الحرب التي اخذت معها كنيستنا ومسجدنا

كان صوت خال والدي، المرحوم الحاج ابو رضا مقلد، يدخل رقيقاً حنوناً الى وعينا ووجداننا عندما كان يدور فوق المئذنة لتلاوة السّور القرآنية والآذان.
أذكر أنّه كانَ يضع على رأسه ” ألُّوسة الحجاج “. كانت في حينها نادرة نُدرة الحجَّاج أنفسهم. كان السعي الى الحج بحاجة الى جهد وتعب وقوّة إيمان.
الى منزلنا الملاصق للمسجد والكنيسة كان يعرّج بشكل شبه يومي، قبل صعوده أو بعد الانتهاء والدعوة الى قراءة الفاتحة. هو كان على مستوى ثقافيّ جعله لا يتدخّل في شؤون الغير. لم أسمعه يوماً يسأل والدي حول سبب امتناعه عن الصلاة في داخل المسجد. كان يقوم بما يمليه عليه ضميره وايمانه بدون مقابل… وهكذا أدخلَ الإيمان في نفوس الكثيرين وعمّقه عند آخرين.
كان أثَر صوته يُجبر المستمع، الطفل أو المراهق أو الكبير على التفكّر والتفكير. في صوته الهادئ ثمّة بحّة سماوية تنقل الآخرين الى مكان أكثر أماناً واتزّاناً. وعلى الرغم من عدم معرفتنا في تلك الأيام بما يُسمى ” الميكروفون “، إلا أن ذلك الصوت الرقيق الخجول كان يصل الى أبعد نافذة منزل في القرية ليدخلها مُرَحّباً به في كل أذن مستمع.
الى الكنيسة كان ” يُبَكِّر ” هيكل الياس ” أبو جريس ” أيام الآحاد بالحضور الى هناك. عليه واجب دعوة المصلّين وتجهيز ” القُدّاس ” عبر دق الجرس. كان أبو جريس يشتهر بشيئين: طيبة قلب لا حدود لها وعين زجاجية رُكبّت بلا عناية مكان واحدة فقئت. كان أبو جريس في أيام الآحاد يحرص أن يكون أنيقاً… قميص أبيض وبنطال كاكي أو أسود، رغم أنّ رائحة الحانوت الذي كان يملكه كانت وكأنّها مطلية فوق جسده. من على سطح منزلنا كنت أراقب اهتمامه ودورانه الدائم حول الخوري أو المطران في باحة الكنيسة الخارجية.
تزامن دخول الميكروفون مع بداية الحرب الأهلية، ليغيب خالي الحاج أبو رضا وتحلّ مكانه ” أسطوانة ” وضعت على طاولة قرب باب المسجد الدّاخلي. هذه الماكنة غالباً ما كانت ” تُعلِّق ” وتردّد الكلمة نفسها لدقائق قبل أن يهرع أحدٌ منّا الى ” تحريرها “…
حلّت مكبرّات الصّوت مكان صوت خالي… وأصبح الشباب يأخذون على عاتقهم مهمة ” دقّ الجرس ” مكان أبو جريس. لم يكن هدف هؤلاء الا أن يَصِل صوت الجرس الى أبعد حدّ ممكن… هدوء خالي وصوته الرقيق وحركة يد أبي جريس الناعمة أصبحا في خبر كان… أمّا نحن ” ولاد المتاولة ” فقد بدأنا نتحصّن على سقف المسجد مقابل ” ولاد المسيحية ” الذين أخذوا من سطح الكنيسة وقنطشها مراكز لهم… كنّا نتقاتل عبر رمي الحجارة أو حبوب فاكهة مهترئة، وأحياناً كثيرة كانت المنازلة تتحول الى صراع بالأيدي والأرجل والعضّ بالأسنان!
بدأ التعايش بالموت… إنها الحرب البشعة. لم نكن نعرف لماذا بدأت وكيف ستنتهي… كنّا فقط نصغي الى ما يقوله ” زعماء الثورات ” حينها… نصفِّق

من دون أن نعرف لماذا، ونبكي من دون أن نعرف لماذا؟
تدرّبنا على ” طهي ” النشاء والسكّر والماء من أجل لصق صور الشهداء… في الجانب الآخر كَتَب شبابٌ مسيحيون على الجدران عبارة ” لبنان للبنانيين، أحبّه أو غادره “…
انها الحرب التي أخذت معها الكنيسة بعدة قذائف كما المسجد الذي سقط، وسقطت معه كلّ الذكريات الجميلة للأديان البريئة الخالية من التعصب والجهل… مات خالي، ومنذ سنوات قليلة صعد أبو جريس أيضاً الى السماء. هناك سيعملون سوياً مع الملائكة من أجل عودة الصدق والبراءة والمحبة بين كلّ أطياف البشر.

 

السابق
صفّ حكي
التالي
«ملتقى التأثير المدني»: صُنّاع القرار في مأزق والحراك في مأزق