الانتفاضات الفلسطينية… استفزاز إسرائيلي ونعوش سلام

متى يتحقق السلام في الشرق الأوسط؟ سؤال مشروع كهذا يبدو غير واقعي في هذه الأيام. فالسلام راح ضحية الاستفزاز الإسرائيلي المستمر والمذلّ، وأضحت  إعادة إحياء عملية السلام رهن معجزة قد يطول انتظارها. بات السلام إذاً محمولاً على نعش وينتقل من مقبرة إلى مقبرة، كأنه يريد أن يدفن نفسه أكثر من مرّة، للتأكيد على موته مرّة بعد مرّة.

إذا كان بعض العرب والفلسطينيين يعتبرون أن لا سلام إلا بإزالة دولة إسرائيل عن خريطة الشرق الأوسط، هناك في المقابل قسم كبير منهم بات يقبل بفكرة دولتين تعيشان بسلام، دولة فلسطينية ودولة إسرائيل التي عليها الانسحاب من الأراضي التي احتلتها بعد 4 حزيران 1967 وتسهّل عودة اللاجئين. فلماذا يرفض الإسرائيليون تحقيق هذا الحل السلمي؟ لماذا يواصلون استفزازهم للفلسطينيين وللعرب من خلال التمييز العنصري بحقهم والسياسات الاستيطانية في الأراضي المحتلة وعدم الانسحاب منها من أجل إتاحة الفرصة أمام الفلسطينيين لبناء دولتهم المستقلة والقابلة للحياة؟ متى ساهمت السياسات القائمة على الاستفزاز والقهر في بناء السلام؟
الأسئلة تفيض حول مسار الصراع العربي الإسرائيلي المستمر بأشكال مختلفة منذ العام 1948، والجواب واحد: إمعان الحكومات الإسرائيلية في ممارسات عدوانية وظالمة لن يقابلها خضوع واستسلام الشعب الفلسطيني. قيل الكثير حول هذا الموضوع. يمكن لتكراره أن يسقط في فخ التعبير الإنشائي الفضفاض. لكن المحاكمة في السياسة يجب أن تبقى مفتوحة. تسترجع الوقائع التاريخية، تدرس وتحلل الحيثيات. تحاول الوصول إلى قرائن… هكذا تستعد للنطق بحكم غير باطل.

حدود الانتصارات العسكرية
للتاريخ مساهمته في التحقيق. هو خير شاهد على أن ما يجري اليوم يشكل نتيجة متوقعة لممارسات حصلت في الماضي القريب البعيد. فحين وصلت السياسة العدوانية الإسرائيلية إلى أوجها في العام 1982، حين أراد الثنائي مناحيم بيغين وآرييل شارون تصفية منظمة التحرير الفلسطينية وقيادتها السياسية بهدف إبعاد فكرة قيام الدولة الفلسطينية إلى أجل غير مسمى، خرجت أصوات محذرة من هذا النمط العدواني ومستشرفة بعدم جدواه على المدى البعيد. مثال على ذلك، يشكل تحليل الفيلسوف الفرنسي، ريمون أرون Raymond Aron، في 25 حزيران 1982، أي أثناء اجتياح لبنان وحصار بيروت، نبوءة لما يحصل اليوم في الأراضي المحتلة من احتجاجات شعبية أو ما يمكن تسميته انتفاضة السكاكين. كتب مقالاً صحافيا جاء فيه: “يخطئ الإسرائيليون بالاعتقاد أنهم سيحصلون على السلام، الذي يبقى هدفهم النهائي، من خلال الانتصارت. فالإرهاب سيولد من جديد حتى وإن جرى استئصال (القيادة السياسية) الفلسطينية وتم وضع اليد على أرشيفها (في بيروت 1982). في داخل إسرائيل، عدد العرب يزداد بوتيرة أسرع من عدد السكان اليهود. أي أن قادة دولة (إسرائيل) سيواجهون، داخل دولتهم، غداً أو بعد غد، وبشكل أو بآخر، فكرة الدولة الفلسطينية والناشطين (لأجلها). يجب على الإسرائيليين أن يتأملوا في كلمة (الفيلسوف الألماني) هيغل حين علّق على الملحمة النابوليونية: عجز الانتصار (العسكري)” (الترجمة للكاتب).

من انتفاضة إلى انتفاضة
لم يتأخر الوقت حتى اكتشف الإسرائيليون أن إبعاد “خطر” المقاومة الفلسطينية عن حدودهم الشمالية لن يؤدي إلى إبعاد فكرة الدولة الفلسطينية. ففي كانون الأول 1987، انطلقت “انتفاضة الحجارة” في غزة والضفة الغربية، التي شكلت دليلاً قاطعاً على حدود القوة الإسرائيلية وعجزها عن تبديد حقوق الشعب الفلسطيني، وبرهاناً ساطعاً على أن ضعف هذا الشعب لا يحول دون إطلاقه للصرخة واعتراضه على التجاوزات والارتكابات والمبالغات الإسرائيلية بحقه في المناطق الخاضغة للاحتلال.
الانتفاضة الأولى تزامنت مع تحولات مهمة على الساحة الدولية، أبرزها انتهاء الحرب الباردة وظهور محاولة أميركية جدية، يتيمة، من أجل حل أزمة الشرق الأوسط. تجلت المحاولة في مؤتمر مدريد، العام 1991، الذي تبنى شعار “السلام مقابل الأرض”. على وقع انتفاضة أطفال الحجارة إذاً دارت مفاوضات ثنائية ورعت الولايات المتحدة عملية سلمية بين إسرائيل و”منظمة التحرير”، الأمر الذي تم تتويجه بـ”اتفاق أوسلو، في العام 1993، الذي تأسست بموجبه السلطة الوطنية الفلسطينية كخطوة تمهيدية للسلام النهائي وإقامة الدولة المستقلة. لكن بدلاً من تحقيق تقدم في العملية السلمية، سلكت مساراً تراجعياً، نتيجة اغتيال رئيس الوزراء اسحق رابين، على يد المتطرفين الإسرائيليين العام 1995، ونتيجة لخيار حركة حماس الرافض لاتفاق أوسلو وتنفيذها عمليات انتحارية.

التيار المتشدد في إسرائيل تذرع بالعمليات الانتحارية لنسف عملية السلام وفكرة الدولتين. كلما حاول الفلسطينيون السيطرة على وضعهم وتغليب لغة الاعتدال على لغة التطرف، كلما لجأ المتشددون الإسرائيليون إلى لعبة الاستفزاز بغية قطع الطريق على الاعتدال الفلسطيني. في شهر أيلول من العام 2000، قام آرييل شارون بزيارة استفزازية لحرم مسجد الأقصى، في خطوة أثارت نقمة المصلين فيه وأسفرت عن مواجهات عنيفة. هكذا تسبّب التعنت الإسرائيلي بانطلاقة الانتفاضة الثانية أو ما عرف بانتفاضة الأقصى. في تلك المرحلة، شعر الفلسطينيون أن انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة، خصوصاً من القدس الشرقية والمناطق الغنية بالمياه في الضفة الغربية، هو مجرد وهم. لذلك لم يجدوا أمامهم من خيار آخر سوى تجديد الانتفاضة، في مرحلة كانت فيها الولايات المتحدة غير مبالية لحل قضية فلسطين.

أرقام برسم المجتمع الدولي
منذ انتفاضة الأقصى وحتى اليوم، لم يلق الفلسطينيون أيّ معاملة تجعلهم يشعرون بأنهم ليسوا عرضة للاستفزاز والإذلال من جانب المحتل. في تقرير صادر عن “جهاز الإحصاء الفلسطيني” في شهر أيار 2015، في ذكرى النكبة، تشير الأرقام إلى أن “عدد المواقع الاستعمارية والقواعد العسكرية الإسرائيلية في نهاية العام 2013 في الضفة الغربية” بلغ “409 مواقع” وأن عدد المستوطنين الإسرائيليين بلغ، في نهاية 2013، أكثر من 580 ألف شخص في الضفة الغربية، وأكثر من 281 ألف شخص في القدس الشرقية. فضلاً عن ذلك، تشير الإحصاءات إلى أن عدد الشهداء الفلسطينيين بلغ بين العامين 2000 و2014، أكثر من عشرة آلاف قتيل، سقط معظمهم ضحية حروب عدوانية لم تجد مجتمعاً دولياً يقوم بردعها. تشكل هذه الأرقام والوقائع دليلاً على إمعان إسرائيل في فرض الأمر الواقع وانتهاك مبادئ القانون الدولي من خلال استمرارها في الاستخدام غير المتكافئ للقوة ضد الفلسطينيين في غزة والضفة والقدس. أليست هذه المعطيات كفيلة بدفع الفلسطينيين إلى الثأر؟ ألم يكن متوقعاً أن يسعى هؤلاء لإطلاق انتفاضة ثالثة ورابعة وخامسة في وجه الاحتلال، أو ما يعرف بانتفاضة السكاكين؟

كلما ازداد الإسرائيليون حدةً وبطشاً كلما ازدادت نزعة الفلسطينيين للمواجهة والانتقام. هكذا تستمر إذاً دوامة العنف إلى ما لا نهاية. دوامة تعجز أمامها الدبلوماسية عن إحراز أي اختراق. فإسرائيل ترفض تقديم حد أدنى من التنازلات، التي تمثل أبسط حقوق الفلسطينيين. في المقابل لم يعد مطلوباً من هؤلاء ولم يعد بمقدورهم تقديم تنازلات إضافية. بناء على ذلك، لا يستطيع الشعب الفلسطيني أن يقف مكتوف الأيدي، يتفرج على مجتمع دولي عاجز وعلى قوى عظمى تتدخل عسكرياً في أفغانستان، في كوسوفو، في العراق، في مالي، في ليبيا وفي سورية، لردع أو معاقبة نظام ديكتاتوري لا يحترم حقوق الإنسان ويضطهد الأقليات، أو إرهابيين يهددون الأمن والسلام الدوليين، في حين أنها لا تحرك ساكناً لردع ومعاقبة دولة الاحتلال الإسرائيلي التي تمارس الإرهاب والتطهير العرقي وتنتهك القانون الدولي وحقوق الإنسان.

السابق
حزب الله وإسرائيل: «رفاق السلاح» الروسي
التالي
حساسية حزب الله المفرطة، وشفافيته البالغة، تأخذ الصحافية ديما صادق إلى القضاء..؟؟