وطنية لبنانية «غير وطنية» في وسط بيروت

جهاد الزين

دون أن يعلن الشباب الطليعيون من الطبقة الوسطى اللبنانية في الحراك المدني أو حتى دون أن يصوغوا ذلك بالمعنى النظري، فهم يقودون أكبر حركة لبنانية لتأسيس “وطنية دستورية” ديموقراطية تزيح الوطنيات الصراعيّة التقليديّة جانباً.

أصبح غياب شعارات مقاومة إسرائيل وإسقاط النظام السوري والعداء للتكفيريّين الداعشيّين و”القاعديّين” والسلفيّين وغيرها، وكلٌّ منها شعارٌ من الشعارات المتصارعة ومادة من مواد الحرب الأهلية، الباردة في لبنان الساخنة في المنطقة، أصبح سمةً راسخة في تظاهرات الحراك المدني.
في هذا الحراك غير الطائفي لا وطنيّون إذن من أي نوع من “الوطنيّات” اللبنانيّة المتصارعة. كأن الموجودين في الشوارع الحراكية لم يغادروا فقط حدود الطوائف النفسيّة والجغرافيّة بل أيضا غادروا حدود الوطنيات وثقافاتها المتعددة التي وسمَتْ تاريخ دولة لبنان الكبير حتى الآن. من قومية عربية إلى سورية إلى لبنانوية إلى دينية إلى مذهبية. وجميعها، لبنانيّاً، قوميات نابعة من احتقانات الجماعات.
الوطنيات اللبنانية، وهي بالأساس مُنتِجةُ حروب أهليّة، غائبة عن الحراك المدني غير الطائفي. هذا الغياب ليس فقط حصيلة الطبيعة المطلبية الخدماتية الإدارية الإتيكية للحراك بل أيضا حصيلة حكمة غير معلنة للطليعة الشبابية ولّدها وعيها لتجارب جيل آبائها “الأيديولوجي” والطائفي معا ومعرفتها بالطاقة الوفاقية للحركة المطلبية والإصلاحيّة في وضد نظام قوي استنفد كل طاقات الدولة واستكمل تحويلها إلى دولة تافهة. فمسار التركيبة اللبنانية ولّد أكثر من أي وقت آخر في تاريخ الجمهورية معادلة “النظام القوي والدولة التافهة”.
دون أن يعلن الشباب الطليعيون من الطبقة الوسطى اللبنانية في الحراك المدني أو حتى ربما دون أن يصوغوا ذلك بالمعنى النظري، فهم يقودون أكبر حركة لتأسيس “وطنية دستورية” تزيح الوطنيات الصراعية جانباً، ولا تلغيها. وتنتمي إلى وطنية متطلبات الدولة الحديثة التي تتحدّد هويتها بما لا أضجر من تكرار التذكير أنها ما سمّاه المفكر الأوروبي الألماني يورغن هابرماس “الوطنية الدستوريّة”.

اعتصام وسط بيروت
من يذكر ميدان التحرير في القاهرة؟ كان الشباب المعولَمون الذين أطلقوا الاحتجاجات (لا الإخوان المسلمون الذين صادروها لاحقا) يركِّزون على القضايا التي تثيرها مسألة التفرّد بالسلطة واهترائها. لم يكن شعار العداء لإسرائيل حاضراً إلا بشكل خافت في بعض الزوايا غالبا غير البارزة من حشود الميدان ولم يكن هؤلاء الشباب وهم نخبة من الطبقة الوسطى المدينية بحاجة إلى إقحام وطنيّتهم، التي خلافا للتقليد اللبناني لا تحتاج إلى إثبات! كانت لحظةً ديموقراطيّةً لا وطنيّة.
ومع أن المنطقة تعيش حاليا إحدى أسوأ مراحل الصراعات على الهويّة الفئوية، فقد قدّم الشباب اللبناني المتنوِّر في حراكهم غير الطائفي عرضاً حداثيّاً لـ “وطنيّتهم الدستورية” ضد نظام طائفي لم يستهلك فقط الدولة التي يديرها بل أيضاً استنفد، أحياناً إلى حد الابتذال، الوطنيات الصراعية التي أتقن سابقا استخدامها.
يعطينا هؤلاء الشباب الحداثيون قبل أن يهاجروا لاحقاً كالطلائع الشبابية التي سبقَتْهم إلى مغادرة البلد ومنهم من اصطادت مؤسسات الغرب كفاءاتهم… قبل أن يهاجروا يعطوننا واحدة من أكبر حركات الاحتجاج على النظام السياسي، إن لم تكن على الأرجح، كحركة غير طائفيّة، الأكبر منذ عقود. ستكون الهجرة هي الشكل الذي سيُجهِض الربيع اللبناني الأول من نوعه والحقيقي الجاري الآن مثلما أجهضت الحروب الأهلية والعسكرة الخارجية حركات الربيع العربي في بلدين كسوريا وليبيا (باستثناء تونس).
سنذكر هذه الأيام بعد نهايتها كحلم واقعي جميل مرّ خاطفاً علينا. حلم نعيشه من السلام المدني العميق الذي يتضمّنه هذا الحراك بدل السلام الطائفي الهش الذي يحكمنا كما لو أنه إلى الأبد.
وعليَّ أن أختم مؤقتاً أن أمثال شباب هذه الطليعة هم من يعرف أن يحترم هويات الجماعات بمعناها الإيجابي، أي دون استخدامها كقوة قتالية مع الذات والآخر… الجماعات بصفتها طوائف لا طائفيات، لأنهم يحملون خبرات ونضج تجارب كبيرة موروثة.
حتى الآن يُخرِج الحراك المدني أفضل ما في المجتمع اللبناني. لكن هل تُشبههم الأكثرية السائدة في المجتمع أو تحمل مشروعهم؟

(النهار)

السابق
إهانات للفلسطينيين وتصويرهم عراة تحت صورة نصرالله والأسد
التالي
كيف برر قزي عدم دفعه لمستحقات الكهرباء؟