مريم شمص «حافية بين عمرين»

مريم شمص
عن (دار الفارابي في بيروت) صدرت للكاتبة والمحامية اللبنانية والشاعرة مريم شمص، رواية بعنوان: "حافية بين عمرين" (في طبعة أولى 2015). منها: هنا صيدا القديمة... صوت طرق متواصل يأتي من الخارج، خلفيته الموسيقية أزيز منشار كهربائي لا يتوقف عن العمل فيا لمنشرة القديمة الملتصقة بحائط المنزل.

بائع خضر متجول يجر عربة خشبية متهالكة ستصبح فور دخولها الحارة نجمة المشهد الصباحي، إذ ستترك كل النسوة فناجين قهوتهن وثرثراتهن المبعثرة بين رماد السجائر ليتسابقن في اقتناص أفضل ضمة بقدونس لتبولة الغداء أو أرشق قرن لوبياء للطبخة اليومية.

صوت المطر الخريفي الخجول يدق باستحياء سطوح الأترنيت التي رفعت فوق بعض الأزقة الصلعاء لحماية المارين من استحمام إلزامي… وفوق كل هذه الأصوات، صوت عريض يحجب كل ذاك الضجيج: صوت الغسالة التقليدية الضخمة ذات الحوضين، تهدر حيناً بصوت جهوري وقح، وتئن حيناً آخر كامرأة حين مخاضها.. وأمي، بكامل نشاطها، تنقل الثياب من حوض الغسيل إلى حوض التجفيف، وتضع الملابس الداخلية البيضاء والمناشف في وعاء معدني ضخم فوق الغاز المتهالك، مع قرص “النيلة” الأزرق لزيادة البياض الناصع…

مريم شمصوأنا.. غارقة في بحر من الأصوات والروائح والمشاعر، متمددة على الكنبة العريضة ذات النقوش الكحكلية، مأخوذة كلياً بقبلة سينمائية طويلة يتبادلها رشدي أباظة وماجدة الصباحي تحت مطر غزير في فيلم “المراهقات” الشهير… وكل حواسي مركزة بين ذراعيه القويتين يعصر بهما ثوبها البيتي الخفيف، أكاد أشعر بحرارة القبلة على شفتي، ويكاد لهيب الحب المتصاعد من عناقهما يحرق قلبي.

أمي تناديني، أسمع صوتها ولا أسمعه، كأنه يأتي من مكان سحيق يختلط فيه هدير الغسالة العجوز التي تزأر لبلوغ نشوتها بالتنظيف، بأصوات أطفال يلعبون خارجاً بين الأزقة، بضجيج أحلامي الرومنسية التي أججها صوت رشدي أباظة يهطل شغفاً ووعوداً بحب لا يموت… لأتنبه من شرودي على ألم يغزو كتفي اليسرى، ألم سببه فردة من حذاء أمي البلاستيكي المضاد للتزحلق، أصابتني ضربة مباشرة محكمة التسديد من يدها المبتلة يتبعها صراخ هستيري: هل سمعتني الآن؟ قومي انشري الغسيل ليجف، أم تظنين نفسك ماجدة وستتزوجين رشدي أباظمة يا ابنة بطني؟!

أخفف السرعة تدريجاً وأنا أحاول التوقف تماماً في أقصى يمين الشارع الخالي تقريباً.. أحتاج أن أضحك حتى البكاء… أن أضحك ملء حزني، وملء دموعي… لماذا يخترق وحدتي دائماً هذا المشهد؟! أو بالمعنى الأصح لماذا أنا أخترق حرمة سكونه الأبدي في قبر الماضي الذي مهما حاولت، أبداً لن أعود؟!

هي ليست صيدا القديمة إذاً هنا…

هي ليست الطفولة البعيدة بأصواتها الحميمة وروائحها الدافئة… هنا.. ليست الحارة.. ولا سقوف الأترنيت… ولا عربة الخضار المتجولة… ولا الغسالة العجوز ذات الحوضين.. ولا صراخ الأطفال في الأزقة… ولا استرخاء مراهقة أمام شاشة سحرية….

هنا ليست أنا الطفلة… ولا أنا المراهقة…

هنا أنا الجديدة…

هنا الرملة البيضاء…

“يا سنيني اللي رحتي ارجعيلي

ارجعيلي شي مرة ارجعيلي”

إصبعي تضغط بجنون على زر الـvolume، الصوت يعلو حتى يكاد ينقطع نفسه وإصبعي لا تزال تضغط…

كأنها تستجدي هذا الزر أن يستجيب لها إلى ما لا نهاية… كأنها تستجدي هذا الصوت أن يغرقني، أن يجرفني في أمواجه حتى أختنق بزبده وأضيع…

الضياع… هذا ما كنت فعلاً استجديه… الضياع كخلاص، كمفر من ضياع أفظع وأعمق، ضياعي عن نفسي التي أفتقدها وعن روحي التي أعذبها بالأقنعة….

إقرأ أيضاً: رواية أولى لفارس خشّان “مومس بالمذكّر… أيضاً!”‏

السابق
فتيات اسرائيليات متدينات يتعرّين ويمزقن ثيابهن!
التالي
اقفال معمل للالبان والاجبان في سعدنايل