جماعاتُ الإسلام السياسي : الصعود .. الى الهاوية

لقد شكّل الصعودُ المفاجئ لتنظيم ” داعش “الى مسرح الأحداث العالمي ، صدمةً حقيقية للرأي العام المحلي والعالمي ، وفتح جدلاً واسعاً حول حقيقة جماعات العنف التكفيرية : تاريخها ، جذورها الفكرية ، مرتكزاتها الفقهيّة ، مصادر تمويلها ، أجنداتها القريبة وأهدافها البعيدة … ولأن الفكر ، أيّاً كان مضمونه وإنتماؤه ، لا يأتي من عدمٍ او فراغٍ ، بل من شروطٍ إجتماعية واقتصادية وسياسية وطبقيّة و…  فقد حاولنا البحث والتقصّي لمعرفة المنابت والجذور والمنطلقات والعوامل الحاسمة والمؤثرة في نشأة وبروز هذه الجماعات .

وقد أكّدت خلاصةُ البحث والتحليل أنه :

من رحِم الإحباط واليأس والشعور بالدونيّة والإستلاب والإنسحاق والهزيمة والفشل في بناء دُولٍ مدنيّةٍ عصريّة وأنظمةٍ عادلة وديمقراطيةٍ ، خرج ماردُ التطرّف الديني من قمقمه ، وقد تجسّد تنظيماتٍ تمارس بإسم الله ، العنفَ المادي والإرهاب النفسي بأبشع صورهما ، بذريعة الإنتقام للشعوب العربية التي ذاقت مرارةَ السياسة الممنهجة في سرقة ثرواتها وتجهيلها وتفقيرها وإخضاعها وإذلالها لترويضها ؛

من رحِم إستغلال الإجتهادات والتفسيرات والتأويلات المختلفة للموروث الديني والمقدّس ، بُغية توظيفها في إزاحة سلطةٍ قائمة ، والصعود مكانها الى الحكم ، تشكّلت عقيدتُها وفكرُها الذي يبدو انه الإبنُ الشرعي لتعصّبنا القبَلي وعُنفنا العشائري المتجذّر في لاوعينا رغم إدّعائنا التحضّر ؛ والوريثُ الطبيعي لموروثنا الثقافي الذي تمّ إختصاره بآيات السيف والقتال والغزوات وجزّ الرقاب وإستئصال كل مَن ليس على صورتنا ومثالنا ؛ ولتاريخنا المتخيّل الذي يريد دُعاةُ العنف والهدم والتقويض والتطهير ، حصره بأحداث المرحلة “المدينيّة ” من مراحل نشأة الإسلام ، بإعتبارها المرجعيّةَ المؤسِّسة المثالية لتأصيل إنتهاجهم أساليب الرجم والجلد والذبح ، بذريعة السير على خُطى السلف الصالح ، وتقليدهم في أقوالهم وأفعالهم .

إذن ، وحشُ الإرهاب المقدّس ، الذي حضنته ورعتهُ وغذّته واستثمرته ووظّفته في ضرب وتشويه كل ما له قيمة في ثقافتنا ومجتمعاتنا، دولٌ وحكوماتُ وأنظمةٌ وأجهزةُ استخباراتٍ محلية وعالمية –  ليس طفرةً مفاجئة او عابرةً في حياتنا، انه في الحقيقة ، مجرد تطوّرٍ دراماتيكي او ردّ فعلٍ طبيعي للإرهاب والإستبداد والقهر والظلم السياسي الذي مارسته الأنظمةُ العربية الحاكمة ، ومجرد حلقةٍ من سلسلة التوظيف والتشويه والإستغلال للمقدّس ، إمتدّت على مدى عقودٍ من الزمن . وتاريخنا غنيٌ بالشواهد التي تؤكد أنٌ العنف والغُلو وطرد الآخرين من حظيرة الإيمان وإتهامهم بالزندقة والردّة ، والتعصّب الديني والإستعلاء المعرفي واحتكار الحقيقة وتحصين الذات عبر شيطنةِ الآخر ، وتأكيدها عبر إثبات ضلاله وانحرافه ، والإحتراب بين المذاهب وتبادل أدوار الإلغاء والتكفير فيما بينها – هي في تاريخنا، ظواهرُ وحقائقُ بلغت حدّ اللامعقول والعبث والفوضى ، تحوّل معها الدفاع عن نقاء الدين وصفائه ، الى سلاحٍ مشروع لتبرير الإسراف في العقوبات من أجل السيطرة والغلبة ، ومن أجل التخلّص من الخصوم الفكريين والسياسيين ( محنة أحمد بن حنبل ، مأساة الحلّاح ، تكفير الإمام الغزالي ، إضطهاد الطبري ، تكفير الإمام الغزالي ، المعارك الفكرية بين الأشاعرة والمعتزلة ، الإحتراب بين السُنّة والشيعة  …. ) وتحوّلت معها الرسالةُ السماويّة التي أعطت العربَ كلّ مجدهم العقلي والعلمي والسياسي والعسكري والحضاري الذي تولّوا به قيادة العالم قروناً طويلة ، الى رحمٍ ولودٍ ينتج على مرّ الأزمنة والأمكنة ، مشاريعَ رُعبٍ وبطشٍ وثأرٍ وإنتقام وتطهير وإقصاء وإلغاء وتكفير وقتْلٍ بإسم الله وتطرّف لا يعرف التسامح او الإعتدال ؛ مشاريعَ تعتبر الهوس المَرَضي بالقتل والإنقتال جهاداً ؛ والتوحّش  فقهاً؛ والتطرّف مذهباً ؛ والغُلّو تديّناً ، والشعور الهذياني بإمتلاك الحقيقة إيماناً .، وتكفيز المخالفين وإخراجهم من الملّة ، طاعة وتقرّباً الى الله .

واذا كان هناك إجماعٌ على ان القرآن هو الثابت المطلق الوحيد في موروثنا الديني المقدّس ، فإن منظّري حركات الاسلام السياسي – سُنّة وشيعةً – قد تعمّدوا جعْل النسبيَ مطلقاً ، والمتغيّرَ ثابتاً ، والظرفي أبديّاً ،  والمؤقّت دائماً ، والبشري مقدّساً ، وذلك عندما تعاملوا مع الفتاوى والتفسيرات والتأويلات وإجتهادات العلماء في قراءة النصّ الديني ، التي ظهرت في عصور متباعدة منذ مئات السنين ، على أنها مطلقةٌ ومعيارية ونهائية ويمكن تطبيقها في كل زمان ومكان ، ما يعني انهم وضعوها في مرتبةٍ واحدة مع أحكام القرآن ، ورجعوا اليها بنفس المستوى من الوثوق واليقين النقلي، بصرف النظر عن تغيّر ظروف العصور، وتبدّل ميزاتها وحاجاتها وشروطها وضروراتها وإشكالياتها ومقاييسها وقوانينها . وهذا واحدٌ من مصادر التضليل والإنحراف والتشوّه في فكر تلك الحركات ، وخاصة فيما تطلقه من أوصافٍ وأحكام وثنائياتٍ : مجتمع جاهلي واسلامي ، دار حربٍ ودار سلام ، دار كُفر ودار إيمان …

فما هي أبرز الخلفيّات التاريخية والسياسية والإجتماعيّة والفكرية والدينيّة التي أدّى تراكمُها عبر السنوات ، الى انفجار موجات العنف العاتية والعصبيّات والهُويّات المذهبيّة القاتلة ، والتي ساهمت في بلورة استراتيجيّة التوّحش التي عزّزت إنفلات المشاعر الإنتقامية والثأرية وتفشّي الغرائز العدوانية ؟

أولاً : ظهور جماعة ” الخوارج ” بعد موقعة التحكيم بين الإمام عليّ بن أبي طالب ومعاوية بن سفيان ، وما تبع ذلك من تشظٍ وشقٍ للصف الاسلامي الواحد ، ومن شيوعٍ لأحكام التكفير والردّة وقتُل المخالفين والثورة على حُكّام الظلم والجور ، معطوفاً عليها إنطلاق شرارةِ النزاعات والصراعات الدموية على السلطة ، وعلى إثبات أحقيّة خلافة الرسول في قيادة الأُمّة ، التي استمرت مئات السنين ، ولم تنطفئ بعد ، جذوةُ فتنتها ومفاعيلُ حقدها وإمكانيةُ توظيفها وإستثمارها في التحريض والتعبئة ونبش قبور الماضي السحيق ، وإستعادة صراعاته ونزاعاته القبلية والعشائرية .

ثانياً : ولادةُ المدرسة السلفية على يد الشيخ السعودي محمد بن عبد الوهاب الذي نجح في تأسيس دولةٍ في عام ١٧٤٤ بالتعاون مع الأمير محمد بن سعود ، تبنّت المذهبَ الحنبلي الذي تُعتبر أحكامُ أصحابه (احمد بن حنبل وتلميذاهُ ابن تيمية وابن القيم الجوزية) الفقهيّة ، وفتاويهم المتشدّدة ، الركيزة الأساسية في تأصيل الفكر الجهادي واستشراء الأحكام التكفيرية لدى بعض حركات الإسلام السياسي .

ثالثاً : سقوطُ “الخلافة الاسلامية” بعد تفكك الدولة العثمانية ، وتقسيم العالم العربي ، وتوزيع الوصاية عليه بين المنتصرين في الحرب . وما تلا هذه الأحداث من غضبٍ عارمٍ  في العالم الاسلامي الذي ظلّ بعض أبنائه الذين يعتبرون الدول القطرية كياناتٍ سياسية مؤقتّة خلقها الاستعمارُ العالمي ، يحلمون بإعادة إحياء أمجاد الخلافة الزائلة ، كرمزٍ من رموز القوة والمنعَة وتوحيد المسلمين تحت رايةٍ واحدةٍ  . وما زال هذا الحلم يدغدغ مشاعر الملايين من المسلمين حول العالم ، كلما كُسرت شوكتهم وازداد استضعافهم وتخلّفهم واستباحتهم ، مهما بدا لهم من استحالةِ تحقيق هذا الحلم .

رابعاً : إعلانُ قيام “دولة اسرائيل” في سنة ١٩٤٨ على أرض فلسطين ، وما سبق ذلك ، ولحقهُ من المجازر التي إرتكبتها الميليشياتُ والعصابات اليهودية ، اضف الى ذلك الحروب التي شنّها هذا الكيانُ الديني الغاصب بدعمِ من عدة دولٍ غربية ، على الدول العربية المجاورة ، وهزيمة الجيوش العربية النظامية امام الجيش الاسرائيلي ، وما تركته تلك الهزيمة من شعورٍ بالإنكسار والإنسحاق والغضب ، ومن جُرحٍ دائمٍ وغائرٍ في عقل وقلب وكرامة الشعب العربي ، نتيجة ضياع الاراضي المقدّسة .

خامساً : فشلُ كل الايديولوجيات والعقائد الفكرية والسياسية ( القوميّة والبعثيّة والعلمانية والإشتراكية … ) التي ازدهرت في أعقاب نيل الدول العربية استقلالها ، بعد وصول اصحابها الى السلطة عبرالإنقلابات العسكرية أو الإستفتاءات الشعبية المزوّرة او محسومةِ النتيجة سلفاً، وممارستهم الحكم بقبضةٍ من نارٍ وحديدٍ وطائفيةٍ وعسسٍ ومخابراتٍ كتمت انفاسَ الشعوب ، وأذاقتها مرارةَ الذلّ والهوان والقنوط ، وأورثتها القهرَ والقمع والجهل والفقر والبطالة . ويمكن القول إنّ فشلنا في إقامة دولٍ عصرية ، يعود بالدرجة الأولى الى إخفاق تلك التيارات التي أعماها حُبّ السلطة ، في تعميق التجربة الديمقراطية القائمة على المساءلة والمحاسبة وتداول السلطة والتنمية ، لإنشغالها بالصراع على السلطة ، وبالسعي لحيازة اكبر قدر منها عبر خنق الحريات وإلغاء التعددية السياسية ، وتعزيز أنظمة القمع والفساد والاستخبارات والتسلّط .

سادساً : نجاحُ الثورة الإسلامية بإيران في سنة ١٩٧٩ بقيادة الإمام الخميني ، الذي نجح، وإنطلاقاً من فكرة الولاية العامة للفقيه ، في إقامة دولةٍ ثيوقراطية  على أساس المذهب الشيعي ، يحكمها الفقهاءُ ويقرر مصيرها في كل صغيرةٍ وكبيرة ، رجلُ دينٍ يمتلك صلاحياتٍ مطلقة تجعله قادراً على فرض وصايةٍ تامةٍ على المجتمع . وقد أعطى قيام هذه الدولة على انقاض الحكم الملكي الفاسد والمستبد ، جُرعةَ أملٍ لتنظيمات الإسلام السياسي السُني ، بأن هناك إمكانيةً لإسقاط الأنظمة العربية اللاشرعية والكافرة التي تحكم بغير ما أنزل الله ، وإقامة الدولة الثيوقراطيّة على أساس المذهب السُنّي .

سابعاً : إجتياحُ الاتحاد السوفياتي لأفغانستان في سنة ١٩٧٩، وما تلاهُ من تحريضٍ دينيّ وتجييشٍ طائفي من قِبَل دول عربية وغربية على رأسها الولايات المتحدة الاميركية ، بهدف دعوة جميع المسلمين في العالم ،  للذود والدفاع عن حياض دولةٍ اسلامية اجتاحتها دولةٌ كافرة وملحدة . وبفعل الدعم اللامحدود ، فقد تدفّق الالافُ من الشباب المسلم – وهم الذين سيُعرفون لاحقاً بإسم ” الأفغان العرب ” – الى أفغانستان حيث اكتسبوا مهاراتٍ عسكرية وقتالية هائلة ، واختبروا القتال والجهاد على أرض الواقع ، وحيث بدأت بالتشكّل أيديولوجيا دينية تقوم على مفاهيم الولاء والبراء والجهاد والقتال والتكفير والهدم والتقويض وشطْر العالم الى فسطاطين او محورين : الحق والباطل ، الخير والشرّ ، الإيمان والكفر ، الله والطاغوت ، الإسلام والجاهلية ،  دار الحرب ودار السلام ؛ أيديولوجيا تدعو الى قتال العدو القريب، أي الأنظمة العربية ، والعدو البعيد، أي الأنظمة الدولية التي تحتل أرض المسلمين وتسرق ثرواتهم وتدنّس مقدّساتهم . ومن رحِم هذه التجربة الجهادية ، خرج تنظيمُ “القاعدة” بزعامة الشيخ  “أسامة بن لادن” الذي تحوّل الى رمزٍ وأيقونةٍ ومدرسةٍ لأجيالٍ لاحقةٍ من الجهاديين ، أبرزهم الأردني ” ابو مصعب الزرقاوي ” .

ثامناً : الغزو الأمريكي للعراق في سنة ٢٠٠٣ حيث تمّ ، وتحت ذرائع كاذبة وأدلّة ملفّقة ، تدمير العراق وحلّ الجيش العراقي الوطني ومحاكمة رئيسه وإعدامه في عيد الأضحى وتسليم مفاتيح العراق الى إيران الشيعية التي قامت بتطييف الجيش ومذهبةِ المؤسسات ومصادرة القرار السياسي للبلاد . وقد استدعى هذا الواقع ردّ فعلٍ عنيف من قِبَل حركات الاسلام السياسي السُنّي التي اعتبرت ان معركتها ليست فقط مع المحتلّ الامريكي ، بل ومع الروافض الذين إضطهدوا سُنّة العراق وهجّروهم من مناطقهم وأقصوهم عن المناصب العالية ، وحوّلوا العراق العظيم الى مجرد محافظةٍ يتولّى إدارتها المرشدُ الروحي الإيراني الذي لا يتردد قادتُه السياسيون والعسكرييون  بالمجاهرة والتصريح بأنّ نظامهم يسعى الى إحياء مشروعٍ قوميّ توسعيّ ذي صبغةٍ مذهبية ، بذريعة تحرير فلسطين ونُصرة المستضعفين في الأرض . ومن الفوضى غير الخلّاقة التي عمّت العراق ، تناسلت الجماعاتُ العُنفيّة  السُنيّة والشيعيّة التي مارست العنف التكفيري بمعناه الإقصائي الإلغائي الذي يتهم الآخر في دينه وإيمانه ؛ وكرّست شريعة الغاب وسيادة  منطق الغريزة والوحشيّة والتمذهب والتعصّب ، الى أن تمّ تتويج مسيرتها بصعود نجم تنظيم ” الدولة الإسلامية في العراق والشام” التي تُعرف اختصاراً بإسم ” داعش” .

تاسعاً : إندلاعُ الثورات العربية إبتداءً من تونس ، مروراً بمصر وليبيا واليمن ، وإنتهاءً بسوريا التي انطلقت شرارةُ الثورةُ فيها منذ أربع سنواتٍ ، وما رافقها من موتٍ وقتلٍ وتهجيرٍ وإعتقال وإبادةٍ جماعية بالأسلحة الكيميائية والبراميل المتفجّرة ، إرتكبها نظامُ العائلة الحاكم ، مدعوماً من دولٍ إقليميّة عدة ، وعلى رأسها روسيا وإيران التي اعتبرت بقاء النظام مسألةً وجودية وقضيةَ حياةٍ أو موت بالنسبة اليها ، وهو ما دفعها الى تسخير كل امكاناتها المادية والمعنوية والبشرية والأيديدلوجية ، لمناصرة نظامٍ مستبدٍ يفتك بشعبه ويرتكب المجازر الوحشية بحقّه . وقد ترافق تدفّق الميليشيات المسلّحة الشيعيّة المدعومة من إيران ، وعلى رأسها حزب الله ، الى سوريا، مع تدفق المليشيات المسلّحة السُنيّة ، المدعومة من دولٍ عدة ، ما أدّى لاحقاً الى تحويل الأرض السورية الى ” مذبحةٍ” او “محرقةٍ” او “مقْتلةٍ ” تتبارز فيها كل الوحوش الطائفيّة والغرائزية من الجهاديين والمتعطّشين للموت والقتل والإنقتال ، وجميعهم يدّعي انه مقاومٌ ومجاهدٌ في سبيل جعل كلمة الله هي العليا ، وفي سبيل إقامة مملكة الله على الارض .

هذه المحطات والأحداث المفصليّة التي منها ما يعود الى العصور الأولى من التاريخ الاسلامي ، ومنها ما يتعلّق بتاريخنا المعاصر، تُعتبر مسؤولةً عن إيجاد الأرضيّة الخصبة لتنامي حركاتٍ وجماعاتٍ تمتلك أيديولوجيا راديكاليّة لا تعترف بالحدود والجنسيات الوطنيّة والحاكميّة الشعبيّة ، تطالب بقتال الغرب الكافر ، وبإزالة الأنظمة الفاشلة والفاسدة والمفلسة على المستوى التنموي والإجتماعي ، والمرتهنة للسياسات الأمريكية والغربية والصهيونيّة ، واستبدالها بدولةٍٍ إسلامية تحكم بواسطة الشريعة الاسلامية ، لا بواسطة القوانين الوضعية ، بغية إعادة أسلمة الأُمّة التي كفرت وارتدّت ، وإخراج المجتمعات من ظلمات الجاهلية والكفر والردّة ، واعادتها الى أنوار اللحظة التأسيسية الأولى للدين الاسلامي بكل نقائه وصفائه ، قبل ان تلوّثه البدعُ والمحدثاتُ والقيم الغربية المادية الوافدة .

وفي مصر وسوريا والجزائر وغيرها من الدول العربية ، ظهرت أولى الجماعاتٌ الأصوليّة المتشدّدة ( الأخوان المسلمون ، تنظيم الجهاد .. ) التي ركزّت على مفاهيم الذات والهُويّة والخصوصيّة ، بإعتبارها آلية الدفاع الأنجع في مواجهة العولمة وتحديات الحداثة والتغريب التي تهدّد منظومةَ القيم الاسلامية وثوابت الموروث الثقافي ؛ والتي تبنّت الجهادَ طريقاً للتغيير والإصلاح والاستيلاء على السلطة ، معتبرةً ان الديمقراطيّة مُنتجٌ كُفريّ ، وأنّ الدولةَ القطرية وليدٌ غير شرعي أنجبه الاستعمارُ الغربي وفرضه على الأمة . وقد دخلت في صراعاتٍ دموية مع الأنظمة الحاكمة بهدف إسقاطها ، تخلّلها قلاقل وتفجيراتٌ وإغتيالاتٌ لشخصياتٍ نافذة .

وعلى مدى أجيالٍ ، قامت هذه الجماعاتُ التي لا يجمعها تنظيمٌ او إطارٌ مرجعي واحد ، والتي تتحالف حيناً وتتصارع حيناً آخر  – وبشكل إنتقائي – بإستغلال كل الآيات القرآنية والتأويلات والاجتهادات والفتاوى الدينية ، لبلورة نظريةٍ سياسية تخاطب عقول الجماهير المحبطة والمهمّشة ، وتمكنّها من القبض على السلطة . وكلّ حركةٍ لاحقةٍٍ كانت تضيف الى الحركة السابقة رصيداً مُهمّاً من التشدد والتعصّب ومنسوب العنف المستخدم ، الى أن أفضت رحلةُ العنف المقدّس الى ولادةٍ طبيعيّة لتنظيم ” داعش ” الذي نجح كغيره من الحركات الشيعيّة ( جيشُ الحشد الشعبي والعشرات من الفصائل والكتائب التي تورّطت في القتال في سوريا والعراق ) في استقطاب طُلّاب الموت والإستشهاد والمُشوّهين نفسيّاً واجتماعيّاً وأخلاقيّاً ، والمشحونين بفعل التعبئة والتحريض المذهبي والأيديدلوجي ، بالحقد والكراهية والغضب ، من كل أصقاع الدنيا . وقد بات هذا التنظيم بعد إعلانه قيام “الدولة الإسلامية” يمثّل العنفَ بشكله الأكثر وحشيةً ودموية وعبثيةً وتفاخراً بالقتل والذبح والحرق والسبي والشنق والرجم امام عدسات الكاميرات ، بعد أن أصبحت وسائل الإعلام بكافة أشكالها وتقنياتها العالية ، من أبرز أسلحته الفتّاكة التي يُحسن استخدامها لتوثيق جرائمه وبثّ إنتهاكاته وعرْض إغتياله للكرامة والحياة الإنسانية ، على الرأي العام ، بإعتبارها وسيلةَ ترهيبٍ وتمكينٍ وسيطرةٍ ورُعبٍ لكل مَن يخالفه في الرأي والوسيلة والمشروع .

وقد أثبت هذا التنظيم بممارساته ونشأته وارتباطاته ومصادر تمويله وتمدّده السريع وهُويّة عناصره وقادته العابرة للحدود والأوطان والجنسيّات، أمرين :
الأمرالأول هو أنّ الصراع الذي يخوضه هذا التنظيم وأشباهه ، قد تخطّى البُعد الإجتماعي والسياسي والديني المحلي ، ليصبح صراعاً دولياً تقوده وتتحكم فيه دولٌ إقليميّة وقوى عظمى تستفيد من بثّ الفوضى والخراب في منطقتنا، لتحقيق مصالحها الحيوية ؛ ولإثبات صحّة مقولة ” صدام الحضارات” التي تصف الحضارة الاسلامية بأنها حضارةٌ دمويّة تعادي الحداثة والديمقراطية وحقوق الانسان ، وانّ الدين الاسلامي في بنيوته وجوهره ، هو دينُ الحرب والسيف والتعصّب ، وانه دينٌ رديفٌ للعنف والشرّ ومعاداة الحداثة والعقلانيّة الحديثة .
والأمر الثاني هو أنّ “فقه القتل”  و” فقه اليقينات” قد اصبحا الفقه الأكثر استقطاباً وجذباً لكل الضحايا من المحبطين واليائسين والحالمين بالقضاء على الدولة القطرية التي هي رمزُ الفساد واللاعدالة والإستبداد ، وبإعادة الخلافة العادلة التي تنصفهم وتستعيد حقوقهم المفقودة وكرامتهم المنتهكة وأمجادهم الزائلة ، وتسترجع ماضيهم المجيد عبر تدمير حضارة الآخرين وماضيهم وآثارهم التي هي ملكُ البشرية قاطبةً .

هذا هو الواقع الراهن المأزوم بكل تحديّاته ، وهذه هي ابرز العوامل التي ولّدت العنف السياسي والعنف الديني المضاد . اما كيفيةُ مواجهة جماعات العُنف التكفيرية ، والحدّ من فعاليتها ومن تمدّد مخاطرها وتوسّع رقعة سيطرتها ونفوذها، فهو السؤال الأكثر إستعصاءً وتعجيزاً ، وكل ما يحصل حولنا في العراق المخطوف وسوريا الذبيحة واليمن غير السعيد ومصر المضطربة وليبيا القابعة على فوّهة بركان  ولبنان الرهينة ، يؤكّد ان مبادئ فلسفة الخراب والتوحّش قد تمّ ترسيخها بنجاحٍ في مجتمعاتنا ؛ وأنّ رحلة العنف التي أقلعت منذ عقودٍ ، لن تصل قريباً الى خواتيمها السعيدة ؛ وأن أجيالاً قادمة سوف تدفع فواتير باهظة من الدم ؛ وأنه من المستحيل أن تبقى تأثيراتها الدموية محصورةً في حدود العالم العربي ، دون ان تتخّطاهُ الى دولٍ أخرى في العالم . لذلك فإنّ المطلوب من الجميع : قادةً وحكّاماً ورجال دين ومفكرين وباحثين وفلاسفة :
– المسارعة الى لجم وتطويق مخاطر وتداعيات إنفلاش هذه الظواهر العنفيّة ، عبرالسعي الى تجفيف منابع العنف الديني بالقضاء على كل منابته الثقافية والدينية ومسبّباته الاقتصادية والسوسيولوجية والسياسية ، وإرساء قواعد العدالة الإجتماعية والحرية والديمقراطية واحترام الكرامة البشرية وحقوق الإنسان ، وتنقية الثقافة الاسلاميّة من الفتاوى والمفاهيم ومنظومة القيم المولّدة للتعصب والتطرّف ، والمسوّغة لإستخدام العنف والتوّحش  ….

– ولأنّ كل محاولة لتوظيف الديني والمقدّس في المجال السياسي ، سوف يؤدي بالضرورة الى ضرب وتشويه الإثنين وتعطيل وظيفتهما المفترضة في تنظيم حياة الناس الماديّة والروحيّة ، فإنّ المخرج من دوّامة العنف ومن النفق المطلم ، يكمن في مقاومة ورفض تسييس الدين ، او تديين السياسة ، والإصرار على إقامة الدولة المدنية بديلاً من الدول الدينية التي هي مفرخة العنف المقدّس والاستبداد المقدّس ، ذلك أنّ مملكة الله تقوم في الأرض بسيادة العقل والعدل والقانون ، وليس بسيادة الخرافة والظلم ومنطق القوة ، ولا بتحويل الإيمان الى أداةٍ تجييشيّة وتحريضيّة تتلاعب بمشاعر المستضعفين في الأرض ، وتعبث بمصائرهم عبر إقناعهم أنّ بطاقة الدخول الى الجنّة والحصول على الحور العين ، لا يمكن حيازتها إلّا بقتل النفس والآخرين ؛ ولا بتحويل الدين الى أيديولوجيا نكوصية إنكفائيّة طوباويّة تحمل حنيناً مَرَضياً الى الماضي ، الفردوس المفقود ، وتستغلّ الرأسمال الرمزي الهائل للنصّ الديني لتحقيق أجنداتها الخاصة ، عبر تكريس مقولات الصراع والصدام وتأبيد حالة الحرب والقتال .

– سحبُ فتيل الإشتباك والخلاف الدامي بين السُنّة والشيعة ، وإنجازُ مكاشفةٍ ومصالحةٍ تاريخيّة بينهما ، تعمّق التقارب والأُخوّة ، وتوقف نزيف الفتنة وحمّام الدم المتدفّق بين جنبات الأُمّة منذ مئات السنين ، بفعل التحريض والتجييش وإستثمار خلافات الماضي وعصبياته القبليّة  .

– ممارسةُ العقل العربي لفاعليته النقدية في مراجعة مصطلحات التراث ومفاهيمه ومقولاته ، والتوقّف عن مناشدة الموتى وإستنتطاق الراحلين وإستفتاء السلف الصالح والتابعين في حلّ أزماتنا . أجل نحن أُمة تراثية ، ولكن هذا التراث بات عبئاً ثقيلاً وعقبة كأداء تعرقل قيامنا وتقدّمنا ، بحيث أننا نجد أنه لا مشروعيّة لأيّ قولٍ او رأي او فعلٍ ، إلا انطلاقاً من مشروعية المأثور الديني والفقهي والثقافي . ولذلك ، لا مجال لنفض تخلّفنا ويأسنا إلا انطلاقاً من التعاطي النقدي مع هذا التراث الذي بتنا أسرى سلطته وسطوته وطغيانه على عقولنا وأفهامنا وطريقة معالجتنا مآزقنا ومشكلاتنا .

وإنْ لم نفعل ذلك ، فإنّ المجتمعات العربية سوف تظلّ تعيش في حلقةٍ مفرغةٍ من تبادل الأدوار القمعيّة بين العُنف السياسي الذي تنتهجه السلطاتُ الحاكمة ، والعنف الديني المضاد الذي تقترفه الحركاتُ الاسلامية، بحيث يبدو أنهما يتغذيّان من بعضهما ، ويعطيان الأعذار كي يمارس كل طرفٍ منهما عُنفه وإستبداده وجرائمه إنطلاقاً من استراتيجيّة التوحّش الخاصّة به ، ويقدّمان المبررات لأعدائنا كي يتلاعبوا بنا ، ويصفّوا حساباتهم ويحققوا مصالحهم على خلافاتنا وتشظّينا ونزاعنا على السلطة ، ما يحوّل مجتمعاتنا الى بؤرةٍ خصبةٍ لصراع أبدي بين السياسي والديني ، الانسان العربي فيه ، هو كبش الفداء وضحيته الدائمة .

اللهم إنْ لم تُهلك هذه العصابة من مدّعي الإسلام ، التي تهدم وتدمّر  وتجلد وترجم وتُحرق وتذبح وتقتل بإسمك ، فلن تُعبد في الأرض أبداً !
.

 

 

السابق
جمهور حزب الله: هل يعيد النظر بمفهوم الكرامة
التالي
حزب الاتحاد ينقل شباب سعدنايل ليدربهم حزب الله