الزعيم المعتوه للدولة العاقلة

لصور الواردة من موسكو في الساعات الماضية عن وقائع الحرب الروسية على سوريا وعن الرئيس الروسي الذي يتمتع بصفات الإله وميزات البطل الخارق، اطاحت بما تبقى من أمل (متواضع أصلا) في ان تكون روسيا أشد وعياً واكثر عقلانية من غريمتها أميركا التي قدمت للعالم في حروبها الاخيرة النموذج تلو النموذج عن دولة حمقاء ورئيس أخرق..أسقط عنها صفة القوة العظمى، وأدخلها في حقبة مديدة من العزلة. تلك الصور الصادرة من موسكو عن صواريخ كروز التي إنطلقت من قطع الاسطول الروسي في بحر قزوين لتضرب أهدافاً في سوريا، وعن معرض لوحات احتفالية بعظمة الرئيس فلاديمير بوتين، في مناسبة بلوغ سن الثالثة والستين، تفرض على الذاكرة العودة 12 سنة الى الوراء، عندما كانت أميركا تقوم بعروضها النارية المرعبة في العراق، التي حملت شعار “الصدمة والترويع” المستوحى من الكتب الدينية، وعندما كان رئيسها جورج بوش الابن يعلن أنه طلب مسبقاً الإذن من السماء، وحصل حسب تعبيره على ما يعادل “التنزيل” والتكليف بتخليص العالم من الشر المستطير.. لم تكن الصور الروسية الموزعة بالامس تختلف كثيراً عن صور الصواريخ الاميركية التي أطلقت يومها من السفن المنتشرة في البحر المتوسط وبحر العرب لتصيب بغداد. ولم يكن بوتين الذي رسم في معرض موسكو على هيئة إله الرومان جوبتير او إسطورة الاسكندناف “ثور” او حتى الرجل الوطواط ..

مغايراً للبطل المقدام جورج بوش الذي شفيت اميركا على يده من عقدة فيتنام وسارت خلفه على طريق العزة والمجد. سبق لبوتين، لاعب الرماية والجيدو والهوكي والفروسية، المفتول العضلات..ان أستحب تلك الصور العارية وشجع تعميمها على مواطنيه الروس التواقين الى إحياء فكرة القائد الرمز البطل الذي يحفظ تاريخهم الباهر ويحمي إستقرارهم الباهت، من دون ان يكترثوا لما لمثل هذه الفكرة، الواقعية فعلاً، من أثر ساخر في بقية انحاء العالم. لعل الروس تماهوا في ذلك مع الاميركيين الذين كان رئيسهم السابق جورج بوش مفخرتهم، ومسخرة العالم بأسره.

صور الأمس كانت دليل إنحدار جديد ليس فقط للسياسة الروسية التي اتخذت مع قائدها الفذ طموحات إمبراطورية كاريكاتورية، بل ربما أيضاً للثقافة الروسية التي كانت في الامس القريب محوراً رئيسياً من محاور الحضارة الانسانية، ومرتكزاً لإحدى أهم التجارب السياسية التي شهدها العالم في القرن العشرين..برغم كل ما يقال عن انه ما زالت هناك غالبية روسية لا تشبه بوتين، وهي تخجل من إساءاته المتكررة لها ولتاريخها المجيد! بالامس عادت الى الاذهان وقائع الغزو الاميركي للعراق بكامل تفاصيلها: الدولة العظمى تريد الانتقام، وإحداث صدمة دولية وإنتاج عبرة عالمية، بإستخدام مفرط لقوتها العسكرية وإستخدام مضحك لقوتها السياسية، فتدمر بلداً كاملاً وتحرق شعباً منهكاً بحجة القضاء على طاغية او إرهابي..

لكنها تتعرض لهزيمة منكرة، لانها كانت تعرف جيدا كيف تبدأ الحرب، لكنها لم تكن تمتلك أدنى فكرة عن كيفية إنهائها. ما ظهر حتى الان من صور وما سقط من صواريخ روسية على أرض سوريا، كان كافياً لدحض الكثير من الافكار الواعدة، والمتداولة في الخفاء، والتي كانت تفترض ان روسيا لن تكون أسيرة إغراء العظمة وإغواء القوة، وسيكون تدخلها العسكري أقل كلفة وأخف وطأة من اي تدخل اميركي.. وسيكون مشروعها السياسي (بما سرب منه حتى الان) أفضل من بقية المشروعات المعروضة على الشعب السوري البائس. الحرب الروسية على سوريا في صورها الراهنة ليست أكثر من نسخة مكررة من الحرب الاميركية على العراق، بما فيها من تماثل بين رئيسين خرجا من العتمة الى الاسطورة الى .. ***** لعله قدر سوريا اليوم، ومن قبلها العراق، البلدين اللذين لا يجتذبان سوى الخرقى ولا يستدعيان سوى المعتوهين.. ولا تبدو حروبهما المدمرة أكثر من لعنة.

(المدن)

السابق
نصرالله: تجاوزنا الخطر في سوريا.. والسعودية ستُهزم
التالي
ناشطون من الحراك المدني يتجمعون امام المحكمة العسكرية