك ميزتين في الحكمة والمحبة، وما أحوجنا اليهما اليوم يا سيد”.

ساسين
كما تحدث الدكتور قزحيا ساسين، فأكد “ان في فقد السيد فحص تضيع الحدود بين فضل المعنى على اللفظ وبين سخاء اللفظ على المعنى فيتعطل الميزان، ويشعر الانسان بلسان معناك المدوس يلذع ببياض وحب كبيرين”.

يذكر ان التعريف كان للاعلامية ماجدة داغر التي اكدت “انه وبعد سنة على غياب السيد هاني فحص تراه هناك يصلي مأموما واماما ويستكمل اكثر في الروح، يصل الى البداية الى عالم التفكيك، الى حياة اشبه باحتراق البخور”.

السابق
إشكالية الهويّة: ثالوث العائلة والطائفة والمنطقة
التالي
فايسبوك يفرض من مستخدميه تحميل صور للهويّة الشخصية لمتابعة استخدام الموقع