لماذا قررت موسكو وطهران قلب الطاولة في سورية؟

قرار روسيا وإيران الانخراط عسكريا في الساحة السورية أسقط رهانات وغير ميزان القوى في الشرق الأوسط برمته.. فخف نعيق “إسرائيل”، وانقطع عواء تركيا، ولم نعد نسمع فحيح الأفعى “السعودية” ينذر بعاصفة الإجرام في سورية بعد إعلان غرفة عمان السبت رسميا فشل “عاصفة الجنوب” في اختراق درعا..

ودون مبالغة، فما حدث في الجنوب السوري اليوم، بعد شهرين من القتال وخمس هجمات منظمة من قبل أكثر من 50 فصيلا إرهابيا، ومقتل عديد من قيادات المجاميع التكفيرية والمئات من المقاتلين، وهروب ما تبقى منهم بعد أن باعوا أسلحتهم لـ”داعش” أملا في الهجرة إلى جنة أوروبا في طائرات الأمم المتحدة بدل الرهان على وهم حوريات الجنة، يعتبر بالتقويم العسكري نصرا إستراتيجيا كبيرا للجيش العربي السوري ومن معه، ونقطة تحول مفصلية في الصراع مع الإرهاب، سيخفف الضغط عن دمشق في جبهة الجنوب ويعيد انتشار القوات في اتجاه الشرق والشمال.

أما سبب قرار موسكو وطهران الانخراط في المواجهات العسكرية الدائرة في سورية، فمرده حصول موسكو وطهران على معلومات مؤكدة بنية أمريكا وبريطانيا وفرنسا استهداف الجيش العربي السوري لتغيير النظام في دمشق بالقوة العسكرية..

هذا المعطى، برز بشكل لافت خلال زيارة العاهر السعودي الأخيرة إلى واشنطن، واتفاقه مع إدارة أوباما في ما سمي بـ”اتفاق القرن 21″ لتغيير النظام في دمشق بالقوة العسكرية، الأمر الذي دفع بوزير خارجية مهلكة الشر والإرهاب للقول خلال مؤتمر صحفي عقده على هامش الزيارة، أن قضية “الأسد” مسألة منتهية لا رجعة فيها، وأنه لا خلاف بين الرياض وواشنطن حول مستقبل سورية من دون ‘الأسد’.

وهو ما كشفته صحيفة “نيزافيسيمايا غازيتا” الروسية هذا الأسبوع حين أكدت نقلا عن مصادر روسية، أن باريس ولندن قررتا المشاركة في العمليات العسكرية ضد “داعش” من باب التعمية والتضليل، فيما الهدف الأساسي من وراء هذه المشاركة هو إسقاط نظام الرئيس بشار الأسد في دمشق، خصوصا وأن معطيات استطلاع الرأي تشير اليوم إلى أن غالبية الرأي العام الأوروبي تؤيد عملا عسكريا ضد “داعش” بعد “عاصفة اللاجئين” التي تم التركيز عليها إعلاميا من الجانب الإنساني العاطفي بشكل استثنائي.

ويعتزم البرلمان البريطاني النظر في مقترح رئيس الوزراء ‘ديفيد كاميرون’ بشأن بدء العمليات العسكرية في سورية مطلع شهر تشرين الأول/أكتوبر المقبل، هذا في ما بدأت الطائرات الفرنسية والبريطانية بطلعات أستطلاعية فوق سورية لجمع المعلومات وتحديد بنك الأهداف بالتنسيق مع عناصر المخابرات الأمريكية وقوات النخبة التابعة للبنتاغون التي بدأت العمل مؤخرا في الشمال السوري من خارج سلطة الجنرال ‘جون آلن’ الذي يقود التحالف الدولي ضد “داعش” في العراق وسورية.

وحسب ما أوردته مواقع روسية نقلا عن رئيس معهد الأديان والسياسة ‘ ألكسندر إغناتينكو’، فإن موجة اللاجئين لم تكن سوى ذريعة لتحضير الرأي العام الأوروبي للتدخل عسكريا في سورية باعتبارها مصدر المشكلة، أما ما يهم باريس ولندن بالدرجة الأولى فهو حصتهما من الكعكة السورية، حيث “يعتقدون بأن الوقت حان لإزالة سوريا كدولة من الوجود، لذلك الجميع يسعى للمشاركة في اللعبة عند تقسيمها، حيث أن المشاركة في الائتلاف يمنحهم هذا الحق”، وهو ما يفسر قرار أستراليا المشاركة في الحرب ضد “داعش” في سورية أيضا.

اليوم نستطيع القول أن اللعبة انتهت بالنسبة لأدوات أمريكا في المنطقة بعد أن قرر القيصر بالتنسيق مع طهران قلب الطاولة على الجميع في المنطقة، ولم يعد باستطاعة أحد تحدي المارد الروسي الذي حل بكل ثقله للدفاع عن سورية، وأصبحت المواجهة مع أمريكا وبريطانيا وفرنسا مباشرة..

لم يعد التجييش الطائفي والتحريض المذهبي الذي استثمرت فيه “السعودية” في مواجهة إيران يجدي نفعا، ولا العبث الأمريكي الذي اتخذ من “داعش” حصان طروادة لتغيير خريطة المنطقة يجد من يقبل به بعد أن انكشف المستور وبانت النوايا الحقيقية لإمبراطورية الشر والإرهاب الصهيونية..

روسيا ترفض اليوم كل الاعتبارات الظرفية والتبريرات التمويهية التي تربط الحرب على الإرهاب برحيل الأسد، وتضع أمام العالم تحدي وحيد يحظى بالأولوية القصوى لما له من انعكاس على أمنها القومي وأمن العالم، ألا وهو محاربة الإرهاب أولا وأخيرا، أما الرئيس الأسد فقضية تهم الشعب السوري دون سواه، ولن تسمح لأمريكا أو غيرها بتغيير النظام في دمشق بالقوة العسكرية..

حتى “إسرائيل” فهمت أبعاد اللعبة فراحت تبحث عن تفاهات في الكواليس مع موسكو من وراء ظهر أمريكا.. وبيدها ورقة إنهاء التنسيق مع زبالة التكفيريين شريطة أن يطردوا في اتجاه الأردن، وأن لا تفتح سورية جبهة الجولان للمقاومة بعد أن لاحظت وجود قوات من الحرس الثوري الإيراني وحزب الله وفصائل المقاومة السورية في الجزء المحرر من الجولان، وهي بذلك ترمي كرة النار باتجاه حليفها الأردني، بل وتقوم ببناء سور عازل على الحدود الشرقية لتحمي نفسها من تداعيات ارتداد “داعش” على الداخل الأردني بعد هزيمة التنظيم في سورية والعراق، وفق ما تؤكد تقارير استخباراتية..

أوروبا نفسها انقسمت على نفسها حيال هذا الحدث الكبير مخافة التورط في مواجهة خطرة مع الدب الروسي الذي يبدو أنه كشر عن أنيابه ودخل بثقله الكبير ليقول للعالم أنه مستعد للدفاع عن مصالحه بقوة، وأن سورية بالنسبة لموسكو خط أحمر لن تسمح بتجاوزه لأي كان، فألمانيا كما النمسا وإسبانيا وغيرها رحبوا بانخراط روسيا وإيران في الحرب على الإرهاب، فيما فرنسا قررت إرسال وزير خارجيتها إلى موسكو لمقايضة سورية بأوكرانيا ورفع العقوبات عنها، بعد أن رفضت دمشق اقتراح لندن ببقاء الأسد لفترة انتقالية لا تتجاوز 6 أشهر يغادر بعدها الحكم بضمانات دولية.

أما أوباما، فأصيب بالصدمة ولا يعرف كيف يتصرف ولا ماذا يجب أن يفعل حيال هذا المستجد.. لم تعد الخديعة تنفع، ولا العزلة السياسية والعقوبات الاقتصادية تجدي مع روسيا، وأي تصريح يجب أن لا يكون في اتجاه التصعيد لعدم صب الزيت على النار، لذلك اكتفى الرئيس أوباما بالقول، أن تدخل موسكو في سورية سيفشل وسيجعل من التوصل لحل سياسي للأزمة السورية أمرا معقدا، هذا في ما حذر منسق التحالف الأمريكي الجنرال ‘جون آلن’ من خطورة الصدام بين قواته والقوات الروسية.

روسيا لا تمزح هذه المرة ولا تتحدى من باب التكتيك للتهويل، لأن إرسال أكبر غواصات حربية مرعبة “دميتري دونسكي” إلى المياه الإقليمية السورية وبداخلها 200 رأس نووي ترافقها مدمرتان للغواصات بالإضافة لأسطول من البوارج والقطع الحربية المختلفة لإجراء مناورات عسكرية قبالة السواحل السورية الأسبوع القادم، ناهيك عن حملتها المكثفة والمتواصلة لنقل السلاح الثقيل والعتاد والمؤن والمنظومات الصاروخية المتطورة المضادة للطيران بحرا وجوا عبر إيران والعراق، وإعداد مطار قرب اللاذقية لاستقبال طائرات (سوخوي سي – 35) الأخطر في العالم والتي تفوق من حيث المناورة والتقنية نظيراتها الغربية.. اعتبرت رسالة عسكرية وأمنية وسياسية واضحة قرأتها واشنطن ودول المنطقة بالواضح المكشوف، ومفادها:

* أن روسيا دولة عظمى لها مصالحها وخطوطها الحمراء، وعلى الجميع أن يتعامل معها حسب وزنها السياسي والعسكري والاقتصادي الجديد، فلم يعد مقبولا بعد اليوم التغاضي عن العربدة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط وآسيا، لقد انتهى عصر أمبراطورية روما الإرهابية كقوة وحيدة مهيمنة على العالم.

* أن عقيدة روسيا الجديدة تختلف عن عقيدة الاتحاد السوفياتي السابق، فهي تدافع عن حلفائها ولا تتخلى عنهم تحت أي ظرف كان كما تفعل الولايات المتحدة، ومن يتحالف مع موسكو من دول المنطقة سيحظي بنفس الحماية التي توفرها اليوم للنظام السوري، وهذه رسالة موجهة خصيصا لمصر المترددة لتخرج من المنطقة الرمادية وتقرر تموقعها النهائي إلى جانب سورية بما يخدم مصلحة أمنها ودورها القومي المستقبلي.

* أن روسيا ليست وحدها في المواجهة، بل معها إيران وحلفائها في محور المقاومة كشركاء على الأرض، ومن ورائها التنين الصيني ومنظمة شانغهاي ودول البريكس الداعمين لاستراتيجيتها في المنطقة، باعتبراها رأس الحربة للمنظومة الأسيوية الجديدة التي تمثل الثقل السياسي والأمني والعسكري والاقتصادي والمالي الصاعد في العالم.

والسؤال الكبير الذي يطرح اليوم في واشنطن هو: ماذا سيفعل الرئيس أوباما حيال هذا الأمر غير التصريحات الجوفاء؟..

الجواب كما يقول خبراء صهاينة هو: “لا شيــئ”، لأن الرئيس أوباما لا يعرف ما يجب فعله ببساطة، ولأنه لا يريد أن ينهي ولايته بصدام عسكري قد يتحول إلى حرب عالمية كبرى، هذا أمر لا يرغب فيه أحد اليوم..

كان بالإمكان تحويل سورية إلى (أفغانستان 2) لو أن الجيش “الأحمر”، كما تسميه إعلام الخليج، دخل مستنقع الحرب على الإرهاب على الأرض، لكن روسيا مدركة لخطورة مثل هذه الخطوة، واستراتيجيتها تقوم على أساس أن تتولى قواتها الفضاء والبحر فيما يتولى الجيش العربي السوري وحزب الله وقوات من الحرس الثوري والحشد الشعبي العراقي تطهير الأرض من الإرهابيين، وتقول مصادر غربية، أم موسكو وخلال اجتماع بوتين بالوفود العربية في موسكو قبل أيام، وجهت إنذارا لهم مؤداه، أنها لن تسمح بتسهيل مرور الإرهابيين إلى سورية كما كان الحال من قبل..

فهل سيلتزمون؟.. المؤشرات تقول أنه إذا كانت “إسرائيل” أبدت في الكواليس استعدادها للتخلي عن زبالة التكفيريين مقابل ترتيبات أمنية على الحدود في الشمال، فماذا يستطيع فعله الأردن أو “السعودية”؟.. وهناك إشارات مفادها، أنه في حال لم تتراجع “السعودية” عن مقامرتها المجنونة في سورية فسيتحول اليمن إلى مقبرة لجنودها.

أما تركيا، فقد قرر أردوغان تجميد المفاوضات المتعلقة بأنبوب الغاز الروسي عبر تركيا لأوروبا (السيل الجنوبي) بضغط من واشنطن، وهو اليوم منغمس في الحرب ضد الأكراد ومنخرط في الإستراتيجية الأمريكية حتى النخاع، وبالتالي، كل الخطر يبقى من الجانب التركي حيث ستحتشد القوى الأمريكية والفرنسية والبريطانية لتنفيذ استراتيجية إسقاط سورية كما كان مخططا، في حال قررت واشنطن رفع التحدي اعتقادا منها أن الروسي يناور بالتكتيك فقط.

هناك من يعتقد أن الرئيس أوباما سيضطر ليراجع استراتيجيته في المنطقة ويتراجع، عن رفع التحدي، لأنه يعلم أنه فقد الاقتدار في المنطقة، وحلفائه ضعاف، وإيران لا تمزح، وهي قادرة على تهديد مصالح الولايات المتحدة في الخليج، بل وحتى “إسرائيل” لن تكون في مأمن من كرة النار إذا انفجرت المنطقة، وأنه حتى لو أصر على إسقاط النظام في دمشق، فإن البديل الحاضر اليوم هو عدد لا يحصى من التنظيمات الإرهابية التي إن تمكنت من الأرض فستنتشر كالنار في التبن لتطال دول المنطقة وأوروبا بل وأمريكا نفسها، لأن انتصار الإرهاب يضمن له استقطاب مزيد من الأتباع..

وعلى ضوء ما سلف، في اعتقادي، أن أوباما سيضطر للجلوس على الطاولة مع الرئيس بوتين على هامش اجتماعات الأمم المتحدة متم هذا الشهر حيث سيكون قيصر روسيا نجم العالم بلا منازع بعد غياب دام 8 سنوات، وقد يتوصلون إلى اتفاقات بشأن ملفات المنطقة يحفظ لكل مصالحه ومناطق نفوذه، وقد تظل بعض القضايا عالقة في انتظار ما سيقوله الميدان في اليمن مثلا..

نقول هذا، لأن أي تصور من خارج هذا الإطار معناه أن نبوءة ‘ألفريد أنشتين’ ستتحقق، والتي قال فيها: “أنا لا أعرف متى ستندلع الحرب العالمية الثالثة، لكني على يقين من أن الحرب العالمية الرابعة سيخوضها الناس بالعصي والحجارة”.

حفظ الله البشرية من جشع الصهيونية الفاسدة والمفسدة في الأرض.

لماذا قررت موسكو وطهران قلب الطاولة في سورية؟..
(بانوراما الشرق الاوسط)

السابق
«كلّن يعني كلّن»
التالي
ناهض حتر وكوكتيلات بشّار اليساريّة