أوراق سياسات: خمس سنوات بعد الربيع العربي: ما الذي حدث؟

كما انطلقت موجة من التفاؤل بقرب انتهاء الأنظمة الاستبدادية إثر التحرّكات الواسعة في العالم العربي في ثورات الحرية والخلاص من الاستبداد، بدءاً بتونس ومصر وانتقالاً إلى ليبيا واليمن وسوريا وباقي البلدان العربية بدرجات متفاوتة، منذ أواخر العام 2010، كذلك تسود الآن موجة من التشاؤم الشديد على اثر التطوّرات التي حدثت في هذه البلدان إذا ما استثنينا تجربة تونس فقط.

 

بناءًا عليه، سأحاول في هذه الورقة استعراض ما جرى في هذه البلدان بشكل موجز، مع التركيز على ما تمّ انجازه من جهة، وأهم العقبات والعراقيل والتحديات التي واجهتها وما زالت تواجهها عملية الانتقال الديموقراطي، وصولاً لتفسير هذه التطورات وخصوصاً اثارها السلبية على عملية الانتقال الديموقراطي.

 

لكن في البدء لا بدّ من إعادة التأكيد على أن ما جرى لم يكن إلا بداية لعملية تحرّر أو طلب للحرية من الاستبداد ولا يعني ذلك بكل الأحوال الانتقال الميكانيكي أو التلقائي للبناء الديموقراطي. ومما يعني كذلك أن بعض هذه البلدان قد ينجح وبعضها قد يفشل أو يتأخر، إلا أن التحول النوعي الذي حدث في ثورات الخلاص من الاستبداد لا عودة عنه مهما طالت فترات الانتقال أو تعثرت أو حتى تراجعت وانتصرت مؤقتاً قوى الثورة المضادة. ولا أقول ذلك من باب تفاؤل الإرادة، أو منطق الحتمية وإنما من منطلق أن مقدمات وأسباب اندلاع الثورات ما زالت قائمة، لا بل انها تتفاقم وتزداد مع الوقت. ومن جهة أخرى، إذا كانت هذه الأنظمة الاستبدادية فشلت في اقناع الجيل الذي ثار عليها، فإنها أقل قدرة وإمكانية على ترويض الجيل الذي لحق بهذا الجيل أو سيلحق به وسيكون لديه النزعة والرغبة في التغيير بشكل أوسع وأشمل( ).

 

ومع ذلك لا بد من تسجيل ان هذه الانتفاضات أدت الى الأطاحة بأربع روؤساء جمهورية في تونس ومصر وليبيا واليمن. والى تعديلات دستورية مهمة في هذه البلدان بالأضافة الى المغرب والأردن. وسأستعرض ما آلت إليه أوضاع خمسة بلدان عربية هي تونس كحالة نجاح نسبي و اربعة حالات فشل في سوريا وليبيا واليمن والى حدّ أقل في مصر، وسأعرض لما اصابها من تدهور وتراجع في المسار الديموقراطي، لأسباب منها ما هو مشترك ومنها ما هو متباين. لذلك لا بدّ من استعراض سريع وموجز للتطورات داخل هذه البلدان في الخمس سنوات الماضية ولنبدأ أولاً بالحالة الأفضل وهي حالة تونس.

تونس

عاشت تونس في الخمس سنوات الماضية ً تجربة غنية جدا، ومليئة بالصراعات والتحوالت الديمقراطية على أثر سقوط نظام االستبداد ّ الذي كان يرأسه زين العابدين بن علي الذي فر إلى الخارج يوم 14 يناير 2011 ودخلت تونس مذاك مرحلة التغيير)2(. وتكمن أهمية التجربة التونسية بأنها نجحت في الوصول إلى دستور توافقي حصل على 93% من األصوات، وانتخابات برلمانية ديمقراطية اعتمدت التمثيل النسبي ومثلت كل االحزاب والفرقاء، وانتخابات رئاسية ديمقراطية أتت برئيس جديد وأطاحت بالرئيس المدعوم من حركة النهضة اإلسالمية. ّ ثم تم تشكيل حكومة ّ جامعة لكل األطراف تعمل إلدارة األزمات وحلها ً ديمقراطيا ً وسلميا. هذا كله حصل رغم وجود ّ استقطاب سياسي حاد بين جبهة االسالميين تتزعمهم حركة النهضة وجبهة العلمانيين بزعامة حركة “نداء تونس” وتضم إلى اليسار والقوميين أنصار النظام السابق ) ً خصوصا حاملي األرث العلماني للرئيس الراحل بورقيبة( ومجموعات مؤثرة من المجتمع المدني. وقد ّ تكون تونس محظوظة باالرث العلماني الذي تم ارساءه لعقود طويلة حيث استطاعت أن تدير الخالف السياسي مع االسالميين بنجاح. فمن ّ جهة تم احتواء ودفع حركة النهضة )المعتدلة ً اساسا( ّ نحو مزيد من االعتدال، وتم التعامل ّ فة وإبعادها عن التأثير مع الحركات المتطر في العملية السياسية رغم استمرار خطرها وعملياتها الإرهابية.

في المحصلة هناك انتقال للديمقراطية بوجود خمسة أحزاب رئيسية ممثلة في البرلمان، وبوجود مجتمع مدني فاعل ومؤثر على رأسه حركة نقابية مشهود لها ولتاريخها، وعلى رأسها االتحاد العام التونسي للشغل، إضافة إلى نقابات أصحاب العمل ممثلة باالتحاد التونسي للصناعة والتجارة ونقابة المحامين والرابطة التونسية لحقوق اإلنسان)3(. ً هذا التطور في التجربة التونسية أعطى أمال إلمكانية نجاح االنتقال الديمقراطي في البلدان العربية، وإمكانية نجاح العمل الجبهوي ضمن آليات ديمقراطية مع االسالميين المعتدلين، وإمكانية نجاح المجتمع بحماية تجربته وحرياته ّ عبر مجتمع مدني فع َ ال تدخل َ وفرض التسوية ّ الممكنة في ظل استقطاب حاد ساد القوى السياسية خالل عامين من 2012 إلى 2014 ّ وتخلله اغتياالت سياسية ومظاهرات وصدامات فكرية حول شتى المسائل التي يجب أن يتمحور حولها الدستور الجديد.

مصر

اختلفت تجربة مصر عن نظيرتها في تونس. ً فحيث كان الجيش التونسي محايدا في الصراع وكان النظام يعتمد على منظومة أمنية فقط، كان الجيش المصري، وهو الماسك بالسلطة ً منذ عقود، متدخال ً ومشاركا ً ومحافظا على نفوذه وسيطرته إلى أن أعاد مسك السلطة بشكل كامل في 2013. فمنذ بدء األحداث والمظاهرات في مصر في 25 يناير 2011، لم يتدخل الجيش ضد المتظاهرين وأعلن صراحة في 31 يناير أنه لن يطلق النار على المتظاهرين السلميين. هذا الموقف عجل في ترك مبارك واستقالته مع تصاعد االحتجاجات وبروز موقف داعم لها من المجلس األعلى للقوات المسلحة في 10 فبراير 2011.

وفي 13 فبراير 2011 استلم الحكم المجلس األعلى للقوات ً المسلحة وأعلن بيانا ً دستوريا ّ عطل فيه دستور عام 1971 إلى حين إجراء انتخابات وإجراء استفتاء على دستور جديد. وعلى األغلب، ساعد ذلك في الحوار وإدارة الفترة االنتقالية، التي تخللها تفاهم الجيش ً مع القوى اإلسالمية وخصوصا حركة اإلخوان المسلمين. وجرت خالل فترة سنة أحداث كثيرة وعنيفة بعضها كان بسبب حكم العسكر وبعضها ّ جرى ضده، مثل األحداث التي أدت إلى مقتل أكثر من 25 ً شخصا من االقباط في مظاهرة أمام مبنى اإلذاعة والتلفزيون في 9 أكتوبر 2011، وكذلك صدامات الجيش مع الشباب الثائر حول ميدان التحرير وشارع محمد محمود الغريب ّ والتي أدت إلى مقتل 42 من المتظاهرين في 20 نوفمبر 2011، واالشتباكات التي حدثت مع الجيش ً مباشرة أمام مقر مجلس الوزراء احتجاجا على اختيار كمال الجنزوري )وهو من عهد مبارك( رئيسا للوزراء، وأدت إلى مقتل 17 شخصا.

وكان أن أدار الجيش عملية االنتخابات البرلمانية والرئاسية خالل عام 2012 والتي أدت إلى فوز كاسح لالسالميين في انتخابات مجلس الشعب حيث حصلت حركة اإلخوان المسلمين على 45% من المقاعد وحزب النور السلفي على 24% من المقاعد، أما االنتخابات الرئاسية فلقد انسحب منها المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية محمد البرادعي الحتجاجه على عدم ديمقراطيتها وانحصر التنافس بين رمز من العهد القديم هو احمد شفيق، ومحمد مرسي عن اإلخوان المسلمين في جولة االعادة، والتي فاز فيها األخير بفارق بسيط هو 51% من الأصوات.

وفي ظل حكم الإخوان المسلمين لمدة ما يقارب العام، جرى صراع مستتر حينا وظاهر في بعض األحيان بين الجيش كمؤسسة حكم وبين حركة اإلخوان المسلمين. ساند الجيش القضاء وأحزاب المعارضة واالعالم وجمهور واسع من المصريين تملكه الخوف من حكم اإلخوان المسلمين. ولم يكترث الرئيس محمد مرسي واإلخوان المسلمون لهذه الحالة اإلعتراضية الواسعة، واستمروا بسياسة األقصاء وبإرسال ّتهم بالسيطرة الكاملة على إشارات عن ني ُ المجتمع أو ما عرف بأخونة المجتمع. ّ وتم إيقاف العمل بالدستور، ولجنة صياغة الدستور التي سيطر عليها اإلخوان المسلمون، وحاول الجيش عبر إعالن دستوري مكمل أن يقيد صالحيات الرئيس المنتخب وان يبعد الجيش عن سيطرة الرئيس)4(. إال أن الرئيس المنتخب واجه القضاء في مسألة حل البرلمان وشرعية مجلس الشورى ثم ما لبث ان تراجع مع إصرار القضاء على عدم شرعيتهما، وألغى اإلعالن الدستوري المكمل وأحال المشير حسين طنطاوي ورئيس أركان القوات المسلحة وكبار.

قيادات الجيش للتقاعد وعين الفريق الأول عبد الفتاح السيسي قائدا ً جديدا للجيش في 12 أغسطس 2012. ثم استكمل ذلك بإعلان دستوري منحه صالحيات واسعة تحصن قراراته وقرارات الجمعية التأسيسية المناط بها وضع الدستور من الطعن، حدث ذلك في 22 نوفمبر 2012. ّ ت الجمعية التأسيسية مشروع الدستور وأقر المنحاز لفكر اإلخوان المسلمين، رغم اعتراض التيارات المدنية والكنيسة، في 30 نوفمبر 2012 تحت ضغط الشارع والجيش، تراجع مرسي عن ّ على تنظيم الصالحيات الواسعة له ولكنه أصر ّ االستفتاء على الدستور، والذي تم في مرحلتين بين 25-15 ديسمبر 2012 وحصل على موافقة 64% من المواطنين الذين اشتركوا في التصويت.

بدأ عام 2013 بحركات جماهيرية منظمة، ً أخذت أشكاال عديدة ضد الرئيس مرسي وطالبت باستقالته. فجمعت “حركة تمرد” ماليين التوقيعات على عرائض ضد مرسي، وقامت مظاهرات متواصلة ضده وبشكل مستمر أمام القصر الرئاسي، وأعلن القضاء عدم شرعية مجلس الشورى، وأعلن وزير الدفاع وقائد الجيش عبد الفتاح السيسي من أن الجيش سيتدخل إذا حدث اقتتال داخلي. وحصلت مواجهات عنيفة أمام القصر الجمهوري بين متظاهرين مؤيدين لمرسي ومعارضين له، وفي يوم 30 يونيو 2013 انطلقت مظاهرات ضخمة ضد مرسي أعلن ّ بعدها السيسي أنه يوجه دعوة إلى القوى ّ السياسية للوصول إلى حل خالل مهلة يومين، وإلا فإن القوات المسلحة ستعلن عن خارطة طريق واجراءات ستشرف هي على تنفيذها.

وفي 3 يوليو 2013، قرر الجيش بالتوافق مع عدد من القوى السياسية المعارضة لجماعة اإلخوان المسلمين ومع الكنيسة القبطية ومؤسسة الأزهر عزل الرئيس محمد مرسي وتعطيل العمل بالدستور والدعوة إلى تعديل الدستور والى انتخابات رئاسية جديدة وتعيين حكومة جديدة تعزل حركة اإلخوان المسلمين. ّ هذا االنقالب دون مواجهة دموية ولم يمر عنيفة حصلت في 14 أغسطس 2013 ّ خالل فض الجيش العتصام الإخوان المسلمين في ساحتي رابعة العدوية والنهضة والتي أدت إلى مقتل المئات وجرح  5 الآف. تلا ذلك اعتقال المرشد العام والرئيس المخلوع محمد مرسي وكبار قيادات الإخوان المسلمين مع اآلالف من الأعضاء. وفي 18 يناير 2014 ّ ، تم إقرار الدستور المصري الجديد في 2 أيلول / سبتمبر .

استفتاء حصل على تأييد 98% من 20 ً مليونا و613 ً ألف مواطنا شاركوا في االستفتاء. إال أن عودة ّ الجيش مباشرة إلى الحكم في مصر فج ً ر صراعا ً عنيفا مع االسالميين أخذ شكل الحرب اإلرهابية المفتوحة في سيناء، والعمليات اإلرهابية في كل مدن مصر، واستهداف رجاالت الدولة، مما ّ ر تجربة مصر في تسعينيات القرن المنصرم. يكر ّ ومن جهة أخرى تقلصت مساحة الحرية وأقفلت الدولة المصرية ساحات التعبير عن المطالب، ً بما فيها ميدان التحرير، أمام الجميع، وخصوصا ّ الشباب الذين تم اعتقال بعض قادة التحرك منهم وسجنهم، وهم من صنعوا الثورة منذ عام 2011.

وتراجعت الحريات االعالمية وعاد ً اإلعالم ليلعب دورا َّ تعود عليه لعقود كإعالم رسمي يردد مقوالت الدولة والجيش في محاربة اإلرهاب وضمان االستقرار. وهكذا يمكن القول أن التحول الديمقراطي ّ قد تعثر في مصر إلى أجل، وأن المسار قد تغير ُ عتقد أن ً جذريا باستبعاد االسالميين، الذين كان ي مشاركتهم ضرورية الحتوائهم ولنجاح التحول الديمقراطي. ولم تكن تجربة اإلخوان المسلمين ّ نفسها في مصر وال قراراتها مسه ّ لة ومشجعة للتحول الديمقراطي، وهي في كل األحوال كانت تجربة شاقة وصعبة للجيش ولإلخوان المسلمين ولكافة المصريين لما آلت إليه أمور مصر.

ومن جهة ثانية فأن مكسب عودة الدولة ومؤسساتها ال يكون من البوابة األمنية فقط، ً بل يجب أن يكون متكامال في كل المجاالت مع تقديم الحلول للمشاكل االقتصادية واالجتماعية والتطور والديمقراطي بشكل عام)6(. َّ ت التجربة حركة اإلخوان وفي الختام، وكما عر ّ ي المسلمين، فأنها تحتاج إلى بعض الوقت لتعر حكم العسكر وعدم قدرتهم على تقديم أجوبة للمشاكل المطروحة أمام مصر، وسيعود الشباب إلى مركز الحيوية والعمل مراكمين تجربة عظيمة امتدت لثالث سنوات وكان يمكن أن تستمر وتنجح لولا تدخل العسكر واجهاض التجربة بهذه الطريقة لإحكام سيطرتهم العسكرية على الأوضاع في مصر.

 

سوريا

في االنتقال إلى الحاالت األخرى، سوريا وليبيا واليمن، ننتقل إلى تجارب أكثر صعوبة ً وتعقيدا تحولت معها أوضاع هذه البلدان إلى ً فشل كامل للدولة واحيانا إلى انهيار أو تفتت الدولة ومؤسساتها. ّ ت الثورة في سوريا بمراحل مختلفة، مر فهي بدأت سلمية منذ 15 آذار 2011 وانطلقت ً المظاهرات في العديد من المدن ودرعا خصوصا في 18 آذار 2011 ً ، مطالبة باصالح النظام أوال ثم حين واجهها النظام بالعنف الشديد، انتقلت للمطالبة بإسقاط النظام. وشارك في هذه التحركات مئات آالف المواطنين في مظاهرات ضخمة في حمص وحماة ودرعا ومئات القرى والبلدات. ا

لّا أن العنف الشديد والقتل المتعمد لآلالف من المدنيين واعتقال وجرح عشرات األلوف من المدنيين، وتدخل القوى الخارجية ً أدى إلى عسكرة الثورة السورية تدريجيا منذ أيلول/سبتمبر 2011، وتحولها إلى صراع عسكري تدميري عنيف مع النظام في حرب أهلية ما زالت ممتدة إلى اآلن، وفي سيطرة قوى إسالمية متطرفة على أماكن واسعة من سوريا وعلى مجال الصراع ومآله وتطوراته7.

ولقد تطورت الأمور إلى اقتتال داخلي مفتوح والى بروز مناطق كاملة خارجة عن سيطرة النظام، وإنما تحت سيطرة فصائل متناحرة لها ً غالبا برامج ورؤى متضاربة. وبشكل رئيسي، فإن المعارضة المدنية والتي خرجت بصورة المجلس الوطني ثم بصورة االئتالف الوطني لقوى الثورة في تشرين األول 2011 لألول، وفي 2013 للثاني، اعتمدت على فصائل عسكرية انضوت تحت إسم ّ” وتبدو هي والجيش “الجيش السوري الحر ّ أضعف من األطراف اإلسالمية السوري الحر المتشددة التي بدورها حاربتها وأضعفتها ّ فيما لم تنل هي الدعم الكافي المطلوب لتصدر المشهد ولمواصلة القتال والتعبئة بنجاح من قبل كل من القوى اإلقليمية لحسابات خاصة بهذه القوى وبمصالحها ومن القوى الدولية لتخوفها من سيطرة المتشددين على الدعم والسالح المقدم لها.

لقد تم استنزاف كل من النظام والمعارضة، ّ وتم تغيير األولويات بعد صعود داعش وسيطرتها على مدن رئيسية في العراق كالموصل واألنبار، وإنشاء تحالف دولي ضد اإلرهاب لقتال داعش في كل من سوريا والعراق. يعتمد هذا التحالف على استراتيجية طويلة األمد، فيها استنزاف كبير للوضع في العراق وسوريا. من جهة أخرى تبرز بعد داعش جبهة النصرة وهي فرع من تنظيم القاعدة، وتبسط سيطرتها على أجزاء واسعة من األراضي السورية وتتبنى برنامجا ال يتوافق مع برنامج المعارضة الوطنية وتدخل ّ في اشتباكات مع داعش أحيانا ومع الجيش الحر ً أحيانا أخرى، رغم مواصلتها القتال ضد قوات النظام. وفي العسكرة الكاملة للصراع في سوريا، ً يكون النظام قد اشترى وقتا ً إضافيا، حيث سعى ً جاهدا لتبرير استخدام القوة المفرطة، بحجة مواجهة االرهابيين المدعومين من الخارج.

إلّأ أن النظام رغم ذلك بقي يتهالك، وكل المؤشرات ّ تدل على عدم قدرته على حسم المعارك رغم الدعم الخارجي الكبير الذي يتلقاه من إيران وروسيا، ورغم رفده بميليشيات شيعية أبرزها قوات حزب هللا اللبنانية والميليشيات العراقية، وكلها تعمل بتوجيه من إيران. ّ وفي ظل هذه ّ الظروف وبسبب تردد القوى الدولية في دعم ً المعارضة جديا وامتداد الصراع التدميري على كامل رقعة سوريا، ووصول عدد القتلى إلى أكثر من ربع مليون نسمة ومثلها الجرحى والمفقودين والمعتقلين، ونزوح أكثر من ثلث الشعب السوري بين الداخل والخارج في دول مثل تركيا ولبنان والأردن، والتدمير الواسع للمدن والبلدات والقرى، فإن حجم المأساة الإنسانية يكبر إلى مستويات غير مسبوقة وأن مخاطر تفتت الدولة السورية تتزايد:

سيطرة الأكراد على مناطقهم، وداعش على دير الزور ّ والرقة وتوسعه نحو تدمر، وسيطرة النصرة وفصائل إسلامية أخرى على ريف حلب وادلب كما تقاسمهما حلب المدينة مع النظام، وسيطرة الجيش السوري الحر على مناطق واسعة جنوب سوريا في حوران، بينما يسيطر النظام على الساحل ومدنه ودمشق وحمص حماه والسويداء. ّ وفي ظل عدم قدرة أي من ً األطراف، على حسم المعارك عسكريا، فإن ّ األزمة السورية، في مجالها اإلنساني، تستمر وستطول رغم االنهيارات التي حصلت للنظام وآلته العسكرية، والتي أدت إلى انهيار الدولة السورية باالجمال.

لقد ساهمت طبيعة تركيبة النظام األمني في سوريا في إطالة أمد األزمة وفي انتقالها إلى هذه المراحل التدميرية، والى دخول أطراف خارجية عديدة، كتركيا والسعودية وقطر لدعم المعارضة السورية واالسالميين بخاصة، ما ّعز ً ز وجود االسالميين عموما والمتطرفين من ضمنهم. فبعد االنشقاقات التي حدثت للجيش في أوائل أيام الصراع العسكري في عام 2011 ّ َ ، لم يبق في وتشكيل الجيش السوري الحر َ الجيش إلا من كانت له عصبية موالية للنظام وتعزز تشكيل قيادة جيش النظام بشكل رئيسي من الضباط الذين ينتمون إلى األقلية العلوية ويقاتلون مع النظام كأنه قتال وجودي. ّ

وتم رفد النظام باألسلحة والمقاتلين والخبرات من إيران ودعمه وحمايته بشكل سياسي ومعنوي من قبل روسيا، وذلك كله من أجل استدامته إلى حين التفاوض على شكل الدولة المستقبلي. ورغم فشل كل محاوالت التفاوض حتى الآن  فإن الأفق المسدود عسكريا يفترض أن المخرج المالئم إن لم يكن الوحيد هو في الوصول إلى صيغة تسوية عبر التفاوض بين األطراف، دون ُ ّ نتظر هزيمتها أو الحد من داعش بالطبع التي ي تأثيرها مع دخول تركيا للعب دورا مباشرا وأوسع، وذلك للوصول إلى تغيير في صيغة الحكم إلى ّ حكم ائتالفي يعطي المعارضة والسنة دورا أكبر، ويعطي الضمانات لألقليات. لن تتضح صورة وتفاصيل هذه التسوية قبل نضوجها، لكن ّ المؤشرات تدل على هذا المسار منذ الآن رغم احتمال احتدام المعارك واستمرار التدمير الذي ّ قد يطال دمشق المدينة بعد أن تم تدمير ريف دمشق بشكل واسع، ومدن حلب وأدلب وحمص وأريافهم وكذلك درعا والجنوب السوري.

ليبيا

قامت الثورة في ليبيا في 17 فبراير 2011، على أثر أحداث تونس ومصر في شكل انتفاضة ُ شعبية سلمية في البدء، ولكنها قمعت بالسالح من قبل نظام القذافي بما فيه استخدام األسلحة الثقيلة والطيران. وعلى أثر ّ ذلك، تحول الصراع إلى صراع عسكري مدعوم من القوى الدولية ومجلس األمن وبتدخل عسكري من حلف الناتو ضد قوات القذافي. ّ وهكذا تم اسقاط نظام القذافي وقتله واعتقال ابنه سيف الإسالم.

تولّى المجلس الوطني االنتقالي، المشكل ً من أطراف المعارضة، الحكم مؤقتا ً وأصدر اعالنا ً دستوريا في 3 أغسطس 2011 ّ ضمنه جدوال زمنيا لمرحلة انتقالية من 18 ً شهرا تشمل تعيين حكومة مؤقتة وإصدار قانون انتخابي وانتخاب جمعية وطنية تأسيسية. وبالفعل جرت الإنتخابات في 7 يوليو 2012  وتم انتخاب المؤتمر الوطني العام الذي تسلم السلطة من المجلس َّ الوطني الإنتقالي وشكل حكومة في 7 أكتوبر 2012 برئاسة محامي حقوق الإنسان علي زيدان. وجاءت انتخابات ليبيا لتحسر دور الإسالميين ولتعطي أغلبية في اللوائح الإنتخابية على الصعيد الوطني لليبراليين بقيادة محمود جبريل.

لكن ضعف الدولة ومؤسساتها وضعف الأجهزة الأمنية والجيش، حيث كانت القوات المسلحة في عهد القذافي عبارة عن كتائب  موالية للقذافي، وكان لا بد من إعادة تأسيس الجيش، ووجود عشرات الآلاف من الميليشيات المسلحة، وتفتت البلد إلى انتماءات أولية قبلية وجهوية ومناطقية، كلها ساهمت في دخول ليبيا أزمة سياسية وعسكرية يتواجه فيها ما تبقى من الجيش بقيادة لواء متقاعد هو خليفة حفتر مع ميليشيات إسالمية وبعضها متطرف، ً ولكنها مدعومة سياسيا من المجلس الوطني ّ العام الذي تم حله بحكم المحكمة ولكنه استمر ّ في عمله من طرابلس، وتم انتخاب مجلس وطني عام جديد في 2014 وهو يعمل من طبرق مما خلق انقساما سياسيا دستوريا يعمق األنقسام الجهوي.

من جهة أخرى، هناك صراع بين االسالميين والليبراليين على حكم ليبيا وهو صراع عسكري مفتوح على التدخالت الخارجية. وفي وجه آخر، يتمحور الصراع في ليبيا كذلك على عائدات النفط بين المناطق المتصارعة وقبل إعادة بناء الدولة. ّ وفي ظل تدهور األوضاع في ليبيا ودخول داعش إلى ليبيا، تجري محاوالت لضبط األوضاع من المجتمع الدولي واألمم المتحدة عبر جوالت ً التفاوض والحوار، أمال في الوصول إلى صيغة تقاسم للسلطة بين األطراف المتناحرة، أو الوصول إلى حكومة تكنوقراط وتأجيل الصراع أو إدارته عبر الحوار للتخفيف من آثاره السلبية).

 

اليمن

انطلقت ثورة الشباب اليمنية السلمية في 11 فبراير 2011، بتأثير من ثورات تونس ومصر، للمطالبة بالحرية وبتغيير أو إسقاط نظام علي عبدالله صالح. ورغم سقوط المئات من القتلى وآلاف الجرحى بنيران النظام، فإن الطابع السلمي للتحركات لم يتغير رغم وجود السالح وانتشاره بكثافة في أيدي اليمنيين. ونجحت ّ الثورة عبر المبادرة الخليجية التي وقع علي عبدالله صالح عليها، من إبعاد الرئيس وانتقال صالحياته إلى نائبه عبد ربه منصور هادي، االا ان الرئيس المخلوع حصل بموجبها على حصانة  تمنع عنه المالحقة القانونية، وتاليا أبقى على نفوذه في الجيش عبر ابنه ومناصريه.

تسلم الرئيس عبد ربه منصور هادي الحكم في 25 فبراير 2012 وحاول أن يعيد تركيب الجيش وقياداته التي ما زالت تدين بالولاء للرئيس المخلوع علي عبدالله صالح، فأصدر قرارات في 7 أغسطس 2012 باقتطاع ألوية كاملة من الحرس الجمهوري الذي ما يزال يقوده نجل الرئيس علي عبدالله صالح.  ولكن اليمن كان مفتتا بين شمال وجنوب ومطالب للحوثيين ووجود لإلسالم المتطرف والقاعدة. وكان أن دخلت إيران بقوة على خط دعم الحوثيين وضبطت الحكومة اليمنية سفينة شحن قادمة من إيران ومحملة بأسلحة ومتفجرات بغرض انزالها بصورة ً سرية في الشواطئ اليمنية دعما للحوثيين، وذلك في 1 شباط 10 2013. وحاول اليمنيون وبمساعدة دولية تخطي هذه العقبات عبر الحوار الذي بدأ في 18 مارس 2013 بوساطة الأمم المتحدة بين مختلف الأطراف، إلّا أن الحوثيين كان لديهم تطلعاتهم الخاصة وبدأوا بالتوسع بالقتال والسيطرة على المناطق المحاذية لصعدة وضد السلفيين والقاعدة.

وفي حين مددت القوى السياسية فترة رئاسة عبد ربه منصور هادي لمدة عام آخر في 25 يناير 2014 ووافقت على نظام اتحادي جديد للبلاد وتفويض الرئيس بإعادة هيكلة مجلس الشورى لمنح الجنوب، بعد أن انسحب الحراك الجنوبي من مؤتمر الحوار الوطني قبل ذلك في 27 نوفمبر 2013، وكذلك منح الحوثيين، مزيدا من التمثيل، كما منحت الرئيس حق االشراف على صياغة الدستور الجديد. لكن الحوثيين استكملوا سيطرتهم على مدينة الخمري، معقل زعماء قبيلة حاشد، وتجددت المواجهات بينهم وبين القبائل في أرحب بعد انهيار الهدنة في شباط 2014. وفي تموز 2014، سيطر الحوثيون على محافظة عمران شمال اليمن وانتقلوا في آب 2014 إلى التظاهر ً في صنعاء احتجاجا على ارتفاع أسعار الوقود، وطالبوا بإسقاط الحكومة واعتصموا في صنعاء وحشدوا مسلحيهم حتى وقعت صدامات بينهم وبين بعض كتائب الجيش اليمني.

وفي 21 أيلول 2014 سيطر الحوثيون على صنعاء وعلى كل المقرات الرسمية بمساعدة ألوية الجيش المناصرة للرئيس المخلوع علي عبدهللا صالح في انقالب على السلطة أدى إلى توسع سيطرتهم على مرفأ الحديدة والبيضاء في وسط اليمن ممهدين الطريق الجتياح جنوب اليمن.

وفي 6 شباط 2015 ، أصدر الحوثيون اعلانا  دستوريا  نص على عزل الرئيس عبد ربه منصور هادي وتعطيل الدستور وتشكيل المجلس الثوري الرئاسي. واستطاع الرئيس المحتجز الهرب واللجوء إلى عدن جنوبي البالد حيث أعلن من هناك رفضه إلجراءات الحوثيين واستمراره بمهامه.

تحالف الحوثيون مع الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح والقوات الموالية له وفي 21 مارس 2015 تقدموا نحو مدينة تعز، البوابة الموصلة إلى عدن وثالث أكبر المدن في اليمن. وفي 25 مارس 2015 وبعد نقل الرئيس إلى الخارج، وتقدم الحوثيين نحو عدن، أعلنت السعودية عن قيام تحالف من عشر دول بقيادتها في مواجهة الحوثيين وانصار الرئيس المخلوع علي عبدهللا صالح وايران التي دعمتهما، وانطالق عمليات قصف جوي، أسمتها عاصفة الحزم.

وغرقت اليمن في حرب أهلية أدت الى تفتت وانهيار الدولة ومؤسساتها، ودخل السالح اليمني المنتشر والقبائل إلى القتال في معظم المناطق ضد الحوثيين، بينما تدمر الغارات السعودية المدن والمواقع المحصنة واالثرية، وتدهور الوضع األنساني ووصل األمر إلى إعالن األمم المتحدة أقصى حالات الطوارئ الإنسانية في اليمن، الذي يحتاج فيه أكثر من 21 مليون شخص أو 80% من الشعب اليمني إلى مساعدات لنقص االغذية والمياه وانتشار الأوبئة.

الخالصات  أولاً:

كشفت هذه الأداث أن العامل الحاسم والمؤثر في التغيير أو عدمه أو اخفاقه، إنما يعتمد على مدى قدرة الدولة، كبنية وكمؤسسات ومنها الجيش، وكشرعية شعبية أن تتعامل بمرونة وتجاوب مع الضغط الشعبي، أو أن تنهار وتعود الوالءات األولية في المجتمع من انقسامات طائفية وإثنية وقبلية وجهوية وغيرها لتسود. ويوضح الشكل البياني ما نقصده مع ادراج تجارب الدول العربية ومدى تأثرها.

 

في حالات عديدة انكشفت الدولة التسلطية التي تصهر المجتمع والفئات جميعها بالقوة والقهر تحت نظام تسلطي وشمولي وخصوصا في حالتي سوريا وليبيا، وكذلك حالة العراق تحت حكم صدام حسين. فعندما يتمرد المجتمع، بثورة الشباب في اليمن وثورة المقهورين في سوريا وليبيا، أو سقوط نظام صدام حسين في العراق، تلجأ الدولة إلى العنف المفرط كما في حالة ً سوريا، وكما حاول القذافي ومنعه تدخل حلف الناتو عسكريا، وحاول علي عبدهللا صالح ومنعته َ المبادرة الخليجية إلى أن تحالف مع الحوثيين ودخل كشريك في إعادة السيطرة على اليمن، وكما هو حال العراق بعد 2003 وعلى اثر السياسات االقصائية للحكومات العراقية بعد ذلك، وخصوصا ّ حكومة المالكي، تجاه المكون السني في المجتمع العراقي، وبدعم من ايران.

ولكن الدولة في هذه الاحوال تفقد شرعيتها وهذا ما يؤدي الى سقوط حاجز الخوف عند الجماهير وانتفاضتها، والى استمرار الصراع الاهلي، فتسقط فكرة الدولة ومؤسساتها وينقسم المجتمع ويعود إلى ً انتماءاته الأولية ليحتمي فيها، ويقاتل من أجل البقاء أوال ويقاتل البعض منه بوعي وتصميم من أجل التغيير. في ظل هذا االنقسام، وكما في كل حاالت االنقسام المجتمعي، تدخل األطراف الخارجية بحجة دعم أحد الأطراف، ومن أجل استثمار مصالحها وتوسيعها وحمايتها في ظل هذا الصراع المفتوح على التغيير.

أما في حالة استمرار الدولة ومؤسساتها وشرعيتها، فإنها إما ان تستطيع أن تشتري األمن والإستقرار بتقديمات وتنازالت مالية للفئات االجتماعية، كما في حالة دول الخليج أو تلجأ الى القمع ّ و قليل من التقديمات مستغلة الصراع اإلقليمي كما في حالة البحرين والى حد ما الجزائر والسودان.

وفي الأردن كذلك مورس مزيج من القمع والتقديمات والتنازالت الشكلية أمنت استمرار النظام في تعظيم الخوف من الالاستقرار في المحيط وفي االستقطابات اإلقليمية الحادة واثرها على أيلول / سبتمبر 2015 13 دولة صغيرة، اضافة الى التخويف من األنقسام الشرق األردني والفلسطيني األصول. ً أما في لبنان، فإن إسقاط النظام الطائفي، كان وال يزال مطلبا ً طموحا في ميزان القوى عام 2011 وقبله وبعده. ولكن الى األن لم تعكس ذلك موازين القوى السياسية واالجتماعية المهيمنة، حيث ما زالت بنية النظام الطائفي أقوى من الفئات األجتماعية المدنية الشابة التي تحمل هذه المطالب. ّ وأما أن تحدث ثورة ناقصة ومحدودة ويتم الارتداد عليها كما في حالة مصر التي تم تقديمها، فلقد تمكنت الثورة من إحداث التغيير في رأس النظام واإلطاحة بالرئيس مبارك، ولكنها لم تضع مطالبها في برنامج يوحدها حيز التنفيذ في مواجهة الجيش الذي قاد المرحلة االنتقالية وتوافق ثم اختلف مع حركة اإلخوان المسلمين. ً لذلك استمرت الدولة والنظام كبنية، وخصوصا مؤسسة الجيش، دون أن يتم االنتقال إلى مؤسسات ديمقراطية.

وحتى الدستور الجديد ومواده المؤيدة للحرية والديمقراطية بقيت معرضة لالنتهاك والتناسي. وتبقى اإلشارة إلى احتمال نجاح التحول الديمقراطي كما في حالتين ناجحتين هما تونس والمغرب، فتونس بشكل أساسي، استطاعت، بفضل حياد الجيش واستمرار الدولة كمؤسسات، االنتقال إلى دستور وحكومة ومجلس تمثيلي ديمقراطي رغم كل الصعوبات والتحديات. أما في َّ المغرب فإن االنتقال التدريجي كان وما يزال محدودا ولكنه أمن التوافق المطلوب واالستقرار واالستمرار للدولة ولمعظم بنية النظام، و يبقى التخوف قائما من احتمال االرتداد عليه من قبل النظام الملكي.

ثانيا: أن عملية الانتقال الديمقراطي، هي تفكيك لبنية الاستبداد ومؤسساته وثقافته  وايديولوجياته، وهي بذلك عملية صراعية بامتياز وستأخذ حتما ً وقتا طويال بحسب درجة مقاومة االستبداد وبحسب الثورات المضادة واالجراءات المضادة التي يمكن لبنية األستبداد أن تقوم بها، وبحسب قدرة الكتلة االجتماعية المطالبة بالحرية والديمقراطية وقدرة قياداتها على تطوير برنامج التغيير وفرضه. ففي حالة الربيع العربي، سقط التسلط الفئوي العائلي التوريثي أو ما يسمى الدولة السلطانية ولكن هذا لم يصل إلى اسقاط منظومة التسلط األمنية – العسكرية وضبطها ً دستوريا ً وقانونيا ألن القوى االجتماعية، الحامل االجتماعي والتاريخي للتغيير لم تكن قادرة حتى اآلن على فرض الضوابط الديمقراطية بشكل سلمي وألن تأثير الدومينو السلبي عبر المواجهات الدامية التي حصلت في سوريا بشكل رئيسي، جعلت الكل ينقلب على منطق التنازالت الديمقراطية، كما في اليمن وليبيا ومصر باألضافة الى تعقيد الصراع مع تجربة االسالميين غير المشجعة في الحكم.

ومن جهة ثانية، ومع استبعاد الاسالميين، فيما عدا حالتي تونس والمغرب، فإن خالفات قوى التغيير أضعفت برنامج التحول الديمقراطي وأجهضته، إن لم تدفع به في بعض الحاالت إلى إعادة االستبداد عبر ثنائية إسالم متشدد عنيف أو أنظمة استبدادية عسكرية تحفظ االستقرار، والتي عاش عليها النظام الاستبدادي العربي لعقود خلت.

ثالثا: ما زالت إشكالية الإسالم السياسي وتطويعه ديمقراطيا وسلميا دون حل، حيث فشلت التجربة في مصر، وانتشر اإلسالم العنفي والمتشدد في المنطقة. ورغم استثناء حالة تونس، فإن مسيرة اإلسالم السياسي إلى انحدار. رغم ذلك قد يخرج من رحم هذه التجربة في المستقبل إسالم سياسي مدني معتدل يقبل بمرجعية الدولة المدنية وأطر الديمقراطية.

إلّأ أنه بالمحصلة الأن، فشل مشروع استقطاب الإسلاميين، وعلى رأسهم الإخوان المسلمين، إلى القبول والإشتراك بالديمقراطية التعددية. ولكن المسؤولية مشتركة بين الإسالميين لتجربتهم القاصرة وغير الديمقراطية وقوى الثورة المضادة لقمعهم هذه التجربة بالقوة والعنف، وكذلك لضعف القوى المدنية الديمقراطية وضعف تأثيرها في هذا الصراع الثنائي بين العسكر والاسالميين عموما.

ذلك لا يمنع من استثناء تونس، التي تم شرح حالتها سابقا، وخصوصا أدوار الجميع فيها بما فيه دور النقابات والمجتمع المدني وحركة النهضة والتراث العلماني البورقيبي واألحزاب اليسارية والقومية. ً رابعا: إن تسلسل أحداث الربيع العربي تعرض مع الوقت لتأثيرات إقليمية ودولية سلبية للغاية.  فمع الصدامات العسكرية تم استغالل االنقسامات االثنية والطائفية والقبلية والمناطقية لتحقيق مآرب ومشاريع كبرى لدول إقليمية طامحة مثل إيران وتركيا، ودول إقليمية مرعوبة، وتواجه بتأجيج الطائفية كسالح السعودية.

والحقيقة أن الجميع لم يتدارك هذا البعد للطائفية منذ السبعينات وانتشار الأصولية السنية وقيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية وصوال إلى الغزو الأميركي للعراق  وسياسات الحكومات العراقية الاقصائية وخصوصا  حكومة المالكي مما أجج الصراعات الطائفية ونقلها إلى مستوى غير مسبوق في العراق وانتقلت إلى سوريا واليمن والبحرين بفعل دخول ً هذه الصراعات اإلقليمية لتقود وتؤثر في سير األمور بعيدا عن مصلحة هذه الشعوب بالتطور الديمقراطي.

خامسا: أدى هذا الاستعار الطائفي الى صعود قوى إسالمية إرهابية متطرفة مثل داعش والنصرة وكل فروع القاعدة، كما الى صعود الميليشيات الشيعية في العراق ولبنان، والحوثيين المدعومين من إيران في اليمن. وسياسة الحذر التي اتبعها المجتمع الدولي وعلى رأسه الواليات  المتحدة تجاه التغيير في األنظمة التسلطية، ومن ثم دخول الصراع مرحلة مواجهة اإلرهاب غي َّوبدل األولويات عند األطراف الدولية وعلى رأسها الواليات المتحدة واوروبا، حيث صارت األولوية ّ بدل التخل ّ ص من تسلط الحكام، الحرب على الارهاب.

ولكن الحرب على الارهاب في استراتيجيتهم طويلة النفس وقاصرة وتزيد من معاناة شعوب المنطقة وانتشار الدمار والكوارث الإنسانية. في ظل هذا المناخ يتراجع برنامج التحول الديمقراطي ويتم تجاهله على أنه غير ممكن، غير وارد، غير ً قابل واقعيا للتحقق وبنفس ثقافوي استعالئي يالمس العنصرية تحت شعار مكافحة األرهاب. ً سادسا: ً غالبا ً ما يكون هناك دورا ً ايجابيا لألطر اإلقليمية والدولية لتلعبه في إدارة الصراعات ً وتوجيهها سلميا ً وديمقراطيا كما في حاالت أميركا الالتينية وآسيا وحتى إفريقيا. أما في الحالة العربية، فإن االطر اإلقليمية تكاد تكون غائبة، وهي محصورة في جامعة الدول العربية، التي تعكس رغبات وتطلعات األنظمة العربية في حالتها المترهلة والمتراجعة، فال تلعب الجامعة العربية ً دورا  في الوساطة أو التفاوض أو التوجيه أو إدارة األزمات للحد من آثارها التدميرية والعنيفة. وهذا ّ الكالم ينطبق إلى حد كبير على االدوار الشكلية والبيروقراطية التي تلعبها األمم المتحدة دون فعالية الى األن في سوريا واليمن وليبيا.

سابعا:

لا بد من الإقرار بأن تجربة الربيع العربي كشفت عن هزال وضعف البنية المؤسساتية  للاحزاب والمجتمع المدني والأحزاب المعارضة بالتحديد، فما كان ايجابيا في البدء كتحرك جماهيري  شبابي عفوي واسع، أصبح مقيدا عندما لم ينتظم في اطر مؤسساتية حزبية منظمة قادرة على مقارعة قوى الثورة المضادة من جهة، واالسالم السياسي من جهة أخرى. كما أن آليات العمل الديمقراطي والثقافة الديمقراطية ما زالت جنينية ولم تنضج بعد، ولو أن هذا يحتاج إلى وقت طويل مع تبدل المفاهيم والممارسات.

فعلى سبيل المثال لم يكن هناك محاوالت جدية لتطبيق مفاهيم العدالة الانتقالية والمحاسبة والمصارحة والمصالحة كما حدث في جنوب إفريقيا وفي بعض دول أميركا الجنوبية وآسيا. وما لم يتم الانتقال من منظومة التفكير بالسلطة كغنيمة، وبالانتخابات كفرصة، والحوار كتذاكي، إلى مفاهيم التشارك وتداول السلطة والتغيير السلمي الديمقراطي وصوال إلى المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات واحترام حقوق الانسان ودولة الحق والقانون، فإن مسار الانتقال الديمقراطي سيبقى وعرا ً وشائكا وعرضة للتراجع والتدهور. ً إلا أن الجيل الذي ثار على أنظمة التسلط ورفع شعارات واقعية، قادر أن ينجب جيال أفضل وأكثر ً تمكنا ليواصل النضال معه من اجل الحرية والديمقراطية وحقوق اإلنسان وتقدم الشعوب وتحسين نوعية الحياة في المنطقة المنكوبة بالفساد والتسلط والتي تنتكب اآلن بمزيد من التطرف والغلو واليأس.

(ademocracynet)

السابق
اسرار الصحف المحلية الصادرة يوم الثلاثاء في 27 تشرين الأول 2015
التالي
ملخص للمبادرة الروسية: ضمانات بعدم ترشح بشار وعدم محاكمته