أفغانستان وسوريا (2): لا عزاء لمن لا يتّعظ

افغانستان
بعد تغلغل النفوذ السوفياتي على الصعيد الإقتصادي والثقافي والسياسي والعسكري في أفغانستان، عُقد إجتماع في إسلام آباد في شباط 1980، استهجنت فيه "منظمةُ دول المؤتمر الاسلامي" الاحتلالَ السوفياتي لأفغانستان، وطالبت الإتحاد السوفياتي بالإنسحاب منه. وكذلك صدرت عدةُ قرارات عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، تستهجن التدخّل المسلّح في أفغانستان، وتدعو الى الإنسحاب الكامل من البلاد. وقد قامت الولايات المتحدة الأمريكية برئاسة "جيمي كارتر" بفرض عقوباتٍ تجارية على الإتحاد السوفياتي، وأعلنت مقاطعتها الألعاب الأولمبية التي جرت في موسكو في عام ١٩٨٠.

قامت الولاياتُ المتحدة الامريكية والمملكةُ العربية السعودية وباكستان والصين، بدعم المقاومة الأفغانية بكل أشكال الدعم، وبدأ زحفُ وتدفّقُ المجاهدين من عدة دول إسلامية، لمساعدة هذه المقاومة ضد العدو الشيوعي “الملحد”، بعدما تأجّجت شعلةُ الجهاد في العالم الإسلامي، وبعدما سمحت لهم السلطاتُ الباكستانية بإنشاء معسكراتٍ لهم على أرضها بالقرب من الحدود الافغانية ، وقدّمت لهم كل التسهيلات من المؤن والأسلحة والتدريب والتعليم، ووفّرت لهم الحماية القانونية والسياسية. وكان “عبدالله عزّام” أميرُ المجاهدين والمؤسسُ الفكري والحركي لما سيُعرف لاحقاً بإسم ” الأفغان العرب “، أولَ مَن وصل إلى باكستان في عام ١٩٨٢ لمناصرة القضية الأفغانية.

افغانستانوفي تلك المعسكرات وُلدت الأيديولوجيةُ التكفيرية والراديكاليّة لتنظيم “القاعدة” الذي كان يرأسه السعودي “أسامة بن لادن” الذي سيصبح رمزاً وقائداً ومُلهماً للأصولية الأممية العابرة للقارات. ولم يحصل في تاريخ حركات المقاومة الشعبية، أن حظي تمرّدٌ شعبي بدعمٍ مالي وعسكري واستخباراتي ولوجستي وبشري، بمثل ما حظي به الجهادُ الأفغاني المقدّس ضد السوفيات الكفّار. ولعلّ أهمّ سلاحٍ سلّمته الإدارةُ الأمريكية الى المجاهدين، هو نظام صواريخ مضاد للطائرات “ستينغر” الذي أربك الجيش السوفياتي، وكبّده خسائر كبيرة، وغيّر موازين القوى في الحرب الدائرة .

لقد كانت حربُ أفغانستان أول حربٍ يشنّها الإتحاد السوفياتي خارج الحدود، في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وقد تحوّلت الى مستنقعٍ دموي، وانتهت بعد تسع سنواتٍ، بهزيمةٍ نكراء ومُذلّةٍ لما يزيد على ثمانين ألف جندي سوفياتي، تركت جُرحاً عميقاً في ذاكرة ولا وعي الرأي العام السوفياتي، يطلق عليه البعضُ إسم ” متلازمة أفغانستان”، وهي العُقدة التي تجعل الشعبَ السوفياتي يرفض خوضَ جنوده أيّ معارك عسكريةٍ خارج حدود بلادهم .

وقد تكبّد الإتحادُ السوفياتي بزعامة ” ليونيد بريجنيف” و ” ميخائيل غورباتشوف” ، خسائر بشرية ومادية فادحة في هذه الحرب. فقد وصل عدد قتلاه من الجنود الى ١٥ ألف قتيل، بالاضافة الى خسائر مادية وعسكرية هائلة من الطائرات والدبابات وناقلات الجند والمدفعيات. وكذلك بلغ عدد القتلى في صفوف الجيش الأفغاني، نحو ١٨ ألف قتيل. أما الخسائر في صفوف المجاهدين فقد لامست ٩٠ ألف قتيل. ولكن الخسائر الفادحة في الأزمة الأفغانية المتطاولة، كانت في صفوف الشعب الأفغاني الذي كان يبلغ تعداده في ذلك الوقت نحو ١٦ مليون نسمة، حيث وصل عدد القتلى في صفوف المدنيين الى مليون وخمسمئة ألف قتيل، وما يقارب ثلاثة ملايين جريح، ونحو سبعة ملايين لاجئ ومشرّد في داخل أفغانستان وخارجها .

روسيا

وبعد أن أصبحت الحربُ الأفغانية مُكلفةً جداً للسوفيات، ومُضرّةً بإقتصادهم الوطني؛ وتحت الضربات الموجعة لجيش المجاهدين المدعوم غربيّاً وعربيّاً، والذي بات مدرّباً ومنظماً وله قياداتٌ معترف بها دولياً، خرجت القواتُ السوفياتية من أفغانستان في ١٥ شباط ١٩٨٩، وذلك بناءً على “إتفاقية جنيف” التي وقّعتها أفغانستان وباكستان والاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة في ٤ نيسان ١٩٨٨. وقد خلّفت موسكو بعد مغادرتها أفغانستان، حكومةً شيوعيةً صديقةً لها، يقودها الرئيسُ القوي “محمد نجيب الله” الذي تسلّم مقاليد الحُكم في ٣٠ أيلول ١٩٨٧، بعد إعدام السوفيات للرئيس “بارباك كارمال ” .

في أوائل عهد الرئيس محمد نجيب الله الذي ينتمي الى حزب “برشام”، شنّت القواتُ السوفياتية هجوماً واسع النطاق على معاقل المجاهدين وطرق مواصلاتهم، ولكن الرئيس سعى جاهداً الى إيجاد تسويةٍ شاملةٍ لإنهاء الحرب الأهلية، عبر صياغة دستورٍ جديد للبلاد يضمن الحرية والتعددية السياسية، ويتضمن نظاماً قانونياً إسلامياً؛ والى إجراء عفوٍ عامٍ ومصالحةٍ مع قادة المقاومة الأفغانية، ولكنّ محاولاته باءت بالفشل، إذ واجه رفضاً من عددٍ من أحزاب المجاهدين الذين اعتبروا أنّ سعيه هو مجرد دعايةٍ رخيصة لكسب التأييد الشعبي، ورفضوا التعاون مع حكومته التي اعتبروها حكومةً عميلةً للإتحاد السوفياتي .

ورغم أن الإتحاد السوفياتي ظلّ يقدّم – حتى بعد إنسحابه في عام ١٩٨٩ – مساعداتٍ مالية واقتصادية وعسكرية ضخمة لدعم حكومة نجيب الله، وزوّدها بتقنيات وأجهزة عسكرية متطورة لمواجهة المجاهدين، ووفّر الأغذية والوقود للأسواق الأفغانية خلال فصل الشتاء لعامين متتاليين، إلّا أنّ إنقطاع هذه المساعدات ونقص الإمدادات السوفياتية، أدّى أخيراً الى سقوط النظام الموالي لموسكو في ١٦ نيسان ١٩٩٢، ومعه سقطت “قاعدة باچرام” الجوية بيد المقاتلين، وخرجت معظم مناطق البلاد عن سيطرة الحكومة.

محمد نجيب الله
محمد نجيب الله

بعد إسقاط حكومة نجيب الله، تولّى “برهان الدين ربّاني” الطاجيكي، وهو واحدٌ من قادة المجاهدين الكبار، الرئاسةَ في ” دولة أفغانستان الإسلامية”، وقد استمرّ عهده أربع سنواتٍ، وسقط حُكمه مع دخول مقاتلي “حركة طالبان” ( أي طلبةُ المدارس الدينية بلغة الباشتون ) إلى العاصمة كابول في عام ١٩٩٦. وبعد إقتحام هؤلاء المقاتلين مقرّ الأمم المتحدة بكابول الذي ظلّ الرئيس المخلوع محمد نجيب الله، محتجزاً فيه لمدة أربع سنوات، ألقوا القبض عليه وعلّقوه على عامودٍ كهربائي في إحدى الساحات العامة وسط العاصمة، الى أن فارق الحياة .

ما إنْ إنتهت المقاومةُ الإسلامية ضد الغزو السوفياتي في عام ١٩٨٩ ، حتى إندلعت شرارةُ الحرب الأهليّة. ففي أعقاب خروج السوفيات بعد تسعة أعوامٍ من الإحتلال والصراع والتدمير والقتل والتهجير والجهاد، دبّ الخلافُ والإقتتالُ الوحشي على السلطة، بين رفاق السلاح والمجاهدين الإسلاميين أنفسهم، كانت نتيجته إنفلات الأمن وغياب سلطةِ القانون وانتشار الجريمة وفرض الإتاوات على الناس. وقد دمّرت الأحزابُ المتناحرة ما بين عاميْ ١٩٩٢ و ١٩٩٦، أكثر من ٧٠ في المائة من أنحاء كابول، وقتلت أكثر من خمسين ألف شخص، معظمهم من المدنيين العُزّل، وهو الأمر الذي أفضى إلى تشويه صورة قادة المجاهدين (قلب الدين حكمتيار، برهان الدين ربّاني، عبد ربّ الرسول سيّاف ، أحمد شاه مسعود … ) المتناحرين على السلطة، في نظر الشعب الأفغاني الذي أصبح واحداً من أفقر شعوب العالم .

وقد ظلّ الصراع مشتعلاً في البلاد، الى أن بزغ نجمُ “حركة طالبان” المدعومة من باكستان والولايات المتحدة والسعودية، والتي فرضت سيطرتها ونفوذها على معظم المناطق في البلاد، ثم بايعت “الملا عمر” الذي لُقّب بأمير المؤمنين، أميراً لها على “إمارة أفغانستان الإسلامية”، وبدأت بتحقيق إنتصاراتٍ عسكرية سريعة، إنطلاقاً من قندهار، وصولاً الى العاصمة كابول في عام ١٩٩٦ .

إقرأ أيضاً: أفغانستان وسوريا (1): لعبةُ الأمم القذرة
(يتبع)

السابق
بالصور: ماريا تعود الى الساحة الفنية بقمة الإثارة
التالي
جامعة بريطانية لتدريس التمثيل في الأفلام الإباحية!