«كلّن يعني كلّن»

تهمة الفساد، مع الحِراك الراهن، تعمّمت على جميع السياسيين. والإصرار على شعار”كلّن يعني كلّن”، بل تطبيقه في أوجه الفعاليات والأنشطة التي يحييها هذا الحِراك، يثير غيظ أطراف محددة في السلطة، كان جلّ رصيدها قائماً على “نظافة” و”صدق” أركانها. الفاسدون المعتادون على تلقي تهمة الفساد العلني، أي جماعة 14 آذار، لم تكن ردّة فعلهم غاضبة ولا مستنكرة، على تعميم تهمة الفساد؛ فهذا ما يريحهم، ويعفيهم من عبء احتكار التهمة.

لذا تجدهم يدافعون عن أنفسهم، ولكنهم تخلّوا رفع دعاوى قضائية ضد من يتهمهم بالفساد… كما فعل أحدهم، عشية الحِراك، بحق شاب أطلق اثناء التظاهرات ضد التمديد للمجلس النيابي “حرامية…! حرامية…”. أما “خصومهم”، جماعة 8 آذار، فإستشاطوا غضباً، وراحوا يطلقون المواقف شبه اليومية، والخطب، والتصريحات… بأن “كلا…! لا للتعميم!”، ليسوا مثل نظرائهم؛ إنهم شرفاء نظفاء صادقون، قديسون، ونحن لا نعرف قيمتهم… إلى ما هنالك من الإسطوانة ذاتها. بحيث أصبح المشهد السلطوي هو عبارة عن فئة ساكتين على تهمة الفساد، وأخرى تقوم بكل ما يلزم لدرء هذه التهمة عن نفسها. السبب ليس طبعاً ان الذين ينكرون عن أنفسهم تِهَم الفساد هم غير فاسدين، فازدواجية السلوك والقول عندنا تقليد راسخ عميق… السبب هو ذاك التقسيم اللعين للعمل الذي قام منذ عقدين وأكثر، على ان الذين هم الآن ساكتون على تهمة الفساد، أنيطت بهم مهمة الاقتصاد والمال، وهم معسكر 14 آذار، فيما أخذ المعسكر الثاني، 8 آذار، على عاتقه مهمة التحرير من إسرائيل، المهمة الشريفة، الجهادية، التي وضعت رموزه، في مصاف القديسين المطوَّبين.

“المال النظيف”، تلك العبارة التي أطلقها أصحاب الشعارات في هذا المعسكر الأخير، كانوا يرشقون بها، يقصدون بها، طوال سنوات، “المال غير النظيف” الذي يغرق فيه جماعة 14 آذار؛ غير النظيف فعلاً، ولكنه لا يقلّ وساخة عن المال الذي تغدقه إيران على سلاح ورجال “حزب الله” قائد هذا المعسكر، ولا يقلَ وساخة عن الأموال الأخرى التي نزلت من سماء سلطة، شارك فيها الحزب، هو وحلفائه،، بحيث صار فسادهم مزدوجا: فساد تلقي أموال إيران، وفساد الوقوف على وزارات، وإدارة دفّة فسادها الجديد والقديم. فساد الدويلة وفساد الدولة. هكذا، صدّقوا كذبتهم، إلى حدّ انه يصعب عليهم، أكثر مما يصعب على خصومهم، الإعتراف بفسادهم، أو السكوت عن تهمة الفساد، ثم التحرش، عبر “مذكرات رسمية”، بفاسدين من المعسكر الآخر؛ مشهد يصلح لمسرحية هزلية، أكثر ما يستوقفها، هو الفرق الهائل بين تعابير وجه الفاسد “الصادق” وتعابير وجه الفاسد الفاسد… العقلية التي تدير سيمفونية البراءة هذه هي أيضا عقلية الحليف بشار الأسد: فهذا الأخير لا يخجل من التكرار، مرة بعد أخرى، بأنه “ضد التدخل الخارجي بشؤون سوريا”، وبأن المعارضة، المسلحة منها وغير المسلحة، تتلقى “دعما من الخارج”، هدفها إمبريالي صهيوني خسيس… ولكن بشار الأسد لا ينتبه، أو لا يريد أن ينتبه، بأن بلاده، أو بالأحرى الجزء المتبقي له من بلاده، “سوريا التي تفيده”، هي الآن تحت السيطرة اللوجستية والأمنية والعسكرية لكل من الروس والإيرانيين. بشار ليس وحده في تلك الورطة المفضوحة مع الحقيقة؛ ولا طبعاً حلفاؤه الأوصياء على مصير بلاده… وفرعهم الجهادي في لبنان. ولكن، ما الذي يديم هذا النوع تحديداً من الكذب؟ كذب الفاسدين المتباهين بصدقهم ورسالتهم ونزاهتهم؟ أولاً الزمن: عليكَ ان تحسب عمر الكذبة. نحن مثلا، نعيش هذه الكذبة منذ أكثر من عقدين.

 

ومن الطبيعي، عندما لا يأتي ما يناقضها، أن تنتعش الكذبة وتزدهر، أن تتأصل في نفوس أصحابها وأنصارهم، بل أعدائهم أحياناً… ويصبح من المستحيل إجتثاثها إلا بقوة تشبه قوة الإندفاعة الشعبية الحاصلة الآن. فبقدر ما يمرّ زمن على الكذبة، تصبح مثل الرأسمال، رزْقة وملكية… مصلحة حيوية، يتم الدفاع عنها بشراسة أصحاب المصالح الكبرى. ثانياً، المحطات التأسيسية. لا ننسى ان حزب الله” تأسس على قاعدة ولا أنْبل، وكذلك حليفه، “التيار الوطني الحر”: ولسان حال الإثنين “شرف ونظافة”. فيما جميع اللحظات الإعلامية التي لعبوها كرّست صوراً وثّقت لـ”صدق وعدهما”، مثل صورة ذاك “الإنتصار التاريخي الإلهي الإستراتيجي” على إسرائيل… من يتذكر هذه الصورة، وما استتبعها من حملة على أصحاب المال “الحرام”، بالمقارنة مع مالهم “الشريف”؟ ثالثاً، التصورات المسبقة، الموروثة عن الستينات والسبعينات، والتي تقول، بلا مواربة، بأن أي “مناضل” ضد الإمبريالية والصهيونية، هو بالضرورة إنسان نظيف شريف؛ فيما التأكيد على هذه التصورات هو بمثابة تسجيل موقف وطني، “بامتياز”.

كلا أيها السادة، حتى في أيام عزّ النضال الوطني، كان هناك مناضلون غير شرفاء، بعضهم بنى ثروات على حساب القضية، والباقي اكتفى بفساد أقل… الكشف الموضوعي عن الفساد يجب ألا ينتظر الدعاوى التي يرفعها هذا الطرف الفاسد أو ذلك، ضد فاسدين من نظرائه. انه يحتاج بالأحرى إلى ورشات عمل أهلية، تأخذ على عاتقها رواية حكايات الفساد، بالأرقام الدقيقة، وفي المرافق التي أصابها الحِراك مباشرة، أي في الخدمات. ويكون بذلك الحِراك قد لعب دوراً آخر، درو التراكم في المعرفة الكاشفة للكذب، بلا إبطاء. وهذه عملية تطهيرية للعقل، تساعدنا على معرفة مكامن الفساد التي تسلّلت إلى نفوسنا، نحن أيضاً، بغفْلة من وعينا، ومن دون “أرباح” تُذكر.

(المدن)

السابق
«العسكرة الروسية» في سورية سلاح بوتين الأخير؟
التالي
لماذا قررت موسكو وطهران قلب الطاولة في سورية؟