ليذهب الشرق الاوسط الى الجحيم

نديم قطيش

لا ينبغي أن يكون مفاجئاً الاستنتاج الذي وصل اليه إثنان من كبار قادة المخابرات في العالم، من أن «الشرق الأوسط الذي نعرفه انتهى إلى غير رجعة». الرجلان هما مدير الاستخبارات الفرنسية برنار باجوليه ومدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية «سي آي إيه» جون برينان. الأول أنتجت بلاده الشرق الاوسط الذي نعرف بالتحالف والتعاون والتنافس مع برطانيا والثاني ادارت بلاده الشرق الاوسط الآفل، منذ العام ١٩٥٦ وحتى بدايات إنسحابها منه في السنوات القليلة الماضية.
يقول باجوليه أن “دولاً مثل العراق أو سورية لن تستعيد أبداً حدودها السابقة”. الحقيقة الكردية في شمال العراق تؤكد ذلك قبل عقود من تأكيد رجل الاستخبارات الفرنسي. ومثلها تؤكد أيضاً الحقيقة الكردية الناشئة في سوريا، حيث اعلنت قبل ايام قليلة الإدارة الكردية في سوريا عن إقليم جديد في شمال البلاد يضم تل ابيض بعد معارك ضارية لتحريرها من تنظيم داعش. ويُجري الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري مشاورات لفتح مكتب تمثيلي له في روسيا، في سياق جهود كردية حثيثة لتكريس جغرافيا سياسية تخصهم.
بموازاة سوريا والعراق تستعيد ليبيا إنقساماتها الجهوية القديمة، وتمضي نحو لامركزية غامضة لحكم الاقاليم المتصارعة. ومثلها سيكون مصير اليمن الذي تدير كل القوى السياسية المتصارعة فيه عملية اعادة انتاج خرائط قديمة لا مكان فيها الا لسلطات مركزية ضعيفة واقاليم مستنفرة.
أما في لبنان فتتدرج سلطات الامر الواقع في التعبير على طريقتها الخاصة عن الاشتراك في الازمة الكيانية التي تعصف بدول الشرق الاوسط الآفل. ولئن كانت الدولة ضعيفة تاريخياً في لبنان الا ان هذا الضعف اتخذ ابعاداً جديدة، تتجه هي الاخرى نحو تكريس اللامركزية الموسعة كإطار جديد للعقد الاجتماعي بين اللبنانيين. وقد اتخذ التفكك لنفسه عنوان النفايات وتوزيع المطامر وصراعات المناطق للقول إن فدرالية جغرافية باتت تتحفز لترث الفدراليات المذهبية احادية التمثيل والعابرة للمناطق. تمرد بعلبك على حزب الله وتمرد مناطق سنية على زعامة تيار المستقبل تصب في هذا الملمح الغامض لما يصيب لبنان.
قبل كل هذا كان النموذج السوداني وانشطار الجنوب عن السودان يفتتح عصر الانهيارات الكيانية. قد يقول قائل، وهو محق، أن تجربة جنوب السودان الذي سرعان ما غرق في حروب المليشيات التي قاتلت يوماً لتحقيق حلم الانفصال، هو تجسيد لانهيار حلم الكانتونات وثقافة الانغلاق. لكن درس الحاجة الى الآخر وتطوير اشكال المشاركة والتمرن باللحم الحي على تقاطع المصائر والمصالح واستثمار الموارد لا يستقيم بنظريات الوحدة القصرية التي عرفها الشرق الاوسط بعد الحرب العالمية الثانية.
قد يكون الانفصال والتشظي مقدمة ضرورية لاعادة انتاج اشكال متطورة من المشاركة.
من المفارقات المرعبة ان الانهيارات تحصل بأعنف اشكالها في الكيانات الاكثر حدة في التعبير عن الوحدة وتقديسها، فيما علامات الامل المضيئة تصدر عن المجتمعات التي أحسنت تدبير شؤونها ضمن فدراليات طرية بلا أوهام.
فكروا في دمشق وبغداد وصنعاء وتذكروا دبي.
ما قاله رجلا المخابرات بلغة التحذير قد يكون من أفضل ما حصل ويحصل لنا. ليذهب الشرق الاوسط القديم الى الجحيم.

(المدن)

السابق
النتائج الميدانية المتحركة في سورية
التالي
«داعش» يعدم والد زوجة عمر بكري