تغيير قواعد الإنقسام الوطني

بالأمس، كان الإنقسام الوطني الكبير يتمحور حول 8 و14 آذار، بين سنّة وشيعة، ومعهم مسيحيون موزّعون على الإثنين. سارت الأمور بالتي هي أحسن، على قاعدة هذا الإنقسام، حتى تدهورت مؤخراً؛ ومن علامات هذا التدهور ان العلاقة الزبائنية التي أقامتها تلك القوى الحاكمة مع جمهورها، لم تعد تلبّي حاجات هذا الجمهور المتفاقمة؛ هذا إذا لم تصِبه في المقتل. لم تعد تلبّي.. ولا هي أنجزت شيئاً مما بنَت عليه هذه القوى مجدها وأنصارها وجمهورها. فلا قوى 14 آذار أرادت فعلا أن تبني دولة، بل تعاملت مع هذه “الدولة” بصفتها بقرة حلوباً، تدرّ عليها خيرات المكوث عالياً، في السلطة؛ ولا قوى 8 آذار أفضت الى الحرية والكرامة، بل كانت تقتات من خيرات المكوث عاليا هي ايضاً، بصفتها شريكا في السلطة، مع 14 آذار، وكانت فوق ذلك تعزّز دويلتها، وترسل مليشياتها، لتساهم، مع بشار الأسد، في قتل السوريين.

المهم ان الإثنين أدارا البلاد على أساس هذا الإنقسام، الذي اعتقدوه خالداً سرمدياً… فكانت سياسة “الإنتظار”، إنتظار ما سوف يسفر عنه الصراع الإيراني السعودي في الإقليم، كي يرسو أهل الحكم على كيفية إعادة توزيعهم لغنيمة اسمها لبنان. وبلغ بهم المبلغ انهم حولوا البلاد إلى ثلاجة مغلقة تنتظر محاصصة جديدة، من دون أن تفلت من أياديهم المحاصصات المتوفرة… بلاد، يمر الزمن من جنبها، فلا يأخذ معه غير التراجع المستمر والواضح في كافة مناحي الحياة. لماذا؟ لأنهم لم يتفقوا..! قبل ان نتكلم عن حول ماذا اتفقوا، أو ما هي حصة كل واحد؟ أو، ما هو أقل أهمية بالنسبة لهم: ما هي حصة البلاد بمجملها، من هذا الإتفاق…؟

هكذا انفجر الشارع، وكانت حملة “طلعت ريحتكم”، وكل ملحقاتها، فانتقلنا إلى طور جديد، إلى صيغة جديدة من الإنقسام السياسي: الذين خرجوا متظاهرين، رافضين وضعهم في ثلاجة الإنتظار الإقليمي التحاصصي، ليسوا جماهير أي طائفة، إنما تجمّع متنوّع من الجماعات المدنية، وأفراد كُثر، من المتضررين والغاضبين بشدة، الذين أضاعوا أدوارهم، حتى القليلة منها، الذين أضاعوا حقوقهم الدنيا، الذين يرفضون ان تكون الهجرة مستقبلهم… قاموا قوْمة عفوية واحدة يصرخون بوجه الذين يحكمونهم، يواجهون قواهم الأمنية، يطالبون بمحاسبة واستقالات وانتخابات، يتعاملون مباشرة مع رجالات السلطة، بمناوراتهم واقتراحاتهم الوهمية الملعوبة… ومع قليل من الوقت، صاروا جمهوراً شعبياً، منفلتاً من السلطة الحاكمة، يطرح مطالب تنالها مباشرة، تحرجها، تفضحها، تبرز قلة معناها وصدقيتها… فتوحّدت السلطة، وبدأت بتنظيم ردها، وحملاتها الإعلامية، فتتهم الحملة بالتمويل “العربي” الاميركي، بالمؤامرة، بانعدام الاخلاق والهندام، وأخيراً… بدعوة أركانها إلى “جلسات حوار”. وخلف كل ذلك، الخوف الأعمق، من أن يمحو هذا الحِراك الشعبي الإنقسام الشيعي-السني، أو يضعف من شكيمته في قلوب الذين نشأوا عليه. ومكمن الخوف انه، لو ذاب هذا الإنقسام المذهبي، وطلع على أنقاضه مواطنون يطالبون بحقوقهم، بصفتهم مواطنين فحسب… فإن الدكانة المذهبية، ومعها الدكانين الموالية لها، سوف تغلق أبوابها، وتشهر إفلاسها؛ فمن أين لها، بعد ذلك، ان تسترزق؟ من مشاريعها التنموية، تنمية “مستدامة”؟ أو إحترامها للقانون؟ أو حمايتها لمؤسسات الدولة؟ أو، على الأقل، بعملها الدؤوب على تنظيم معضلة النفايات، أو المساهمة في حلّها…؟

طبعاً من السذاجة القصوى الإعتقاد بأن العقليات سوف تتغير بين ليلة وضحاها، وان الجمهور الجديد ثابت حتى النهاية على خروجه من الجمهور الطائفي. ولكن، أيضاً، خذْ هذه الكلمة التي قالها أحد المتظاهرين، حسام، شارحاً مشاركته: “أنا نازل مش كرمال (ليس من أجل) السياسة، بس كرمال مطلب معيشي”؛ أي إذا أردتَ أن تقرأ بين السطور، فان حسام يفصل بين “السياسي” و”المطلبي”، وان “السياسي” قد يبقى على حاله، وهو الولاء لزعيم الطائفة، فيما يستمر هو، بموازاة ذلك، في مناهضة جميع الزعماء حول الموضوع “المطلبي”. يجب ان لا نستبعد هذه الإزدواجية، العاصية على الوصف أحياناً، ولا حتى أن ندينها؛ فجذور الطائفية ممتدة في أعماق النفس اللبنانية.

ولكن مشاركة حسام المتتالية بالتظاهرات والإعتصامات، وردود فعل كل اطراف السلطة عليها، من 8 و14 آذار، وكيفية تعاملهم معها، سوف تساعد حسام على الإنتباه، يوما ما، إلى ان “السياسي” موصول بـ”المطلبي”، وان زعيم طائفته يقف ضد مطالبه، ضد أبسط حقوقه الدنيوية…. فيكون بذلك حسام قد عارك الوقائع السياسية، بفضل مواجهات يومية أو أسبوعية. مع إدراكنا ان السلطة قد “تنفد بريشها”، قد تشدّ عصبها وتخرج قليلاً من الثلاجة، بايعاز دولي على الأرجح، وقد يستمر الحراك، بطلعات ونزلات متفاوتة، ولكن بصمته سوف تكون أكيدة، ورسالته واضحة: هناك إمكانية فعلية لنشأة جمهور عابر للطوائف، ضارب الإنقسام التقليدي من أساسه.

التظاهرة التي دعت إليها الحملة الشعبية في 9 أيلول، في التاريخ نفسه لإنعقاد “حوار” أهل السلطة بين بعضهم البعض، إنقاذاً لسلطتهم، وعلى مقربة من البرلمان، حيث يفترض بهذا الحوار ان ينعقد… هذه التظاهرة سوف تكرِّس، رمزياً وبشرياً، هذا الإنقسام السياسي الجديد: من جهة زعماء الطوائف كلها، يحاولون ترتيب انتظارهم، وتأبيد نهبهم، يقابلهم شعب هادر، لا يبتعد عنهم اكثر من أمتار قليلة، يطالب بمحاسبتهم ورحيلهم.

ها هي الساحة التي شهدت ولادة الانقسام الوطني الباهظ بين أبناء الشعب الواحد، على يد زعماء الطوائف، تعود فتشهد ولادة الإنقسام الوطني السعيد بين أبناء هذا الشعب نفسه، وبين أولئك الزعماء، وتكون الصرخة بوجههم: “لا تمثلوننا!”

السابق
قاووق: سنشارك في الحوار بروح إيجابية
التالي
مصدر أميركي رفيع لـ«جنوبية» (3): الأسد سبب قوّة داعش