أسمع أصوات أقدامهم وأبكي

اطفال سوريا

يقول الشاعر السوري حكمة شافي الأسعد “صنعتُ هذه القصائدَ من حديد باب بيتنا هناك.. هذه الأصواتُ العنيفة التي تسمعونها في القصائد هي أقدامُ غرباء يخلعون بابَ بيتنا”. يحدث أن يصفع الرجل جبهته صارخًا “يا إلهي”، من هول وعمق وشدة وقع الكلمة على القلب. هل تسمعون كما أسمع الآن تلك الجلجلة التي تنساب من الكلمات إلى البعيد السحيق من الروح؟

الغرباء الذين خلعوا باب البيت بأقدامهم أتخيلهم ملفحين بالسواد كأنهم غربان، فليس من باب المصادفة أن تتجانس الكلمتان بهذا الشكل الملفت، وأحيانًا كثيرة بهذا الشكل المخيف، الغراب الغريب الذي علمنا كيف نقتل أخوتنا ونداري الأدلة، الغراب الغريب الذي حفرة أول حفرة للأخ ولم يقع فيها حتى آخر جثة سيدفنها، الغراب الغريب الذي سد أذنه عن بكاء جاره، وتغاضى عن توسلات جارته، وأشهر سكينه بوجه صرخات الأطفال، ومنحهم حفرة جماعية، الغراب الغريب الذي يرقص على أنغام الرصاص، ويمجد بقع الدم على الحيطان وثقوب القذائف في الأسقف، الغراب الغريب الذي يخلط بين الهاون الذي ينشر عطر الهال والبن وبين الهاون الذي ينشر مقتنيات العروس على الملأ من خلال الفجوة التي يخلقها في جدار غرفة النوم الأخير، الغراب الغريب الذي اغتنم غياب أصحاب البيت فاعتبر البيت وما فيه غنيمة حرب أو ضريبة دخل أو حقًا كان مؤجَّلًا وحان وقت قطافه، ضجيج الغرباء يرتفع شيئًا فشيئًا كأنه الزبد، وسواد أرواحهم يطغى على الألوان.

كنت أود لو أن حكمة الأسعد استطاع أن يأخذ قبضة باب البيت معه في نزوحه، فهي ذاكرة البصمات، وعليها آثار كل الذين دخلوا البيت من بابه الهادئ. يقال بأن البراميل التي تتساقط على الناس تحمل الكثير من حديد منازلهم التي نزحوا منها، ربما هذا يفسر احتضان الطفل برميلًا فيه شيء من سريره الذي كان، من سريره الذي صار.

وربما يفسر أيضًا تشبث الطفلة بأنقاض بيتها وحديده لئلا يكون حشوة برميل جديد، الغرباء يدخلون البيوت من النوافذ كالغربان فيسرقون الذكريات، الغرباء يصهرون حديد بيوتنا ليصنعوا أدوات الصيد الجماعي في موسم الهجرة الذي طال، الغرباء يتهادون حديد بيوتنا ويفتتحون الأسواق باسم الحديد المنهوب، أعرف امرأة اشترت مشجب بيتها مرتين، وسمعت عن رجل رأى سرير عرسه يعبر الحاجز من أمامه فما استطاع سوى البكاء بصمت رافعًا يديه بالدعاء بألا يكون على السرير أثر من آثار حياته الخاصة، وأنا أتحدث عن الحديد يخطر في بالي السرير الكبير كنا ننصبه بداية كل صيف فوق سطح بيتنا وأتساءل الآن: ترى كم شظية يمكنهم أن يصنعوا منه وهو الذي طالما حمل براءة أحلامنا بغد جميل وجيرانٍ طيبين، وربما يجدر أن أعرج على ما قاله لي الشاعر صدام العبد الله عن أنه زار كنيسة في مغتربه وعرف بأن أجراس الكنيسة تم صنعها من حديد دبابة قاموا بصهرها انتقامًا من الموت والدمار الذي تخلفه وانسيابًا مع صوت رنين الصلوات والسلام، بينما نتلعثم حين نُسألُ عن آخر ما آلت إليه البلاد غداة تقافزت الغربان على شرفات ذكرياتنا.

باب بيتنا الذي كنت كل عام أغير لونه أخشى عليه الآن أن يُجرحَ لونُه الآخير جرّاء حديدة طائشة تؤمن بمقولة، لا يفل الحديد إلا الحديد. باب بيتنا الذي خلعه الغرباء في نص حكمة الأسعد سيظل حاضرًا و ماثلًا في كل النصوص التي سوف ننشدها على مسامع الغد ونحن نقص له أحجية ليلى والغراب، أما الغرباء الذين استباحوا كل شيء فلا بدّ سنسمع صدى نعيقهم في الأحاديث القادمة كلها.

المصدر

السابق
من هم الوزراء والنواب الذين سينامون بلا كهرباء؟!
التالي
أسرار الصحف المحلية الصادرة يوم الخميس في 17 ايلول 2015