لماذا تركت الحراك وحيدًا؟

محمد علي مقلد

ليست الفرصة الأخيرة، لكنها الفرصة الأفضل. قال لينين عن لحظة الثورة البلشفية، هذا أوانها. بعدها بساعة لا تصح، ولا قبلها بساعة. كأنه كرر آية قرآنية لم يكن، بالطبع، على اطلاع عليها، “فإذا جاء أجلهم لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون” (الآية 34 من سورة الأعراف). ما يعنينا في دقة التوقيت ليس الأجل( في الآية) ولا الولادة (في الثورة). فالثورة اللبنانية لم تولد مع هذا الحراك بل هي ولدت في الثالث عشر من نيسان 1975 ثم انطفأت ثم انبعثت من تحت الرماد مرات ومرات.

آخر انبعاثاتها المنطفئة حصل في الرابع عشر من آذار 2005، يوم انتفض الشعب اللبناني وأنهى عهد الوصاية. ما يحصل اليوم في ساحات بيروت هو انبعاث جديد لانتفاضة اللبنانيين على فساد النظام. نقول ذلك لنؤكد أن هذا الحراك ليس أول العالم ولن يكون آخره. لكنها فرصته الأفضل، لأن الفساد في أجلى مظاهره، لا يحتاج إلى أدلة وبراهين ومحاكمات، بعد أن صارت أرقام الفساد، رغم تباينها وعدم دقتها، على كل شفة ولسان وشاشة وصحيفة وتقرير دولي، وهي في الشوارع ونفاياتها وأعمدة الكهرباء المظلمة والأملاك البحرية المغتصبة، والمالية العامة المنهوبة، والقوانين المنتهكة، ومؤسسات الدولة المصادرة. هي باختصار، جراد الميليشيات نواباً ووزراء ومسؤولين من كل الدرجات، وحكاماً مكشوفين ومستترين، يأكلون الأخضر واليابس من الوطن ويجعلونه يباباً.

أفضل الفرص السابقة الضائعة هي لحظة انفجار الحرب الأهلية. لم تكن سيئات النظام هي المدعاة للثورة، بل براعة الثوار في اجتراحهم معجزات التحليل وفصاحة الكلام ليصوروا النظام في أسوأ حالاته، مقصراً في موقفه من القضية الوطنية والقومية، لكن البراعة، للأسف، لم تفض إلى غير تدمير الدولة والوطن، لأن اليسار غلب انتماءه القومي والأممي على انتمائه الوطني وحمل لبنان فوق ما يحتمل، وتوسل الحرب الأهلية لإصلاح النظام السياسي، ولأن اليمين استدرج كل القوى الخارجية للحيلولة دون حصول أي تغيير في بنية نظام المحاصصة. الثورة برنامج للتغيير وأدوات للتغيير. هذا ما ينبغي أن يستخلصه الحراك الحالي من فشل الانتفاضات اللبنانية السابقة التي لم يكن ينقص المناضلين فيها لا الشجاعة ولا الاخلاص. حين لا يشفي الدواء تكون الوصفة غير صحيحة أو التشخيص مغلوطاً، أو الاثنين معاً، أو يكون نقص في خريطة الطريق الثورية وفي التكتيكات الواجبة ساعة فساعة. ذلك يستدعي طرح أسئلة ملحة على قادة الحراك.

 

لماذا يراوح الحراك المدني في قضية النفايات دون سواها، وعلام التوقف عند البداية والفساد بلا نهاية؟ لا مبرر للمراوحة بعد أن أنجز ما ينبغي إنجازه. فهو قد فرض، عملياً، إقالة وزير البيئة، وفرض خطته أو الأساسي منها لحل المشكلة. وفرض نفسه قوة سياسية يؤخذ برأيها. لذلك يبدو استمرار الضغط في المكان ذاته مؤذياً للحل وللحراك على حد سواء. لماذا الاستمرار في الشرذمة؟ كانت مرحلة لا بد منها لكي يلفظ الحراك من صفوفه المشاغبين والمصطادين في الماء العكر والمندسين وسارقي الشعارات. كان ينبغي أن يكون ذلك مدعاة لتوسيع صفوف الانتفاضة لا لانكماشها وتراجعها، وصار ينبغي أن تتوحد جهود الحملات على اختلاف تسمياتها، وأن يتعزز التنسيق في ما بينها لتتشكل منها، من غير تأخير، لجنة تنسيق تحمي التنوع وتوحد الخطوات.

إلى متى يستمر الالتباس في موقف قيادة التحرك من وجود اليسار بين صفوفه؟ إن حاجة الحراك إلى وجود الشيوعيين ضماناً لاستمراره ونجاحه، لما يتمتعون به من صلابة في الموقف وتفان واستعداد للتضحية بلا مقابل، كحاجته إلى استبعاد قيادة الحزب وحلفائها استبعاداً حازماً غير متردد، بسبب التحاقها بلا خجل بسياسة الممانعة وممالأة أدوات النظام السوري في لبنان وحلفائه في الخارج. يتجسد الفساد بالمسؤولين الفاسدين. والمؤسسات ضحية، يحتاج إليها الحراك حتى وهي في أسوأ حالاتها، وإن فسدت فوراء كل فساد فيها مسؤول داخل السلطة. مؤسسة الكهرباء فاسدة. على التحرك أن يفضح الفساد الذي فيها وأن يحميها من الفاسدين، لا أن يجعلها هدفاً، هكذا هو المجلس النيابي ومجلس الوزراء وسائر المؤسسات. بقدر ما يتحمل الحراك واجب التصويب على الفاسدين، بقدر ما ينبغي أن يكون حريصاً على المؤسسات كائنا من كانت إدارتها. متى ننتهي من الخلط بين نوعين من النهب، نهب القيمة الزائدة، وهي جزء من تكوين رأس المال وآليات عمله، وفيها حياته وموته، ونهب المال العام؟

بعض التحرك يصوب على نهب لا يحسب على الفساد السياسي بل على نظام الاقتصاد الحر، ولا نعتقد أن من أهداف الحراك اليوم نقل علاقات الانتاج من الرأسمالية إلى الاشتراكية أو إلى ما يطلق عليه اسم الاقتصاد الاسلامي، كما أن الاعتداء على الأملاك الخاصة وتكسير الواجهات وتدمير المباني ليست السبيل إلى إلغاء الملكية الخاصة لوسائل الانتاج، إلا إذا كان القصد الاقتداء بقوات البريغادير زاهر الخطيب التي أقدمت على إحراق الوثائق في الدوائر العقارية، ولا إلى تحقيق العدالة في توزيع الثروة، ولا يجوز أن يدفع الحقد الطبقي الخلف من جيل الثورة الشاب إلى ارتكاب جريمة بحق المدينة وتكرار هدمها كما فعل السلف. ارتكاب أي من الأخطاء يمنح أهل الفساد فرصة لشن هجوم مضاد على التحرك، ويوفر لهم تبريراً لقمعه بالعنف ولتشويه صورته أمام الرأي العام وللتشكيك بأهدافه والغمز من قناة المحرضين والممولين وكل المعزوفة السلطوية، تهربًا من مسؤولية المحاسبة والامعان في النهب وانتهاك القوانين، بهدف تضييق الخناق عليه وإيصاله إلى خواتيمه غير السعيدة. الحراك المدني في لبنان هو وحده الحر السيد. وإن أتته مذمة من فاسد فهي الشهادة له على نظافته. فما عليه إلا أن يوحد صفوفه وينظف برامجه وخوارط طريقه ، وهو لايملك غير أن يستمر بأناة وصبر وبنفس طويل وهدوء وحكمة .

(المدن)

السابق
لا لحكم الأزعر.. ولا للحراك الأزعر
التالي
مساعي اللحظة الأخيرة قبل انهيار تسوية الترقيات