كلمات متقاطعة جوية

عمر قدور

لم يحدث في تاريخ النزاعات المسلحة من قبل أن اجتمع طيران متعدد المشارب في سماء واحدة، وأن يعمل الفرقاء الجويون على تنظيم طلعات القصف، وعلى تشغيل وإطفاء راداراتهم بموجبها، كما يحدث الآن في سوريا. ذلك يشبه “كلمات متقاطعة” جوية، يريد الروسي امتلاك أمر تنظيمها، وقد بدأ التنظيم حقاً بإقامة خط ساخن بين مطار حميميم في جبلة وتل أبيب، ثم أجرى جولتي محادثات عبر الفيديو مع البنتاغون، وعرض التعاون نفسه على الأتراك وعلى ولي ولي العهد السعودي الذي التقى بوتين قبل أيام. المحتل الروسي، الذي يزعم أنه جاء بطلب من “رئيس سوريا الشرعي”، لا يساوره أدنى حياء وهو يعرض سماء سوريا لمن يودّ قصف أهداف فيها، طالما أنه سيحتفظ لنفسه بالحصة الأكبر من قصف المدنيين والثوار.

ما ليس جديداً، على الصعيد العسكري، يتعين في فرضية تحقيق التفوق ومن ثم الانتصار عبر امتلاك الجو. أهم اختبار ناجح لهذه الفرضية كان في حرب كوسوفو، عندما قصفت قوات الناتو يوغسلافيا بلا توقف لمدة 78 يوماً، ما أدى إلى استسلام ميلوسوفيتش. قبل ذلك أيضاً، بدا الأمر ناجعاً إلى حين، عندما كان ينصّ على تفوّق سلاح الجو الإسرائيلي على قدرات جيوش المنطقة مجتمعة. وأغلب الظن أن الإبقاء على استفراد نظام بشار الأسد بالجو طيلة سنوات كان مزيجاً من فرضية تفوّق الجو وعدم كفايته. على هذه القاعدة مُنعت وسائل الدفاع الجوي عن المعارضة، وهي قاعدة أخرى قد يحتاج الروس وقتاً لفهمها، ولفهم أن ما يصحّ على الجيوش النظامية لا يصح بالضرورة ضمن ما يُدعى حرب العصابات.

روسيا في سوريا

بصرف النظر عن اختلاف مشارب الطائرات التي تقصف، يمكن تقسيم الذين يقاتلون في سوريا إلى جويين وأرضيين. الجويون بلا استثناء يتفقون على ألا يخسروا بشرياً في الحرب، وهذه أيضاً القاعدة الذهبية لإدارة أوباما. لا يهم إذا تأخر النصر، فالقصف الجوي كفيل مع الزمن بتدمير مقومات الحياة، وكفيل بتهجير البشر وإبادة من لا يريد النزوح أو لا يتمكن منه. إذاً، ثمة في القصف الجوي ربح أكيد متوقع، وفي أسوأ الحالات لن تتعدى الخسارة الجانب الإقتصادي والمعنوي، وطالما أنها لن تمس العنصر البشري فهي لن تؤثر على الرأي العام الداخلي لأولئك الجويين. يعلم الجويون العتاة أن النصر، إذا أتى، لن يكون قريباً لذا لا يبالغون في التفاؤل على منوال الأرعن الروسي الذي راح يروّج الأخبار عن تدمير نسبة كبيرة من قواعد “الإرهابيين” منذ الأسبوع الأول لبدئه القصف.

نظام بشار وحلفاؤه أوهموا الروس بأن مشكلتهم الكبرى هي في فشل التغطية الجوية لعملياتهم الأرضية، وبأن ما يلزمهم فقط تسوية الأرض أمام جحافلهم الجاهزة للانقضاض عليها. غير أن الاختبارات الأولى، في ريف حماة وريف حمص الشمالي وريف حلب الجنوبي، أثبتت عدم قدرة القاذفات الروسية المتطورة على تدمير الأهداف العسكرية بنسبة موازية لبيوت المدنيين وأرواحهم، وأثبتت أيضاً أن رصد الأهداف العسكرية في سوريا ليس بسهولة رصد مواقع الجيوش النظامية. أهم من ذلك كله، أن الأرضيين من أبناء تلك المناطق هم الأقدر على التأقلم مع طبيعتها الجغرافية والعمرانية. وإذا كانت الخسائر الأولى تشكّل معياراً لمعارك مقبلة يجوز الاستنتاج بأن النظام وحلفاءه سيخسرون في الأشهر القليلة القادمة خسارات فادحة في الأرواح والعتاد.

في وقت ما، بقي النظام مسيطراً على ربع البلاد بسبب امتلاكه الجو، وأيضاً بسبب خطوط دولية حمراء منعت الاقتراب من الساحل ومن دمشق، أي أن النظام جوي بهذا المعنى، وهو لا ينتمي إلى الأرض التي لفظته مع حلفائه. وإذا كانت نظرية استعادة السيطرة، المدعومة بالقصف الروسي، تعتمد على استعادة مناطق منزوعة من السكان فهي تصحّ جزئياً، وعلى مناطق محدودة جداً، ولا تصح على استعادة كافة المناطق وتحمل عبء السيطرة المستدامة عليها. بل يجوز الزعم بجرأة أن استعادة السيطرة على كامل الأراضي هي أكبر مغامرة محفوفة بالأخطار يقدم عليها النظام وحلفاؤه، لأن الحرب الحالية من حيث وضوح مناطق السيطرة تشبه الترسيمة النظامية بين الجيوش، وإذا انتقلت الحرب إلى طور جديد فقد تعتمد فصائل المعارضة تكتيكات تنقل المعركة إلى مواقع النظام “الآمنة” حتى الآن.

ليس في الجو تضاريس، وليس هناك أناس تصعب السيطرة عليهم جميعاً، ومن خلال القصف الجوي يُراد تحويل مناطق سورية بأكملها إلى ما يشبه الجو، أي إلى مناطق بلا تضاريس وسكان. كما يُراد الوصول إلى تسوية مشابهة لتلك التي تحدث بين مختلف أنواع الطائرات في الجو، تسوية لجميع مصالح القوى الكبرى الدولية والإقليمية على حساب أصحاب الأرض. لن تنجح تسوية من هذا القبيل إلا إذا سوّت ثلاثة أرباع سوريا بالتراب، وإلا إذا استطاعت وضع جميع أعداء النظام المتخفين في أماكن سيطرته قيد الاعتقال المفضي إلى الموت. فيما عدا الاحتمال الباهظ الأخير، سنشهد أشهراً تمتص فيها الأرض هجمات الجو، وسنشهد تورطاً روسياً أكبر في الفخ الذي نصبته موسكو لنفسها. وإذا بدأت موسكو التصريح مؤخراً بأنها تدافع عن أمنها القومي لا عن النظام فهذه أولى علامات التورط الذي لا عودة عنه.

مشكلة الدب الروسي أنه يجرّب في ما فشل فيه النظام وحلفاؤه أرضاً وجواً، وربما على المدى القريب يحقق بعض الانتصارات التي تغذّي عنجهيته، أما على مدى أبعد من أنفه فستكون الحفرة في انتظاره، الحفرة التي لا يراها من الجو.

(المدن)

السابق
اقتراح لقاء دولي – إقليمي يستثني إيران بحثاً عن حل
التالي
النفظ يرتفع في ظل تراجع النمو الصيني