وقد أكّدت خلاصةُ البحث والتحليل أنه :
من رحِم الإحباط واليأس والشعور بالدونيّة والإستلاب والإنسحاق والهزيمة والفشل في بناء دُولٍ مدنيّةٍ عصريّة وأنظمةٍ عادلة وديمقراطيةٍ ، خرج ماردُ التطرّف الديني من قمقمه ، وقد تجسّد تنظيماتٍ تمارس بإسم الله ، العنفَ المادي والإرهاب النفسي بأبشع صورهما ، بذريعة الإنتقام للشعوب العربية التي ذاقت مرارةَ السياسة الممنهجة في سرقة ثرواتها وتجهيلها وتفقيرها وإخضاعها وإذلالها لترويضها ؛
من رحِم إستغلال الإجتهادات والتفسيرات والتأويلات المختلفة للموروث الديني والمقدّس ، بُغية توظيفها في إزاحة سلطةٍ قائمة ، والصعود مكانها الى الحكم ، تشكّلت عقيدتُها وفكرُها الذي يبدو انه الإبنُ الشرعي لتعصّبنا القبَلي وعُنفنا العشائري المتجذّر في لاوعينا رغم إدّعائنا التحضّر ؛ والوريثُ الطبيعي لموروثنا الثقافي الذي تمّ إختصاره بآيات السيف والقتال والغزوات وجزّ الرقاب وإستئصال كل مَن ليس على صورتنا ومثالنا ؛ ولتاريخنا المتخيّل الذي يريد دُعاةُ العنف والهدم والتقويض والتطهير ، حصره بأحداث المرحلة “المدينيّة ” من مراحل نشأة الإسلام ، بإعتبارها المرجعيّةَ المؤسِّسة المثالية لتأصيل إنتهاجهم أساليب الرجم والجلد والذبح ، بذريعة السير على خُطى السلف الصالح ، وتقليدهم في أقوالهم وأفعالهم .
إذن ، وحشُ الإرهاب المقدّس ، الذي حضنته ورعتهُ وغذّته واستثمرته ووظّفته في ضرب وتشويه كل ما له قيمة في ثقافتنا ومجتمعاتنا، دولٌ وحكوماتُ وأنظمةٌ وأجهزةُ استخباراتٍ محلية وعالمية – ليس طفرةً مفاجئة او عابرةً في حياتنا، انه في الحقيقة ، مجرد تطوّرٍ دراماتيكي او ردّ فعلٍ طبيعي للإرهاب والإستبداد والقهر والظلم السياسي الذي مارسته الأنظمةُ العربية الحاكمة ، ومجرد حلقةٍ من سلسلة التوظيف والتشويه والإستغلال للمقدّس ، إمتدّت على مدى عقودٍ من الزمن . وتاريخنا غنيٌ بالشواهد التي تؤكد أنٌ العنف والغُلو وطرد الآخرين من حظيرة الإيمان وإتهامهم بالزندقة والردّة ، والتعصّب الديني والإستعلاء المعرفي واحتكار الحقيقة وتحصين الذات عبر شيطنةِ الآخر ، وتأكيدها عبر إثبات ضلاله وانحرافه ، والإحتراب بين المذاهب وتبادل أدوار الإلغاء والتكفير فيما بينها – هي في تاريخنا، ظواهرُ وحقائقُ بلغت حدّ اللامعقول والعبث والفوضى ، تحوّل معها الدفاع عن نقاء الدين وصفائه ، الى سلاحٍ مشروع لتبرير الإسراف في العقوبات من أجل السيطرة والغلبة ، ومن أجل التخلّص من الخصوم الفكريين والسياسيين ( محنة أحمد بن حنبل ، مأساة الحلّاح ، تكفير الإمام الغزالي ، إضطهاد الطبري ، تكفير الإمام الغزالي ، المعارك الفكرية بين الأشاعرة والمعتزلة ، الإحتراب بين السُنّة والشيعة …. ) وتحوّلت معها الرسالةُ السماويّة التي أعطت العربَ كلّ مجدهم العقلي والعلمي والسياسي والعسكري والحضاري الذي تولّوا به قيادة العالم قروناً طويلة ، الى رحمٍ ولودٍ ينتج على مرّ الأزمنة والأمكنة ، مشاريعَ رُعبٍ وبطشٍ وثأرٍ وإنتقام وتطهير وإقصاء وإلغاء وتكفير وقتْلٍ بإسم الله وتطرّف لا يعرف التسامح او الإعتدال ؛ مشاريعَ تعتبر الهوس المَرَضي بالقتل والإنقتال جهاداً ؛ والتوحّش فقهاً؛ والتطرّف مذهباً ؛ والغُلّو تديّناً ، والشعور الهذياني بإمتلاك الحقيقة إيماناً .، وتكفيز المخالفين وإخراجهم من الملّة ، طاعة وتقرّباً الى الله .
فما هي أبرز الخلفيّات التاريخية والسياسية والإجتماعيّة والفكرية والدينيّة التي أدّى تراكمُها عبر السنوات ، الى انفجار موجات العنف العاتية والعصبيّات والهُويّات المذهبيّة القاتلة ، والتي ساهمت في بلورة استراتيجيّة التوّحش التي عزّزت إنفلات المشاعر الإنتقامية والثأرية وتفشّي الغرائز العدوانية ؟
أولاً : ظهور جماعة ” الخوارج ” بعد موقعة التحكيم بين الإمام عليّ بن أبي طالب ومعاوية بن سفيان ، وما تبع ذلك من تشظٍ وشقٍ للصف الاسلامي الواحد ، ومن شيوعٍ لأحكام التكفير والردّة وقتُل المخالفين والثورة على حُكّام الظلم والجور ، معطوفاً عليها إنطلاق شرارةِ النزاعات والصراعات الدموية على السلطة ، وعلى إثبات أحقيّة خلافة الرسول في قيادة الأُمّة ، التي استمرت مئات السنين ، ولم تنطفئ بعد ، جذوةُ فتنتها ومفاعيلُ حقدها وإمكانيةُ توظيفها وإستثمارها في التحريض والتعبئة ونبش قبور الماضي السحيق ، وإستعادة صراعاته ونزاعاته القبلية والعشائرية .
ثانياً : ولادةُ المدرسة السلفية على يد الشيخ السعودي محمد بن عبد الوهاب الذي نجح في تأسيس دولةٍ في عام ١٧٤٤ بالتعاون مع الأمير محمد بن سعود ، تبنّت المذهبَ الحنبلي الذي تُعتبر أحكامُ أصحابه (احمد بن حنبل وتلميذاهُ ابن تيمية وابن القيم الجوزية) الفقهيّة ، وفتاويهم المتشدّدة ، الركيزة الأساسية في تأصيل الفكر الجهادي واستشراء الأحكام التكفيرية لدى بعض حركات الإسلام السياسي .
ثالثاً : سقوطُ “الخلافة الاسلامية” بعد تفكك الدولة العثمانية ، وتقسيم العالم العربي ، وتوزيع الوصاية عليه بين المنتصرين في الحرب . وما تلا هذه الأحداث من غضبٍ عارمٍ في العالم الاسلامي الذي ظلّ بعض أبنائه الذين يعتبرون الدول القطرية كياناتٍ سياسية مؤقتّة خلقها الاستعمارُ العالمي ، يحلمون بإعادة إحياء أمجاد الخلافة الزائلة ، كرمزٍ من رموز القوة والمنعَة وتوحيد المسلمين تحت رايةٍ واحدةٍ . وما زال هذا الحلم يدغدغ مشاعر الملايين من المسلمين حول العالم ، كلما كُسرت شوكتهم وازداد استضعافهم وتخلّفهم واستباحتهم ، مهما بدا لهم من استحالةِ تحقيق هذا الحلم .
رابعاً : إعلانُ قيام “دولة اسرائيل” في سنة ١٩٤٨ على أرض فلسطين ، وما سبق ذلك ، ولحقهُ من المجازر التي إرتكبتها الميليشياتُ والعصابات اليهودية ، اضف الى ذلك الحروب التي شنّها هذا الكيانُ الديني الغاصب بدعمِ من عدة دولٍ غربية ، على الدول العربية المجاورة ، وهزيمة الجيوش العربية النظامية امام الجيش الاسرائيلي ، وما تركته تلك الهزيمة من شعورٍ بالإنكسار والإنسحاق والغضب ، ومن جُرحٍ دائمٍ وغائرٍ في عقل وقلب وكرامة الشعب العربي ، نتيجة ضياع الاراضي المقدّسة .
خامساً : فشلُ كل الايديولوجيات والعقائد الفكرية والسياسية ( القوميّة والبعثيّة والعلمانية والإشتراكية … ) التي ازدهرت في أعقاب نيل الدول العربية استقلالها ، بعد وصول اصحابها الى السلطة عبرالإنقلابات العسكرية أو الإستفتاءات الشعبية المزوّرة او محسومةِ النتيجة سلفاً، وممارستهم الحكم بقبضةٍ من نارٍ وحديدٍ وطائفيةٍ وعسسٍ ومخابراتٍ كتمت انفاسَ الشعوب ، وأذاقتها مرارةَ الذلّ والهوان والقنوط ، وأورثتها القهرَ والقمع والجهل والفقر والبطالة . ويمكن القول إنّ فشلنا في إقامة دولٍ عصرية ، يعود بالدرجة الأولى الى إخفاق تلك التيارات التي أعماها حُبّ السلطة ، في تعميق التجربة الديمقراطية القائمة على المساءلة والمحاسبة وتداول السلطة والتنمية ، لإنشغالها بالصراع على السلطة ، وبالسعي لحيازة اكبر قدر منها عبر خنق الحريات وإلغاء التعددية السياسية ، وتعزيز أنظمة القمع والفساد والاستخبارات والتسلّط .
سادساً : نجاحُ الثورة الإسلامية بإيران في سنة ١٩٧٩ بقيادة الإمام الخميني ، الذي نجح، وإنطلاقاً من فكرة الولاية العامة للفقيه ، في إقامة دولةٍ ثيوقراطية على أساس المذهب الشيعي ، يحكمها الفقهاءُ ويقرر مصيرها في كل صغيرةٍ وكبيرة ، رجلُ دينٍ يمتلك صلاحياتٍ مطلقة تجعله قادراً على فرض وصايةٍ تامةٍ على المجتمع . وقد أعطى قيام هذه الدولة على انقاض الحكم الملكي الفاسد والمستبد ، جُرعةَ أملٍ لتنظيمات الإسلام السياسي السُني ، بأن هناك إمكانيةً لإسقاط الأنظمة العربية اللاشرعية والكافرة التي تحكم بغير ما أنزل الله ، وإقامة الدولة الثيوقراطيّة على أساس المذهب السُنّي .
سابعاً : إجتياحُ الاتحاد السوفياتي لأفغانستان في سنة ١٩٧٩، وما تلاهُ من تحريضٍ دينيّ وتجييشٍ طائفي من قِبَل دول عربية وغربية على رأسها الولايات المتحدة الاميركية ، بهدف دعوة جميع المسلمين في العالم ، للذود والدفاع عن حياض دولةٍ اسلامية اجتاحتها دولةٌ كافرة وملحدة . وبفعل الدعم اللامحدود ، فقد تدفّق الالافُ من الشباب المسلم – وهم الذين سيُعرفون لاحقاً بإسم ” الأفغان العرب ” – الى أفغانستان حيث اكتسبوا مهاراتٍ عسكرية وقتالية هائلة ، واختبروا القتال والجهاد على أرض الواقع ، وحيث بدأت بالتشكّل أيديولوجيا دينية تقوم على مفاهيم الولاء والبراء والجهاد والقتال والتكفير والهدم والتقويض وشطْر العالم الى فسطاطين او محورين : الحق والباطل ، الخير والشرّ ، الإيمان والكفر ، الله والطاغوت ، الإسلام والجاهلية ، دار الحرب ودار السلام ؛ أيديولوجيا تدعو الى قتال العدو القريب، أي الأنظمة العربية ، والعدو البعيد، أي الأنظمة الدولية التي تحتل أرض المسلمين وتسرق ثرواتهم وتدنّس مقدّساتهم . ومن رحِم هذه التجربة الجهادية ، خرج تنظيمُ “القاعدة” بزعامة الشيخ “أسامة بن لادن” الذي تحوّل الى رمزٍ وأيقونةٍ ومدرسةٍ لأجيالٍ لاحقةٍ من الجهاديين ، أبرزهم الأردني ” ابو مصعب الزرقاوي ” .
ثامناً : الغزو الأمريكي للعراق في سنة ٢٠٠٣ حيث تمّ ، وتحت ذرائع كاذبة وأدلّة ملفّقة ، تدمير العراق وحلّ الجيش العراقي الوطني ومحاكمة رئيسه وإعدامه في عيد الأضحى وتسليم مفاتيح العراق الى إيران الشيعية التي قامت بتطييف الجيش ومذهبةِ المؤسسات ومصادرة القرار السياسي للبلاد . وقد استدعى هذا الواقع ردّ فعلٍ عنيف من قِبَل حركات الاسلام السياسي السُنّي التي اعتبرت ان معركتها ليست فقط مع المحتلّ الامريكي ، بل ومع الروافض الذين إضطهدوا سُنّة العراق وهجّروهم من مناطقهم وأقصوهم عن المناصب العالية ، وحوّلوا العراق العظيم الى مجرد محافظةٍ يتولّى إدارتها المرشدُ الروحي الإيراني الذي لا يتردد قادتُه السياسيون والعسكرييون بالمجاهرة والتصريح بأنّ نظامهم يسعى الى إحياء مشروعٍ قوميّ توسعيّ ذي صبغةٍ مذهبية ، بذريعة تحرير فلسطين ونُصرة المستضعفين في الأرض . ومن الفوضى غير الخلّاقة التي عمّت العراق ، تناسلت الجماعاتُ العُنفيّة السُنيّة والشيعيّة التي مارست العنف التكفيري بمعناه الإقصائي الإلغائي الذي يتهم الآخر في دينه وإيمانه ؛ وكرّست شريعة الغاب وسيادة منطق الغريزة والوحشيّة والتمذهب والتعصّب ، الى أن تمّ تتويج مسيرتها بصعود نجم تنظيم ” الدولة الإسلامية في العراق والشام” التي تُعرف اختصاراً بإسم ” داعش” .
تاسعاً : إندلاعُ الثورات العربية إبتداءً من تونس ، مروراً بمصر وليبيا واليمن ، وإنتهاءً بسوريا التي انطلقت شرارةُ الثورةُ فيها منذ أربع سنواتٍ ، وما رافقها من موتٍ وقتلٍ وتهجيرٍ وإعتقال وإبادةٍ جماعية بالأسلحة الكيميائية والبراميل المتفجّرة ، إرتكبها نظامُ العائلة الحاكم ، مدعوماً من دولٍ إقليميّة عدة ، وعلى رأسها روسيا وإيران التي اعتبرت بقاء النظام مسألةً وجودية وقضيةَ حياةٍ أو موت بالنسبة اليها ، وهو ما دفعها الى تسخير كل امكاناتها المادية والمعنوية والبشرية والأيديدلوجية ، لمناصرة نظامٍ مستبدٍ يفتك بشعبه ويرتكب المجازر الوحشية بحقّه . وقد ترافق تدفّق الميليشيات المسلّحة الشيعيّة المدعومة من إيران ، وعلى رأسها حزب الله ، الى سوريا، مع تدفق المليشيات المسلّحة السُنيّة ، المدعومة من دولٍ عدة ، ما أدّى لاحقاً الى تحويل الأرض السورية الى ” مذبحةٍ” او “محرقةٍ” او “مقْتلةٍ ” تتبارز فيها كل الوحوش الطائفيّة والغرائزية من الجهاديين والمتعطّشين للموت والقتل والإنقتال ، وجميعهم يدّعي انه مقاومٌ ومجاهدٌ في سبيل جعل كلمة الله هي العليا ، وفي سبيل إقامة مملكة الله على الارض .
هذه المحطات والأحداث المفصليّة التي منها ما يعود الى العصور الأولى من التاريخ الاسلامي ، ومنها ما يتعلّق بتاريخنا المعاصر، تُعتبر مسؤولةً عن إيجاد الأرضيّة الخصبة لتنامي حركاتٍ وجماعاتٍ تمتلك أيديولوجيا راديكاليّة لا تعترف بالحدود والجنسيات الوطنيّة والحاكميّة الشعبيّة ، تطالب بقتال الغرب الكافر ، وبإزالة الأنظمة الفاشلة والفاسدة والمفلسة على المستوى التنموي والإجتماعي ، والمرتهنة للسياسات الأمريكية والغربية والصهيونيّة ، واستبدالها بدولةٍٍ إسلامية تحكم بواسطة الشريعة الاسلامية ، لا بواسطة القوانين الوضعية ، بغية إعادة أسلمة الأُمّة التي كفرت وارتدّت ، وإخراج المجتمعات من ظلمات الجاهلية والكفر والردّة ، واعادتها الى أنوار اللحظة التأسيسية الأولى للدين الاسلامي بكل نقائه وصفائه ، قبل ان تلوّثه البدعُ والمحدثاتُ والقيم الغربية المادية الوافدة .
وعلى مدى أجيالٍ ، قامت هذه الجماعاتُ التي لا يجمعها تنظيمٌ او إطارٌ مرجعي واحد ، والتي تتحالف حيناً وتتصارع حيناً آخر – وبشكل إنتقائي – بإستغلال كل الآيات القرآنية والتأويلات والاجتهادات والفتاوى الدينية ، لبلورة نظريةٍ سياسية تخاطب عقول الجماهير المحبطة والمهمّشة ، وتمكنّها من القبض على السلطة . وكلّ حركةٍ لاحقةٍٍ كانت تضيف الى الحركة السابقة رصيداً مُهمّاً من التشدد والتعصّب ومنسوب العنف المستخدم ، الى أن أفضت رحلةُ العنف المقدّس الى ولادةٍ طبيعيّة لتنظيم ” داعش ” الذي نجح كغيره من الحركات الشيعيّة ( جيشُ الحشد الشعبي والعشرات من الفصائل والكتائب التي تورّطت في القتال في سوريا والعراق ) في استقطاب طُلّاب الموت والإستشهاد والمُشوّهين نفسيّاً واجتماعيّاً وأخلاقيّاً ، والمشحونين بفعل التعبئة والتحريض المذهبي والأيديدلوجي ، بالحقد والكراهية والغضب ، من كل أصقاع الدنيا . وقد بات هذا التنظيم بعد إعلانه قيام “الدولة الإسلامية” يمثّل العنفَ بشكله الأكثر وحشيةً ودموية وعبثيةً وتفاخراً بالقتل والذبح والحرق والسبي والشنق والرجم امام عدسات الكاميرات ، بعد أن أصبحت وسائل الإعلام بكافة أشكالها وتقنياتها العالية ، من أبرز أسلحته الفتّاكة التي يُحسن استخدامها لتوثيق جرائمه وبثّ إنتهاكاته وعرْض إغتياله للكرامة والحياة الإنسانية ، على الرأي العام ، بإعتبارها وسيلةَ ترهيبٍ وتمكينٍ وسيطرةٍ ورُعبٍ لكل مَن يخالفه في الرأي والوسيلة والمشروع .
هذا هو الواقع الراهن المأزوم بكل تحديّاته ، وهذه هي ابرز العوامل التي ولّدت العنف السياسي والعنف الديني المضاد . اما كيفيةُ مواجهة جماعات العُنف التكفيرية ، والحدّ من فعاليتها ومن تمدّد مخاطرها وتوسّع رقعة سيطرتها ونفوذها، فهو السؤال الأكثر إستعصاءً وتعجيزاً ، وكل ما يحصل حولنا في العراق المخطوف وسوريا الذبيحة واليمن غير السعيد ومصر المضطربة وليبيا القابعة على فوّهة بركان ولبنان الرهينة ، يؤكّد ان مبادئ فلسفة الخراب والتوحّش قد تمّ ترسيخها بنجاحٍ في مجتمعاتنا ؛ وأنّ رحلة العنف التي أقلعت منذ عقودٍ ، لن تصل قريباً الى خواتيمها السعيدة ؛ وأن أجيالاً قادمة سوف تدفع فواتير باهظة من الدم ؛ وأنه من المستحيل أن تبقى تأثيراتها الدموية محصورةً في حدود العالم العربي ، دون ان تتخّطاهُ الى دولٍ أخرى في العالم . لذلك فإنّ المطلوب من الجميع : قادةً وحكّاماً ورجال دين ومفكرين وباحثين وفلاسفة :
– المسارعة الى لجم وتطويق مخاطر وتداعيات إنفلاش هذه الظواهر العنفيّة ، عبرالسعي الى تجفيف منابع العنف الديني بالقضاء على كل منابته الثقافية والدينية ومسبّباته الاقتصادية والسوسيولوجية والسياسية ، وإرساء قواعد العدالة الإجتماعية والحرية والديمقراطية واحترام الكرامة البشرية وحقوق الإنسان ، وتنقية الثقافة الاسلاميّة من الفتاوى والمفاهيم ومنظومة القيم المولّدة للتعصب والتطرّف ، والمسوّغة لإستخدام العنف والتوّحش ….
– ولأنّ كل محاولة لتوظيف الديني والمقدّس في المجال السياسي ، سوف يؤدي بالضرورة الى ضرب وتشويه الإثنين وتعطيل وظيفتهما المفترضة في تنظيم حياة الناس الماديّة والروحيّة ، فإنّ المخرج من دوّامة العنف ومن النفق المطلم ، يكمن في مقاومة ورفض تسييس الدين ، او تديين السياسة ، والإصرار على إقامة الدولة المدنية بديلاً من الدول الدينية التي هي مفرخة العنف المقدّس والاستبداد المقدّس ، ذلك أنّ مملكة الله تقوم في الأرض بسيادة العقل والعدل والقانون ، وليس بسيادة الخرافة والظلم ومنطق القوة ، ولا بتحويل الإيمان الى أداةٍ تجييشيّة وتحريضيّة تتلاعب بمشاعر المستضعفين في الأرض ، وتعبث بمصائرهم عبر إقناعهم أنّ بطاقة الدخول الى الجنّة والحصول على الحور العين ، لا يمكن حيازتها إلّا بقتل النفس والآخرين ؛ ولا بتحويل الدين الى أيديولوجيا نكوصية إنكفائيّة طوباويّة تحمل حنيناً مَرَضياً الى الماضي ، الفردوس المفقود ، وتستغلّ الرأسمال الرمزي الهائل للنصّ الديني لتحقيق أجنداتها الخاصة ، عبر تكريس مقولات الصراع والصدام وتأبيد حالة الحرب والقتال .
– سحبُ فتيل الإشتباك والخلاف الدامي بين السُنّة والشيعة ، وإنجازُ مكاشفةٍ ومصالحةٍ تاريخيّة بينهما ، تعمّق التقارب والأُخوّة ، وتوقف نزيف الفتنة وحمّام الدم المتدفّق بين جنبات الأُمّة منذ مئات السنين ، بفعل التحريض والتجييش وإستثمار خلافات الماضي وعصبياته القبليّة .
– ممارسةُ العقل العربي لفاعليته النقدية في مراجعة مصطلحات التراث ومفاهيمه ومقولاته ، والتوقّف عن مناشدة الموتى وإستنتطاق الراحلين وإستفتاء السلف الصالح والتابعين في حلّ أزماتنا . أجل نحن أُمة تراثية ، ولكن هذا التراث بات عبئاً ثقيلاً وعقبة كأداء تعرقل قيامنا وتقدّمنا ، بحيث أننا نجد أنه لا مشروعيّة لأيّ قولٍ او رأي او فعلٍ ، إلا انطلاقاً من مشروعية المأثور الديني والفقهي والثقافي . ولذلك ، لا مجال لنفض تخلّفنا ويأسنا إلا انطلاقاً من التعاطي النقدي مع هذا التراث الذي بتنا أسرى سلطته وسطوته وطغيانه على عقولنا وأفهامنا وطريقة معالجتنا مآزقنا ومشكلاتنا .
وإنْ لم نفعل ذلك ، فإنّ المجتمعات العربية سوف تظلّ تعيش في حلقةٍ مفرغةٍ من تبادل الأدوار القمعيّة بين العُنف السياسي الذي تنتهجه السلطاتُ الحاكمة ، والعنف الديني المضاد الذي تقترفه الحركاتُ الاسلامية، بحيث يبدو أنهما يتغذيّان من بعضهما ، ويعطيان الأعذار كي يمارس كل طرفٍ منهما عُنفه وإستبداده وجرائمه إنطلاقاً من استراتيجيّة التوحّش الخاصّة به ، ويقدّمان المبررات لأعدائنا كي يتلاعبوا بنا ، ويصفّوا حساباتهم ويحققوا مصالحهم على خلافاتنا وتشظّينا ونزاعنا على السلطة ، ما يحوّل مجتمعاتنا الى بؤرةٍ خصبةٍ لصراع أبدي بين السياسي والديني ، الانسان العربي فيه ، هو كبش الفداء وضحيته الدائمة .
اللهم إنْ لم تُهلك هذه العصابة من مدّعي الإسلام ، التي تهدم وتدمّر وتجلد وترجم وتُحرق وتذبح وتقتل بإسمك ، فلن تُعبد في الأرض أبداً !
.