التيار الممانعجي والربيع

الثورات لا تصنعها الأعداد. الأعداد ليست سوى واحد من المؤشرات. ولا تخضع الثورات لعمليات الجمع والطرح والقسمة، بل إن الأعداد نفسها تخضع لقوانين التاريخ. نبيه بري كان الأصدق حدساً، حين تخيل أن الاحتجاج الشعبي على سياسة الحاكمين كان يمكن أن يسحبهم من بيوتهم. مع ذلك، رداً على الذين يتبارون بإحصاء الأعداد، ويستخدمون مهندسي المساحة ويقيسون أطوال الشوارع والساحات وأعراضها، ويقارنون حشود 29 آب بحشود 9 أيلول ، وحشود المناسبتين بتلك التي ملأت الساحات في 8 و14 آذار، يمكن القول بدون تردد، إن احتجاجات الربيع اللبناني قد لا تكون الأكثر عدداً، لكنها الأكبر حجماً، من كل المظاهرات التي سبقت منذ بداية الحرب الأهلية.

حشود الربيع هي الأولى التي تجمع كل أصحاب الرأي الحر من اللبنانيين. لا يعني ذلك أن من شارك في المناسبات الأخرى لم يكونوا أحراراً، بل إن الأغلبية الساحقة منهم كانت تنفذ قرارات القوى السياسية والدينية، في حين خرج محتجو الربيع إلى الساحات بنداء داخلي، بصرخة وجع واحدة، ضد الفساد وضد سياسة تدمير الدولة وبيع السيادة في سوق المزاد أو المناقصات. كما أن حشود الربيع اللبناني قصدت من جميع المناطق، كل على نفقته، وبهذا يكون اللبنانيون قد استعادوا هيبة النضال الشريف لأول مرة بعد المظاهرة الحاشدة في أول ذكرى تكريمية للشهيد كمال جنبلاط. تلك المناسبة شكلت منعطفاً في تاريخ النضال الوطني، إذ تمكنت الحركة الوطنية اللبنانية أن تحشد حوالي ربع مليون شخص في ساحة حبيب أبي شهلا، وعوضت عن العراقيل التي وضعتها قوات الردع العربية بتأمين النقل لمن لا يستطيع الانتقال على نفقته الخاصة إلى بيروت. شكلت تلك المظاهرة صرخة في وجه القتلة، لكن الصفح عن المجرمين حولها إلى صرخة في واد. منذ تلك التظاهرة صارت تقترن الدعوة بتأمين النقليات والمياه والأعلام ومكبرات الصوت، باستثناء عدد قليل كتلك التي مشى العلمانيون فيها تحت المطر والمظلات.

لم تخرج عن الاستثناء، لا حشود آذار في الساحتين، ولا حشود آب بمناسبة غياب الصدر المتكررة، ولا حشود تكريم الشهداء لحزب الله أو للقوات ، ولا الحشد العوني الكربلائي الأخير. وهي الأكبر حجماً لأن القيمين عليها، رغم ما يمكن أن يقال في حداثة سنهم وضعف تجربتهم وتشتت حملاتهم، هم الأنظف الكف، وسجلاتهم خالية من الجريمة والفساد، في حين تزخر سجلات الآخرين بموبقات سياسية وارتكابات وصفقات مالية وعمليات نهب منظم من خزينة الدولة والمال العام، كل واحدة منها فضيحة موصوفة قد تكون الكهرباء نموذجها الصارخ ، وينبغي أن تكون محطة الربيع الثانية بعد النفايات. تبلغ قيمة الهدر بسبب الفساد، أي السرقة، 8 مليار دولار سنوياً بحسب المؤسسات الدولية. للكهرباء منها ملياران. تكفي المليارات التي خصصت للكهرباء منذ الطائف حتى اليوم لكي تنير لبنان والشرق الأوسط كله.

لو يخجل القيمون على هذا المال ويسلموه لقادة الاحتجاج من الشباب ليروا كيف يمكن أن يعم النور لبنان من أقصاه إلى أقصاه في أقل من عام. لو يخجلون من فسادهم الكهربائي، من النهب المنظم الذي أسس له نظام الوصاية بتعيين وزراء من أتباعه و رفضه أي مشروع جدي لحل الأزمة، إلى أن صار تلامذته، في غيابه، أكثر مهارة بالنهب وأكثر رفضاً لكل عروض الهبات والقروض الميسرة العربية والدولية، والسبب الوحيد للرفض هو اشتراط الجهات المانحة مراقبة الانفاق على التنفيذ. يعتقد الذي يحشرون أنفسهم في تظاهرات الربيع، بغية تخريبها وحرفها عن مسارها، أنهم يبتعدون عن المرمى، ويظنون أنهم في تظاهراتهم المضادة قد يفعلون ما فعله الثامن من آذار مع الرابع عشر من شباط، أو الرابع عشر من آذار مع الثامن من آذار، هذه ترد على تلك وتعطل مفاعيلها. اعتقاد وظن في غير محلهما، لأن حجم الفضائح لا يترك للفاسدين محلا يتسترون به حتى لو جمعوا الحشود وحقنوها بالحقد أو بالتنوع الطائفي وملأوا بها الساحات. ولأن كل واحد من مناضلي الربيع اللبناني يردد قول الشاعر: بدون النظر إلى ساعة الحائط أو مفكرة الجيب، أعرف مواعيد صراخي الكهرباء من أمامكم و النفايات من ورائكم .أين المفر؟

(المدن)

السابق
ما هو الدور الخفي الذي تلعبه 8 آذار في «أزمة النفايات» ؟
التالي
عن مؤتمر جماعات العنف التكفيري والحاجة للحوار الصريح والمباشر