الأخلاق والحراك المدني

محمد علي مقلد

في تعليقه على شأن يتعلق بالحراك المدني قال أحد قادته من الاصدقاء، إن “علو المقام الاجتماعي والسياسي لا يأتي من كون الشخص سليل زعامة موروثة، لأن هذا هو مقام زائف، بل من كونه بالتحديد غادره إلى موقع النضال في صفوف الكادحين، لأن المقام المرموق الحقيقي هو حين يتخلى المرء عن مقام الزعامة الزائف”. وجهة نظر”موروثة”، هي الأخرى، من مرحلة الحماسة اليسارية التي يريد صاحبنا أن يتجاوزها نحو جيل يساري جديد نشأ من داخل أزمة الحزب الشيوعي وفي خضم الحراك المدني. وإن صح قياس علو المقام بمعياره هذا، فلا يسار جديداً سيولد ولا حراك مدنياً سينجح.

بل لو صح معياره هذا لما كانت حاجة إلى يسار جديد ولا إلى حراك مدني، ولكان على اليسار القديم أن يقطف اليوم ثمار نضال دؤوب لم يكن ينقصه لا صدق ولا تفانٍ ولا نكران ذات، بل كان ينقصه فقط فهم صحيح لمنظومة القيم الاجتماعية، منظومة ناضل لكي يجددها بخريطة طريق ملتوية ومع حلفاء لا يتقنون غير التدمير. أن “يعود” أي صاحب مقام مرموق إلى موقعه مناضلا بين الكادحين هو ترجمة غير صحيحة بل مسيئة لقيمة المساواة التي رفعتها الثورة الفرنسية( الرأسمالية) بين شعاراتها الثلاثة ، إلى جانب الحرية والإخاء. مضمونها في الحضارة “الرأسمالية” يعني مساواة بين المواطنين أمام القانون. تأويلها البلشفي أفرغها من محتواها، وأغفل ما ورد في العبارة الماركسية “من كل حسب طاقته”، قافزاً فوقها، بل هو انتهكها لينزع الموقع المرموق من “علية القوم” القدامى، ويمنحه لأعضاء في حزب الطبقة العاملة ويجعله حكراً عليهم.

هذا التشويه لقيمة المساواة ألغى المعايير السليمة لبناء الدولة وأحل محلها أخرى. من مواصفات الدولة في الرأسمالية، الكفاءة وتكافؤ الفرص. في الدولة السوفياتية والأحزاب التي دارت في فلكها، شيوعية أو يسارية أو تقدمية أو قومية ، صار الولاء الأعمى هو الكفاءة. الحزبي النموذجي ينبغي أن يكون مثالاً في الطواعية والالتزام وفي كتابة التقارير. وإن توفرت تلك الشروط صار هو المرشح ليكون مدير المستشفى بديلاً من طبيب العالم أو إداري ناجح غير حزبيين، أو ليكون هو مدير المعمل أو المصنع بديلاً من المهندس المبدع. ذلك كان في دولة عظمى. تخيل كيف ستكون الحال في جماهيرية القذافي “العظمى” هي الأخرى؟ المضمون المشوه للمساواة هو الذي أوحى لليسار بشعار جميل ومساواتي في ظاهره، هو ديمقراطية التعليم. حين طرح بشجاعة و حسن نية، كان المقصود به التعليم للجميع والمساواة في فرص التحصيل.

كان الشعار واحداً من الأسس التي قام عليها صرح الجامعة اللبنانية ومجدها أيام الجيل القديم، لكنه انتهى مع الجيل الجديد إلى تدمير بعض كلياتها التي “يتساوى” فيها الجميع طلاباً وأساتذة وموظفين، لأنها لم تحترم مبدأ ” من كل حسب طاقته”. ساوت بين طاقاتهم وإمكاناتهم فبدا الجميع فيها سواسية كأسنان المشط. ربما كانت مشيئة ربانية نطقت بها الآية، ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة. من يدري؟! المواطن في الرأسمالية صار الرفيق والأخ في الأحزاب والحركات، ثم صار “الحاج” في بعض الكليات ذات الغلبة الاسلامية، فاكتملت صورة المساواة بين الاستاذ والطالب والموظف.

 

هو المضمون ذاته للمساواة الذي أباح لمن يشاء أن يتوظف في الجامعة أو يتخرج منها حتى لو كان أمياً. إنها المساواة في الولاء للقيم الجديدة ضد القديمة. في الحرب الأهلية اللبنانية ثار الرفاق والإخوة على “الاقطاع السياسي” وعلى الطقم القديم. حين حطت الحرب رحال جولاتها الأولى، وحين رأى اللبنانيون الثورة تؤتي ثمارها مجموعة من اللصوص والشبيحة ورجال السياسة الصغار، ترحموا على رجال الدولة الكبار. أعلن الجيل الجديد ثورته على “المفاتيح الانتخابية” الصدئة، وسرعان ما اكتشف أنه أكثر حاجة إلى حكمة أولئك المفاتيح منه إلى صدق مراهقي الثورة وإخلاصهم وتفانيهم، إذ ليس بالشجاعة وحدها ينتصر الثوار، كما اكتشف أن بدائل “أبناء البيوت” هم أبناء الشوارع.

“إبن البيت” هو الذي أنشأه “البيت” ورباه على التعلق بالقيم واحترامها. تربية الشارع تمضي به في اتجاه آخر. وفضائل الأحزاب أنها لم تكن كالشوارع، بل كانت تشبه تلك البيوت في تربية المناضلين على الأخلاق، لكنها كانت تختلف عنها في سوء تعاملها أو تفاهمها مع التاريخ والأجيال. من تعلق منهم بقيم “البيوت” شب مناضلا وشاب مناضلا، ومن لم يحترم التاريخ سرعان ما كانت تلفظه ساحات النضال، لينضم إلى زعران الشوارع ويتمثل قيم الميليشيات. بعض قادة الحراك المدني يكررون الخطأ، فيخوضونها معركة مع التاريخ وبين الأجيال، جديد ضد قديم، متسلحين بالكثير من الحماسة والاخلاص، وعليهم أن يتعلموا أن التصويب الخاطئ في الماضي أردى الثورة وأهلها، لأن من لا يحسن استخدام السلاح قد يؤذي نفسه أولا قبل أن يصيب خصمه بالأذى. لقد بلغ الفساد اليوم ذروة غير مسبوقة، ومعركة الحراك المدني هي ضد الفساد وأهله من كل الأجيال، وعلى الثورة، إذن، أن تضم في صفوفها كل المناضلين ضد الفساد، إلى أي جيل انتموا، وعليها أن تبحث، بالسراج والفتيلة، عمن هو من علية القوم بكل المقاييس القديمة والجديدة، التقليدية والثورية. المنتمون إلى علية القوم هم كالرأي في قول المتنبي، “الرأي قبل شجاعة الشجعان”.

(المدن)

السابق
حملة «دفى» تجمع إعلاميين وناشطين لمساعدة الفقراء لبنانيين وغير لبنانيين
التالي
نصرالله: لا يراهن احد على التغييرات الاقليمية وعلى القوى السياسية التحاور لانقاذ لبنان