درس في الإعراب

منذ أواسط آب/أغسطس، وأنا أجد نفسي في الشارع مع المتظاهرين الشباب. أشعر أنني عدت إلى زمن المظاهرات، حين كان شباب لبنان يبحثون عن أفق يخرجهم من سجن الطوائف والزعامات الاقطاعية التقليدية. المظاهرة الأولى التي شاركت فيها انطلقت من «ثانوية الراعي الصالح» في الأشرفية أي في «الجبل الصغير» في بيروت، وكانت من أجل دعم إضراب طلاب وأساتذة الجامعة اللبنانية. كنت في السادسة عشرة من عمري، ولم أكن أتوقع أن تواجَه مظاهرتنا بعنف رجال الأمن. أذكر كيف ضُربنا بأعقاب البنادق الإنكليزية، وكيف هَددنا القسّ ملحم شقير بالطرد من المدرسة لأننا شيوعيون.
عندما كنت في الصف الثانوي الخامس، اتهمت بالشيوعية، ما أشعل فضولي لقراءة ماركس وأنغلز، وخصوصا «البيان الشيوعي» بترجمته العربية الرديئة التي صاغها خالد بكداش، وهذا ما قادني إلى اكتشاف الأخلاق الماركسية، التي أسست وعيي لفكرة العدالة الاجتماعية.
قسّ بروتستانتي اتهمني بالشيوعية لأنني مع جامعة وطنية تكسر احتكار التعليم العالي من قبل الجامعتين الأميركية واليسوعية، الذي كان مخصصا لأبناء الطبقات الميسورة، وبنادق رجال الشرطة، عمدتني بدمي النازف من رأسي، لأنني شيوعي!
هكذا بدأ تمرد جيلنا. تابعنا التظاهر عندما صرنا طلابا في الجامعة اللبنانية، وأصبحنا ضيوفاً شبه دائمين على مخفر حبيش. والحق يُقال، ان التظاهر ورفع مطالب التغيير والنضال من أجل حقوق الفقراء المهدورة في «وطن النجوم»، لم يكن وسيلة نضالية فقط، بل كان شكلاً للتحرر الاجتماعي، وعملاً ثقافياً حررنا من وصاية الآباء وعجرفة الأيديولوجية اللبنانية التي تتغرغر بالكلمات الفارغة.
رويت هذه الحكاية ليس لأنني أشعر بحنين إلى الماضي، بل لأنني أشهد مع هؤلاء الشابات والشبان الذين يتعمّدون بالضرب والسحل في شوارع بيروت، احتمالات أفق جديد، يحمل بذور تغيير أسس لعبة الكراسي اللبنانية التي جعلت من المُحاصصة الطائفية وسيلة نهب وبلص وإفقار.
هذه التجربة الجديدة لا تعفيني أو تعفي رفاقي من نقد وقوعنا في شراك الحرب الأهلية. نُبل أهدافنا في ضرورة الدفاع عن الثورة الفلسطينية، لا يبرر الأخطاء والخطايا التي وقعنا فيها، حين وجدنا انفسنا عالقين في حرب طائفية مدمرة. أي حين استطاع النظام الطائفي ابتلاع أفق الحرية الذي ناضلنا في سبيله. بعضنا وقع أسير هذه اللعبة، وبعضنا الآخر خرج منها وانتقدها، ثم وجدنا أنفسنا مُلاحقين بالرصاص والاغتيالات.
أقول هذا لا لأبرر، بل لأروي وأدعو إلى مراجعة جذرية للماضي، وإلى المساهمة في نضال اليوم، من أجل تفكيك البنية الأخلاقية لنظام الحرب الأهلية المهيمن على لبنان منذ سنة 1990، التاريخ الرسمي لنهاية حرب لم تنته الا لتسكتمل في نظام قاده المجرمون واللصوص جاعلين من الدولة بنية ضعيفة تابعة للخارج، مهمتها الوحيدة تأطير صراعات مافيات الطبقة الحاكمة، وإيجاد حلول مؤقتة لها.
أقول هذا كي أؤكد ان لبنان في حاجة إلى بناء كل شيء من جديد، وأن هذا البناء يجب أن يتم بحجارة جديدة، ورؤية اجتماعية- سياسية متجددة، وأساليب نضال سلمية ديمقراطية، ونفس طويل. فالمهمة صعبة ومعقدة، والطبقة التي تهيمن على الدولة والمجتمع، خبيرة في لعبة حافة الهاوية، ولا تزال تمسك بورقة التهديد بانهيار السلم الأهلي. وتخبئ في قبعاتها سيلا من الاتهامات: العمالة للسفارات، العمالة لدولة صغيرة، التسلل الداعشي… وعندما تهاوت اتهامات نبيه بري ونهاد المشنوق هذه، أخرج رئيس جمعية تجار بيروت السيد نقولا الشماس من قبعته تهمة الشيوعية!
صحيح أن هذه الاتهامات تثير السخرية ولا تخيف أحداً، لكن يجب أن نعي ان نظام الحرب الأهلية سيدافع عن نفسه بشراسة، وأن صراعات أطرافه الناجمة أساساً عن تبعيتهم للقوى الإقليمية، لن تمنعهم من رص صفوفهم ضد التحرك الذي يهدد بتغيير قواعد اللعبة.
يتساءل الكثيرون، بعضهم من موقع الناصح الحريص، وبعضهم الآخر من موقع العدو المتربص الذي يلبس قناع النصح والبراءة، وبعضهم الثالث من موقع الرأسمالية المتوحشة التي تدّعي الليبرالية، وتريد سحق التحرك الشبابي- الشعبي وتدميره، جميع هؤلاء يسألون إلى أين؟
السؤال شرعي، ويجب أخذه في الاعتبار، ولكن قبل أن يجيب قادة الحملات المختلفة، التي أطلقتها حملة «طلعت ريحتكم»، على هذا السؤال، تعالوا نقرأ الإنجاز الذي تحقق كي يجري البناء عليه.
استخدم هنا كلمة إنجاز بتحفظ، لأن ما أراه انجازاً ليس سوى بداية، لكنها بداية جدية تفتح أفقاً، ولذا تستحق أن تُدعى انجازاً.
لقد استطاع التحرك أن يمس الأسس الأخلاقية للبنية الفكرية والسياسية والاجتماعية لنظام الحرب الأهلية.
هذه الأسس لها جذر واحد هو استثمار الخوف وصناعة التخويف. نظام الحرب الأهلية يقوم على ثلاثة محاور مترابطة:
المحور الأول هو حماية الطائفة من الطوائف الأخرى، وهذا يستدعي تحالفات خارجية، وتماسكاً يفرض بالقوة العارية أحياناً، وبالترغيب أحياناً أخرى، وبتحويل الرموز الدينية إلى شعائر اجتماعية في الحياة اليومية.
المحور الثاني، هو الزبائنية التي تعني استبدال الدولة بأجهزة طائفية بديلة في التعليم والطبابة والمساعدات الاجتماعية.
المحور الثالث هو استباحة المال العام بحجة حقوق الطوائف، وشيوع النهب في كل القطاعات.
ما قام به التحرك هو أنه نجح في التقاط تهافت هذا المنطق انطلاقاً من واقع مافيات النفايات التي حولت لبنان إلى مزبلة في صراعاتها الوحشية على الثروة الزبالتية. ومع انفضاح مافيا النفايات اكتشف الناس أنهم ضحايا خدعة كبيرة. وأن الحماية التي وُعدوا بها لم تحمِ احداً، كما قادتهم الزبائنية إلى التحول إلى متسولين لا يجدون الصدقات، لأن شراهة لصوص المافيات ابتلعت كل شيء.
فجأة وبعفوية وتلقائية بدأت البنية الأخلاقية للنظام تتهاوى، وفقدت الشعارات الطائفية معانيها، ونُزعت الحصانة عن رموز الطوائف التي صارت رموز فساد وارتفع شعار: «كلن يعني كلن». خرج الطلاب والمعوقون وأهل المخطوفين والأساتذة والعاطلون عن العمل، ومعهم علا الصراخ ضد «سوكلين» ونهب الكهرباء واحتلال الشواطئ وتحويل وسط بيروت إلى شوارع فارهة فارغة فقدت روحها.
بداية الإنجاز تقع هنا، لم يعد الخطاب الطائفي سيد الكلام، ولم يعد الوزراء المنتفخون بالثروة المنهوبة يمثلون الناس، وصار القانون الانتخابي الذي يعيد توزيع الكراسي على أصحاب الكراسي عرضة للنقد والتساؤل، وانفجر صراخ القهر الذي كممه قمع البنى الطائفية.
هذا لا يعني أن التحرك انتصر، أو هوعلى وشك الانتصار، بل يعني أن هناك بداية تسمح بأن تبدأ عملية التغيير، وهي عملية طويلة وتحتاج إلى الشجاعة والوعي.
قد يكون سؤال المستقبل سابقاً لأوانه، لكن عليه أن يدخل في جدول أعمال الجميع، كي يصوّب الشطط، ويصوغ الأهداف.
مرة كتب راشد حسين قصيدة رائعة بعنوان «دروس في الإعراب»، فكرة القصيدة بسيطة وتتلخص في أن الأستاذ تعلّم من تلميذه الذي دخل إلى السجن بسبب مقاومته الاحتلال، قواعد جديدة لإعراب اللغة العربية.
عندما طلبت من طلابي في الجامعة قراءة هذه القصيدة، كنت في اليوم الذي سبقه أقف في اعتصام ساحة الشهداء وسط غبار العاصفة التي ضربت بيروت. يومها رأيت كيف انبثق من ذاكرتي ذلك الفتى الذي كنته في ثانوية «الراعي الصالح» ليقول لي ان الأدوار انقلبت وأنني أصبحت اليوم الأستاذ الذي عليه أن يتعلم من تلامذته قواعد الإعراب الجديدة.

المصدر

السابق
توقيف شبكة دعارة في طرابلس مرتبطة بعصابة خطف
التالي
مقدمات نشرات الأخبار المسائية ليوم الأربعاء في 23/9/2015