انتفاضة أخرى.. مختلفة تماماً

خيرالله خيرالله

ما الذي يمكن توقعه من شعب فقد اي امل في المستقبل. فالعنف الإسرائيلي والرغبة في حرمان شعب من ابسط حقوقه لا يجرّان إلّا إلى اليأس الفلسطيني الذي بدأ يعبّر عنه جيل فلسطيني جديد. لم يعد هذا الجيل يجد من خيار غير مهاجمة اسرائيليين والسعي الى قتلهم، حتّى لو كان الثمن حياة هذا الشاب او تلك الشابة الفلسطينية. ما تشهده الضفّة الغربية المحتلة تعبير عن ازمة في العمق وعلى كل المستويات بين الفلسطينيين والإسرائيليين. إنّها انتفاضة جديدة، لكنّها مختلفة تماما عن كلّ ما سبقها، نظرا الى أنّها تعبير عن ازمة ذات جوانب متعددة ليس مطروحا ان تنتهي غدا او في المستقبل القريب. الواضع الراهن مقبل على مزيد من التصعيد والتدهور، خصوصا في ظل الإنسداد الكامل للعملية السياسية وفي ظل القناعة القائمة لدى بنيامين نتنياهو بأنّ اسرائيل قادرة على ان تفعل ما تشاء، بما في ذلك تغيير طبيعة المسجد الأقصى، بما يدمّر العلاقة مع الأردن الذي وقّع اتفاق سلام مع اسرائيل في العام 1994.

في اساس الأزمة والعنف المتبادل، الذي يصعب التكهن بالحدود التي يمكن ان يبلغها، حكومة نتنياهو بكلّ ما تمثّله، خصوصا بعدما قرّرت متابعة مشروع الإستيطان من منطلق ان الضفة الغربية «ارض متنازع عليها« وليست ارضا محتلة في العام 1967 تنطبق عليها قرارات الشرعية الدولية في مقدّمها القرار 242 الذي يقوم على مبدأ «الأرض في مقابل السلام«.

هناك حكومة اسرائيلية لا تؤمن بالسلام او بامكان ايجاد عملية سلام. كلّ ما تؤمن به هذه الحكومة هو أنّ عامل الوقت يعمل لمصلحتها ويخدم مشروع تكريس الإحتلال لجزء من الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية.

لذلك، لم يكن بيبي نتنياهو منزعجا من تلميح الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس (ابو مازن) لتجميد العمل باتفاق اوسلو. كان بيبي منذ البداية ضدّ اتفاق اوسلو. تقوم نظريته على التفاوض من اجل التفاوض. إنّه تلميذ نجيب لرئيس الوزراء الراحل اسحق شامير الذي جرّته الإدارة الأميركية جرّا إلى مؤتمر مدريد في خريف العام 1991، فردّ على ذلك بأنّه مستعد للجرجرة في المفاوضات عشر سنوات اخرى بهدف استغلال الوقت لفرض امر واقع جديد على الأرض. كان بيبي وقتذاك الناطق الرسمي باسم الوفد الإسرائيلي وكانت تصريحاته تؤكد، بما لا يدع مجالا للشك، أنّه ينتمي إلى مدرسة شامير البعيدة كلّ البعد عن الواقعية السياسية وعن أي سلام من أي نوع كان في الوقت ذاته.

لا شكّ أنّ التحولات في داخل المجتمع الإسرائيلي لعبت دورها في تعزيز التوجّه العبثي لبيبي نتنياهو الذي كان المستفيد الأوّل من اغتيال اسحق رابين في تشرين الثاني ـ نوفمبر 1995. اكثر من ذلك، لا يمكن تجاهل ان العمل الإرهابي الأوّل، بعد توقيع اتفاق اوسلو، كان وراءه اسرائيلي متعصّب هو باروخ غولدشتاين قتل تسعة وعشرين مصليا في الحرم الإبراهيمي في الخليل يوم الخامس والعشرين من شباط ـ فبراير 1994. ارتكب جريمته عن سابق تصوّر وتصميم في الجمعة الأخيرة من شهر رمضان لتأكيد أنّ هناك اسرائيليين يعارضون عملية السلام ويصرّون على نسفها.

من بين هؤلاء، كان ولا يزال بيبي نتنياهو الذي سارع بعد توليه رئاسة الحكومة خلفا لإسحق رابين إلى المباشرة في فتح نفق في القدس يهدد بنيان المسجد الأقصى. كانت تلك هزّة كبيرة تعرّض لها اتفاق اوسلو الذي راح ضحية الإرهاب الإسرائيلي والعمليات الإنتحارية، التي شجعت عليها ايران والنظام السوري بين 1993 و 1996 وفي سنوات لاحقة، من اجل تسهيل وصول بيبي الى السلطة والإنتهاء من ياسر عرفات وعملية السلام في الوقت ذاته. كان هناك دائما حلف غير مقدّس بين اليمين الإسرائيلي وما يسمّى جبهة «الممانعة« التي تدّعي مقاومة اسرائيل وسياساتها في حين انّها كانت في استمرار في خدمة الإحتلال.

اننا الآن في حضرة مشهد جديد على الصعيد الفلسطيني. هناك حكومة اسرائيلية تجاهر بأنّها ترفض السلام، وهناك وضع اقليمي جعل قضايا كثيرة تتقدّم على فلسطين. قضايا تبدأ بالعراق وتصل الى اليمن، مرورا في طبيعة الحال بسوريا التي بات كيانها مهددا والذي سيزيد التدخل الروسي في الأزمة من عذابات شعبها.

بصراحة اكثر، هناك قضية باتت تهدد تركيبة الشرق الأوسط كلّه بعدما غذّت ايران كلّ ما يمكن اثارة الغرائز بين السنّة والشيعة.

ليس ما يقوم به شبان فلسطينيون حاليا سوى تعبير عن اليأس الذي بات يعتمل في قلوب افراد هذا الجيل وعقولهم. هناك يأس من كلّ شيء. يأس من زوال الإحتلال الإسرائيلي أوّلا ويأس من سلطة وطنية تعاني من ازمة داخلية تختزلها كلمة الفراغ. هناك يأس ايضا سببه الإنقسام الفلسطيني العميق واصرار «حماس« على اقامتها «امارتها الإسلامية« في غزّة وسعيها الآن إلى استغلال احداث الضفّة الغربية، كأنّه لم يكفها المتاجرة بقضية الشعب الفلسطيني والمصائب التي تسببت بها.

مثل هذا التوجّه الحمساوي يشكّل ضربة قاضية للمشروع الوطني الفلسطيني القائم على خيار الدولتين.

مرّة أخرى، الى اين سيأخذ اليأس الشباب الفلسطيني؟ هناك جديد. هذا الجديد لا يشبه انتفاضة 1987 ولا انتفاضة السنة 2000 بمقدار ما بشبه الوضع الإقليمي حيث اختلط الحابل بالنابل بما يجعل اي تصوّر لما يكون عليه المستقبل اقرب الى الرهان على المجهول اكثر من اي شيء آخر. يحدث ذلك في ظلّ تجاهل دولي لا يعكسه التنسيق الروسي ـ الإسرائيلي في سوريا فحسب، بل غياب كلمة فلسطين عن خطب زعماء الدول الخمس ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن خلال الدورة الأخيرة للجمعية العمومية للأمم المتحدة ايضا.

تبدو الأراضي الفلسطينية مقبلة على جولة جديدة من العنف وفي ظلّ نشوء جيل جديد فقد الأمل في كلّ شيء من جهة اخرى. هذا الجيل، لم يعد يمتلك غير السلاح الأبيض يقاتل فيه حكومة اسرائيلية جعلته ينسى ان الحياة لا قيمة لها من دون الأمل في مستقبل افضل. هذا الجيل الفلسطيني الجديد، الذي لا يشبه الأجيال التي سبقته، يبحث عن قيادة جديدة.

هذا الجيل الجديد الذي لا يزال في حال ضياع سينتج عاجلا ام آجلا قيادة مختلفة تنقل القضية الى مسار جديد اكثر فلسطينية من اي وقت، بالمعنى الإنطواء على الذات وفقدان الأمل بالعرب. إنّه جيل ما بعد اوسلو، جيل الداخل الفلسطيني قبل اي شيء آخر. إنّه، في نهاية المطاف، جيل جديد يبحث عن قيادة في ظل ارهاب الدولة الذي تمارسه اسرائيل.

(المستقبل)

السابق
هذا الموت البطيء
التالي
القتيل الفلسطيني والقتيل السوري