مبادرة بري الحوارية… ما هي أبعادها ومن تنقذ؟

يحلو لسياسي مخضرم ان يعقد مقارنة بين مشهدي اليومين الاخيرين من الاسبوع الماضي في ساحة الشهداء بوسط العاصمة وفي ساحة عاشوراء في قلب النبطية ليصل الى الاستنتاج الآتي:

الشارع المحتدم والذي تصدى لمهمة تبدو بفعل التجارب مستحيلة صار في ازمة يحاول جاهداً الخروج من أسرها بما يملك من قدرة على الصراخ العالي والتجييش واطلاق الشعارات علّه يستطيع ان يأتي بما لم يأته الأوائل ممن سبقوه الى احتلال الساحات وملء الشوارع.
الطبقة السياسية القابضة منذ زمن على مفاتيح جنة السلطة راحت في رحلة بحث عما يبعد عنها شبهة العجز وينجّيها من تهمة القصور عن الفعل والمبادرة والإقدام.
غير أن كلا الطرفين يراوح في عنق زجاجة الازمة ولن يكون في مقدورهما ان يخرقا جدرها البالغة السماكة في المدى المنظور على الأقل، وبالتالي فهما محكومان بالمضي قدماً في السبل المتاحة أمامهما، الاول في اعلاء الصوت والتجرؤ على السلطة ورموزها في محيط مجلس النواب وقبالة السرايا الحكومية في قلب العاصمة، والثاني ان يحاور نفسه ويجتر مواقفه خلف الابواب الموصدة.
ولا شك في ان المبادرة الحوارية التي اطلقها رئيس مجلس النواب نبيه بري في مهرجان ذكرى تغييب الامام موسى الصدر في النبطية قد فعلت فعلها وأخذت على الفور في حلبة السياسة المكانة التي ينشدها صاحبها، فهي على سبيل المثال:
– صنعت بعد ساعات من اطلاقها حالة استقطاب سياسية كبيرة ومدوية لاعتبارين أساسيين: الاول لأن ثمة أزمة بلغت حد الاستعصاء ولأن ثمة شحاً في اطلاق المبادرات وحال جفاف ويباب سياسي قل نظيره، والثاني لأن الدعوة الى الحوار، بقطع النظر عن شكلها وعن المرتجى والمأمول منها، أمر ما عرض على عاقل أباه او تخلّف عن ركبه في ظروف طبيعية، فكيف اذا كانت الظروف استثنائية كما هو واقع الحال؟
– المبادرة اعادت ولا ريب خلط الاولويات، اذ سطت على مناخ الشارع الضاج بالحراك والصراخ والشكوى والذي بات ينتج رموزا قادمة من المجهول، واعادت في الوقت عينه الاعتبار الى اللعبة السياسية المألوفة التي تصنعها رموز مخضرمة معروفة هي رموز السلطة وليس قيادات نضال الشوارع والساحات.
– ان المبادرة حيكت ببراعة وأخرجت بمهارة على نحو بدت وكأنها أتت استجابة لمطالب الشارع المشتعل بالحناجر الصادحة بذم النظام، خصوصاً ان مطلقها نجح الى حد بعيد في التحول من رمز مستهدف تلقائياً كونه أحد أبرز رموز السلطة المغضوب عليها، الى رمز متضامن مع حراك الشارع يحدد للنازلين الى الحراك بوصلة حراكهم من خلال دعوتهم الى المطالبة بالدولة المدنية.
– المبادرة ايضا كان لها فضل إخراج مطلقها من حال حصار كان يعيشه في الآونة الأخيرة بفعل ظهور تباشير عن امكان دخوله في تصادم وشيك مع مكونات المحور السياسي المنضوي تاريخياً في اطاره على خلفية وقوفه في وجه خيارات العماد ميشال عون وطروحاته السياسية. وعليه فان ثمة من يرى ان المبادرة تجب ما قبلها وهي تطوي صفحة لتفتح أخرى.
– من البديهي ان المبادرة اعادت الى مطلقها اعتباره المرجعي في المشهد السياسي، لا سيما ان أبواب السلطة التي يرأسها باتت موصدة منذ زمن، وقد عاد الى موقعه الأصلي كمطلق مبادرات حل وتسوية.
هي إذاً وفقاً لكل المواصفات والمعايير مبادرة لن يكون بمقدور اي طرف وازن الاعتراض عليها او التخلف عن ركب المشاركة فيها، ولكن السؤال المطروح بإلحاح: ماذا بعد؟ واستطراداً ماذا يمكن ان تنتج، وهل من شأنها ان تمهد فعلياً لتحول استثنائي في مجرى الوضع الراهن يخرج البلاد من حال المراوحة القاتلة التي تعيشها؟
يسجّل للرئيس بري انه كان صاحب المبادرة الى الدعوة الحوارية الاولى في عام 2006 والتي انتقلت من مجلس النواب في ساحة النجمة الى قصر بعبدا الرئاسي، الى ان انتهت نهاية درامية كونها اخذت البلاد الى شرخ جديد عنوانه العريض تضاد الرؤى حيال ما صار يعرف بـ”اعلان بعبدا” والذي حاول الرئيس ميشال سليمان رفعه الى رتبة اتفاق تاريخي كاتفاق الطائف.
لا يمكن أي راصد لمسار الرحلة التفاوضية الحوارية التي كان لبري قصب السبق في اطلاقها ان يغفل عن حقيقة تضجر قوى سياسية منها باعتبارها عقيمة وباعتبارها تحولت “هايد بارك” للتعبير عن وجهات النظر اكثر منها محطة للبحث الجاد عن مخرج وتسوية.
وعليه قد تنجح المبادرة اذا ما انطلقت وتحولت طاولة حوار تجمع المدعوين اليها في شد الانتباه عما عداها وفي ملء الفراغ ولكن الى وقت محدود قد لا يتجاوز شهرها الاول لاعتبارات عدة يأتي في مقدمها:
– ان الحوار فعل أمر يمارس بأشكال مختلفة وبشكل يكاد يكون يومياً، فمن حوار عين التينة بين “تيار المستقبل” و”حزب الله” الى حوارات مجلس النواب، ولكن الجوهر هو ما الفائدة العملية؟
– ان الرئيس بري اختار لمبادرته 7 عناوين قد تبدو ملحة ومهمة، ولكن الثابت انها عناوين فضفاضة.
– انها أيضاً وأيضاً عناوين لقضايا ذات امتدادات اقليمية، اي انها تحتاج الى غطاء اقليمي – دولي غير متوافر في المدى المنظور، خصوصاً ان ثمة اجماعاً على ان زمن نضج الحلول والتسويات يحتاج الى مزيد من النار والحطب… وهكذا وانطلاقاً من هذه الوقائع مجتمعة ستتحول الدعوة الحوارية الى محاولة جديدة يشارك فيها الجميع بهدف ادارة الفراغ الحاصل بعدما اظهرت تطورات الاسابيع الماضية ان مهمة ادارة الفراغ التي نيطت بالقوى المشاركة في الحكومة قد باتت عاجزة عن اداء هذه المهمة وأوشكت الأمور على الانفراط من بين يديها.
هل ان المبادرة أتت لتلاقي تطوراً موعوداً من الخارج قد يكون وعداً بانتخابات رئاسية؟
هذه القناعة سوَّقها البعض، ولكن هل يجرؤ مطلقها على ترك مكونات محوره وأخذ هذا الخيار بمفرده؟

(النهار)

السابق
المشنوق وصل الى مكتبه في العازارية ويزاول عمله كالمعتاد
التالي
دنانير «داعش» هي الباقية