وصية إلى الشباب

هاني فحص

كان طابع البراءة في جيلنا وأهلنا هو الغالب. وكان الخبث استثناء. وكانت الأعراس في فتوّتنا موعد التفتّح على الحياة وتحقيق الذات. وكانت الأحزان أو المآتم مجال خدمة لنا في المجتمع. وكنا نقرأ غاندي وخالد محمد خالد، وميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران، ونجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس ومحمد عبد الحميد عبد الله ويوسف إدريس.
فنيّاً، كنا منقسمين بين عبد الحليم حافظ وفريد الأطرش وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وفيروز. وكانت إذاعة “صوت العرب” تجمعنا. خاصة في برامجها الفنية والثقافية التي كانت من مكوّناتنا. وفي ليالي قطاف التبغ، كنا نلتقي بالصبايا، نسهر معاً ونزرع معاً ونقطف معاً، كما كنا نُحبّ ببراءة ريفية.
المسافة بين شباب جيلي وأهاليهم كانت قريبة. والسبب يعود إلى الشراكة في الهمّ. فقد كنا نرى كيف يتعبون، فلا نخونهم، ونرغب في أن نتعب معهم.
إن اختيار كل جيل لما يريد لا يخضع للمساءلة. فهذا من حقه أولاً. الآن، هذا واقع لا بد أن نتفهمه كله. لأن الخلل أساساً يكمن في نظامنا المعرفي. والقلق والتوتر والرغبة في المغايرة كانت موجودة في وقتنا. ولكن ظروف الحياة لم تتح لنا أن نطرح السؤال، أو أن نتصرف بعيداً من نظام المعرفة العام وعن نظام حياتنا.
الآن، نظامنا المعرفي القديم صار مكشوفاً، وكذلك نظامنا الجديد مكشوفاً أو منكشفاً على رغم التقدم الهائل أو بسببه. ولم تعد له أهلية الإلزام، وهذا من تقدُّمه. وفي الوقت عينه، تفتحت ذهنية الشباب، ورأوا ما يوجد في الخارج من طرق معرفة. وشاهدوا الجيد والرديء. فذهبوا نحو الجميع، ذهبوا نحو المقاومة مثلاً، ولكن ذهبوا أيضاً في اتجاه التعصب المذهبي والانقسام الاجتماعي، فخففوا من الهم والهم القومي، ولم يدخلوا عميقاً في مشروع الهمّ الوطني.
ليست لديهم قومية كبيرة تجمعهم! لقد سلبوهم قضاياهم. وعندما لا يكون الجامع هو القضايا الكبرى، يصبح الجامع جزئياً ومزاجياً وعاطفياً. وهكذا نرى أننا ذاهبون إلى الفن الهابط! والكتاب السطحي أو كتب الدجل الخزعبلات الدينية والدنيوية وغيرها.
هذا التراجع ليس مسؤولية جيل الشباب الحالي. ولا ننسى أن آمالهم قد خابت وأُحبِطوا. فنحن لم نطرح أكثر من الأسئلة في الماضي! وقد وصلت إلى جيل الشباب بلا أجوبة، فيما أصبحت أسئلتهم مختلفة وأشدّ عمقاً وتركيباً. وفي النهاية، لم نقدّم لهم النموذج الذي يُحتذى.
وإضافة إلى ذلك، هم يعيشون ظروف عولمة. إذ أصبحت المؤثرات تنتقل إليهم. وشئنا أم أبينا، هم جزء من حالة العولمة بإيجابياتها وسلبياتها. وللحدّ من هذا الانحدار نقول: “دع ألف زهرة تتفتح، ويجب أن نبحث عن أماكن فيها شتول ونرعاها. وأن نبحث عن المواهب الشابة ونكوِّن لها أطراً معرفية تنتج معرفة مشتركة، وترى برؤية منهجية، حتى يصبح عندنا نفوس شبابية جديدة نقدية ذات رؤية”.

هاني فحص
رويداً رويداً، تظهر مجموعات صغيرة تنمو ببطء. ويجب أن تنفتح المجموعات بعضها على بعض. ويجب أن يكون هناك حوار أجيال حتى نشكّل ذاكرة مشتركة ومعرفة مشتركة. وحتى يرى الجيل الجديد الجيل الآخر على حقيقته. فهو لا يرى منه سوى أنه أحبَطه وتركه ويريد أن يُسيطر عليه على رغم فشله، على رغم فشل الجيل اللاحق.
أما وصيتي إلى الشباب، فهي أن يحبّوا الشهادة بمعنى الشهود أو الشهادة للحياة من أجل الحياة. وأن يحبّوا الأرض ويتعرفوا عليها. وألا يسمحوا للحُبّ بأن يصبح في حاجة إلى حُبّ وأن يحبّوا حبّاً صافياً فطرياً كما أحببنا. وهم أجدر بهذا الحب الآن وأحوج إليه.

(من كتاب على مسؤوليتي – منشورات صوت لبنان)

السابق
قائد شرطة بيروت يطلب من وسائل الاعلام مغادرة مكان الاعتصام داخل وزارة البيئة
التالي
القوى الامنية قطعت كابلات النقل المباشر واجبرت الصحافيين على مغادرة مبنى وزارة البيئة