اعتراف متأخر

هاني فحص

بعد فجائع كثيرة، سلّمتُ بأن السياسة ليست شأني. فهي يومية وتكويني غير يومي. وهي مباشرة، ومزاجي تأويلي ونزوعي إلى ما وراء الظاهر، إلى السؤال المعرفي. ولأن السياسة في بلادنا الآن، وربما إلى آخر العمر، أمر يقع خارج عملية التفكير الخالص. ولأن مجالها هو الجزئي فيما مجال المعرفة هو الكلّي. والكلّي هو صورة مفترضة أو متخيّلة، فقد تتحوّل واقعاً ملموساً أو اقتناعاً، لكن بعد زمن طويل من نهاية عمر صاحبه.

اقرأ أيضاً: أسلمة قضية القدس مبرر الصهينة

تذكرت جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد إقبال، وغيرهم ممن أفضت بهم أفكارهم إلى تورطهم في الشأن السياسي. لكن أفكارهم بقيت تلح عليهم أن يفكروا أكثر، وأن يبدلوا اقتناعاتهم دائماً، وفي سرعة أحياناً. ولو كانوا سياسيين، في المعنى التام والحرفي، لتجنبوا مكاشفة شعوبهم بالتغيرات التي تطرأ على أفكارهم. لكن اهتمامهم منصب أساساً وحصراً، على نظام الأفكار ومتغيراتها كشرط سياسي كما توقعوا. ولذلك فُجعوا بأهل السياسة، الذين سعوا إلى مشاركتهم في التفكير في الأسلوب الأمثل، لإدارة الشأن العام في الدولة وسياستها والاجتماع وحركته. فتقلّبوا وانقلبوا تبعاً لتبدّلات فهمهم وتغيُّر الحكام عليهم.
في النهاية، اكتشفت أني أفلح وأزرع، ولكن في أرض السياسي الذي إذا أمحل الزرع حمّلني المسؤولية، وإذا أقبل الزرع طردني من الحقل! وهكذا كان لا بد لي من البحث عن عمل آخر.
فذهبت إلى كتبي ودفاتري وعانيت في سبيل إعادة صلتي بها، بما يشبه زمن الشباب، الذي تأسست على تخفيزه لي ولأمثالي بمراكمة المعارف. إلى أن قادتني فلسطين ومشاهد الفقر والمرض والجهل والجور، إلى اتهام نفسي بإعطاء الأولوية لما ليس هو الأولى أي المعرفة، لأن الأولى هو الاجتماعي والسياسي.
ذهبت إلى هناك متناقضاً كمجرِّب في السياسة، على حساسية تقوده إلى أن يكون مثقفاً في يوم ما، وهكذا كان. “فلا في الشام عيّدنا ولا في دُمَّر لحقنا العيد”!
عندما كنا نقرأ، كنا نقرأ الكمال في السياسة. وعندما انكشفت السياسات، رأينا أن الكمال في القراءة. حسناً ولنعد إذاً. لكن يا عزيزي مسكون بالتفاصيل وبالذكريات الجارحة والخيبات القاتلة. وأنت مكدود الذهن والبدن! فهل تستطيع ان تعيد التأسيس؟ هذا يحتاج إلى سهر طويل لم تعد قادراً عليه. ويحتاج إلى ذاكرة قوية وأنت الآن تنسى أول سطر في الصفحة، قبل أن تصل إلى آخرها. وكنت تحفظ القصيدة من الشعر الحديث الصعب في ساعات، والآن تنسى البيت الذي يعجبك بعد دقائق من تكراره وحفظه.

السيد هاني فحص
هل أتكلم هناك عن حالتي الشخصية؟ إنني أدّعي أنني أتكلم عن أكثر المثقفين العرب، الذين آثروا أن يوظفوا الثقافي في السياسي. أملاً في أن يوظف السياسيون السياسي في الثقافي. فإذا الثقافي بين خيارين: فإما أن يرضى بالمصادرة ليعيش، أو يرضى فيجوع، أو يهمّش أو يهرب.

(من كتاب على مسؤوليتي – منشورات صوت لبنان)

السابق
من هو الدركي الذي قال للمسن «بأمرك»؟
التالي
تايمز: «القاعدة» تقدّم مكافأة لمن يأسر جنوداً روسيين