روسيا وأميركا: غموض ديبلوماسي لا يحجب حقائق الجيو ـ سياسة

أحجمت واشنطن حتى الآن عن الرضوخ لخطة بوتين في جرجرتها إلى مائدة تفاوض تشمل سوريا وأوكرانيا والعقوبات الغربية المفروضة على روسيا. وإذ أكثر باراك أوباما ووزير خارجيته جون كيري ووزير دفاعه أشتون كارتر من تصريحاتهم الديبلوماسية متضاربة الإشارات، بقي الغموض حيال الخطة الأميركية المقابلة سيد الموقف. في المقابل، تبدو حقائق الجيو ـ سياسة أكثر قدرة على تفسير الخطوة الروسية وأبعادها المحتملة، والإطار الذي يحكم التنافس الروسي ـ الأميركي، والذي أصبحت سوريا أحد محاوره وساحاته. وفي كل الأحوال، يدفع الشعب السوري راهناً ثمن حريته ثلاث مرات: واحدة مقابل نظامه الباطش، وثانية مقابل القوى الإقليمية التي تصفي حساباتها بدمه وعلى أرضه بأهداف لا علاقة لها بتطلعاته وحقوقه غير القابلة للتصرف، وثالثة مقابل واشنطن وموسكو وصراعاتهما الكونية على رقعة الشطرنج السورية.

روسيا وأميركا: النظام الدولي إطاراً
استمرت الولايات المتحدة الأميركية قطباً وحيداً للنظام الدولي منذ سقوط الاتحاد السوفياتي السابق في العام 1991. وفي المقابل، انكفأت روسيا على نفسها ومشاكلها الداخلية. وبمرور الوقت تبدلت التوازنات الدولية، حيث أن استمرار الولايات المتحدة قطباً أوحداً حتى مع التراجع النسبي في قدراتها الشاملة عاد بالأساس إلى عجز الدول العظمى المنافسة عن إزاحتها كقطب أوحد، وليس إلى قدرات أميركا المتعاظمة التي تمكّنها من فرض رؤاها على اللاعبين الكبار على المسرح الدولي. وسمحت التحولات الجارية في بنية النظام الدولي الراهن لروسيا التي استجمعت قواها الدولتية بمرور السنوات، أن تتحدى ـ في حدود ـ القطبية الواحدة لهذا النظام الدولي، مستغلة مساحات التأثير في النظام الدولي التي تركتها واشنطن خلفها. وتبلغ هذه الحقيقة ذروة كفايتها التفسيرية عند ملاحظة أن الاعتراض الروسي على الغزو الأميركي للعراق في العام 2003 اقتصر على استخدام حق «الفيتو» في مجلس الأمن، وأن روسيا امتنعت عن التصويت على قرار مجلس الأمن الرقم 1973 الذي سمح لحلف «الناتو» بإقامة منطقة حظر جوي بالقوة وتوجيه ضربات عسكرية للنظام الليبي، وصولاً إلى إسقاطه في العام 2011. بمعنى أن روسيا بوتين لم تعترف يوماً واحداً بهيمنة الولايات المتحدة الأميركية على النظام الدولي، إلا أن موازين القوى الدولية لم تسمح لها وقتذاك بالتدخل في الصراعات الشرق أوسطية، على العكس من الموازين الراهنة المواتية التي تمثل الواقعة المُنشئة لتدخلها الآن في سوريا. من هنا، يتجاوز التدخل الروسي في سوريا مجرد محاربة تنظيم «داعش» الإرهابي أو إسناد النظام السوري أو «الانخراط في المحور الإيراني»، إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير.

التدخل الروسي وخطة أوباما للشرق الأوسط
وبخلاف التوازنات الدولية المواتية، يقف الشرق الأوسط اليوم على أعتاب نظام إقليمي جديد تتعاظم فيه أدوار القوى الإقليمية غير العربية. وبعد إبرام الاتفاق النووي بين إيران والغرب، انتعشت آمال إدارة أوباما في ضم إيران إلى رصيدها الاستراتيجي في المنطقة بالتطبيع السياسي والاختراق الاقتصادي، إلى جانب تحالفاتها مع كل القوى الإقليمية (تركيا وإسرائيل والسعودية ومصر) من دون استثناء. وفي حال تحقق رهان أوباما، يمكن لأميركا أن تمسك بخيوط الحراكات الإقليمية من وراء المحيط، بحيث تتفرغ واشنطن إلى مقارعة الصين في جوارها الجغرافي عبر تثبيت حائط صد إقليمي من اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية وربما فيتنام. ولأجل تلك الغاية، فقد عمد أوباما إلى تشكيل تحالف دولي تحت غطاء محاربة «داعش»، لم يكن هدفه في الواقع القضاء على التنظيم الإرهابي، وإنما دفع القوى المحلية في سوريا والعراق ومن خلفهم القوى الإقليمية المتنافسة في همروجة الحرب على «داعش» لتثبيت النظام الإقليمي المرتجى أميركياً، أي ذلك النظام الذي تحجّم فيه القوى الإقليمية الشرق أوسطية بعضها بعضاً تحت المظلة الأميركية من دون أن يقضي أحدها على الآخر (مصطفى اللباد ـ السفير: الحرب على «داعش» وبناؤها الصراعي 15/9/2014). وتجلى ذلك واضحاً تمام الوضوح فيما بدا مفارقة ـ وهي ليست كذلك ـ تمثلت في القصف الجوي المتقطع بالتعاون مع القوى العربية وتركيا، وفي الوقت ذاته تسهيل العمليات البرية ضد التنظيم الإرهابي على الأرض العراقية عبر المجموعات المحلية التابعة للمحور الذي تقوده إيران.
من المنظور الروسي، سيعني قيام مثل هذا النظام الإقليمي الجديد كارثة على طموحات موسكو الدولية، لأنها ستكون المرة الأولى في تاريخ الشرق الأوسط الحديث الذي تهيمن فيه قوة دولية واحدة عليه من دون منافس، ناهيك أن تكون هذه القوة هي الولايات المتحدة الأميركية. وللحيلولة دون تحقق النظام الإقليمي الجديد المُرتجى أميركياً، فقد عمدت موسكو إلى التأثير على خيارات طهران الدولية والإقليمية بتدخلها العسكري الأخير على الساحل السوري، عبر تحويل قضبان القطار الإيراني إلى طريق مؤات أكثر لموسكو ومصالحها. بالأساس، تكمن مصلحة روسيا الاستراتيجية حيال إيران بين حدين متناقضين، الحد الأول يتمثل في الحيلولة دون تدهور التوتر بين واشنطن وطهران إلى درجة المواجهة العسكرية، لأن إيران هي حليف روسيا الأساسي في الخليج والمشرق العربيين. ولكن، وفي الوقت نفسه، تكمن مصلحتها أيضاً في الحيلولة دون تحسن العلاقات الإيرانية ـ الأميركية إلى حد التحالف الاستراتيجي بين واشنطن وطهران، كما كان الحال في عصر الشاه المخلوع، فتخسر روسيا مصالحها في إيران لمصلحة واشنطن. ومن المعلوم أن قيام تحالف أميركي ـ إيراني سيغلق طريق روسيا إلى المياه الدافئة عبر الخليج ـ كما حدث في ما يطلق عليه «اللعبة الكبرى» بين بريطانيا وروسيا القيصرية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ومن بعدها بين أميركا والاتحاد السوفياتي إبان الحرب الباردة ـ وهي حسابات روسية انطلاقية في السياق الجيو ـ سياسي العالمي (مصطفى اللباد ـ «السفير»: حسابات روسيا في المفاوضات النووية مع إيران 9/7/2015).

رطانات إعلامية وحقائق جيو ـ سياسية
في حين أخذ المؤيدون لإيران يعلنون «انتصار محورهم بانضمام روسيا إليه بقيادة أبو علي بوتين»، فقد راح المؤيدون للسعودية ينددون بما أسموه «انصياع موسكو لخطة قاسم سليماني»، أو أن «التدخل الروسي في سوريا يأتي ضد مصالح أهل السنة»، وكأن موسكو تعمل تحت إمرة طهران ووفقاً لخططها، أو بالمقابل أن قصف أميركا لتنظيم «داعش» يعني الانتصار «لأهل السنة» في حين يكون القصف الروسي للتنظيم ذاته يستهدف «أهل السنة». وبين صيحات الاستحسان والاستهجان الإعلامية والخطابية الغارقة في مصطلحاتها الطائفية، نسي الخصمان الإقليميان ووسائل إعلامهما أن روسيا قوة عظمى تفوق بمراحل في تراتبيتها بالنظام الدولي مكانة إيران الإقليمية. ويترتب على ذلك أن القوة العظمى أقدر منطقياً وعملياً على التأثير في خيارات القوة الإقليمية، وأن التدخل الروسي في سوريا لا يأتي استجابة لحاجة إيرانية بقدر ما هو تلبية لخطة روسية في إطار توازنات النظام الدولي ومتغيرات الشرق الأوسط المشار إليهما. ولعل النتائج السلبية الفورية الأبرز لإيران من جراء التدخل الروسي على الساحل السوري الآن، أن الطرف الذي سيفاوض باسم النظام السوري ويمتلك ورقته في المقايضات ـ إن حدثت في المقبل من الأسابيع ـ سيكون موسكو قبل طهران، إن لم يكن حتى موسكو وليس طهران. أما النتيجة السلبية الثانية، فهي أن التوازنات انقلبت في سوريا، بحيث لم تعد القوى الإقليمية تحتكر إدارة الصراعات المحلية في المنطقة، بل تقدمت عليها القوى الكبرى. ولعل النتيجة السلبية الثالثة التي يمكن استنباطها تتمثل في أن الرئيس السوري بشار الأسد لم يعد هدفاً بحد ذاته في الصراع الدائر في سوريا وعليها، وإنما مجرد هدف بالوكالة. لا يعني ذلك أن إيران ستخرج خاسرة بالضرورة من الكباش الدولي الراهن، لكن التحديات التي تواجهها ليست هينة على أي حال، وحصيلة مكاسب وخسائر القوى الإقليمية غير معلومة حتى الآن.

الخلاصة
ما زال الوقت مبكراً لاستشراف مآلات التدخل الروسي العسكري في سوريا، بعد تمنع أوباما عن الرضوخ إلى المقايضة الروسية، واقتصار التفاهم الأميركي ـ الروسي حتى الآن على التنسيق العسكري الميداني في سوريا للحيلولة دون احتكاك عسكري بين طائرات الطرفين، ومن دون امتداده إلى ملفات أوكرانيا والعقوبات الاقتصادية الغربية على روسيا. ومرد ذلك أن موضوع روسيا ليس موضوعاً حزبياً في الولايات المتحدة الأميركية يتعلق بميول وسياسات أوباما، وإنما موضوع مؤسساتي بامتياز يتعلق بإدارة واشنطن لصراعاتها الكونية. مع التسليم بأن اعتبار انتخاب رئيس ديموقراطي العام المقبل أمر يهم أوباما، وبالتالي فمن مصلحته عدم الظهور بمظهر الضعيف حيال روسيا أمام الرأي العام الأميركي حتى لا يؤثر ذلك على فرص المرشح الديموقراطي في الانتخابات المقبلة. لا تنسى أميركا ـ وتنسى القوى الإقليمية أحياناً ـ أن روسيا أكبر بكثير من مجرد مستجد دولي أو إقليمي، كما تعي واشنطن أن النظام الدولي الذي هيمنت عليه وحدها لأكثر من عقدين أصبح جزءاً لا يتجزأ من الماضي. إنها بالفعل أسابيع مثيرة مقبلة على سوريا والمنطقة والنظام الدولي.

(السفير)

السابق
فتفت: نواب «التيار الوطني الحرّ» ليسوا من يقرّر إقالة قباني من رئاسة لجنة الأشغال
التالي
تفكيك عبوة ثانية عثر عليها قرب العبوة الأولى التي فُجرت عن بعد في شتورا