ما بعد بعد التظاهرة

كانت خطوة الى الامام من دون خطوتين الى الوراء، على ما تقول السردية اللينينية الشهيرة. تظاهرة الأمس حفرت مكاناً في الشارع وفي الذاكرة اللبنانية يمنحها شرعية المقارنة مع تظاهرات فريقي الثامن والرابع عشر من آذار العام ٢٠٠٥، من دون التسرع في اعلان نهاية هاتين الكتلتين او تخطيهما، خصوصا وانهما تختزلان الان ببعديهما السني والشيعي المدمر، برغم ألوان الطيف المسيحي التي تزين كلا منهما.

الحشد كان متقدماً، حسب المعايير اللبنانية العابرة للطوائف التي كان ولا يزال بامكان اي منها ان تحشد اضعاف هذا العدد من المتظاهرين برمشة عين من زعيمها. الحشد كان هادئاً ومنظماً الى حد بدا معه وكأن المحتجين خرجوا الى كرنفال، الى مهرجان صيفي. وهو ما يبدو انه ارتقاء عن التظاهرة الاولى الاسبوع الماضي التي كانت أشبه بسيرك مفتوح.

تكوين التظاهرة الثانية لم يكن غامضاً ولا كان مسيساً كما كان يخشى، او كما كان يؤمل. غادرتها الاحزاب كلها، واحداً تلو الاخر، بعدما اطمأن كل حزب الى ان خصمه لن ينزل، ولن يوظف ذلك التحرك المدني ضده، ولن يستثمر ذلك الحشد من أجل فتح مجلس النواب مثلا لانتخاب رئيس للجمهورية او لاسقاط الحكومة او لانقلاب عسكري على الطريقة اللبنانية التي تفترض عادة تحويل قائد الجيش الى منقذ وطني يستفيد من ترهل الطبقة السياسية وتفكك عصبيتها وفساد أحوالها. لم تتردد في التظاهرة الشعارات والهتافات المستعارة من تونس او من مصر التي تدعو الى اسقاط النظام. وهو دليل وعي سياسي بانه لا يمكن الدعوة الى اسقاط نظام غير موجود، وهو يتخذ الان شكل شركة مساهمة تديرها مافيات معروفة ومحددة الهوية، تختلف بين الحين والاخر على تقاسم الحصص والانصبة والارباح في ما بينها، كما هو حاصل اليوم في ملف القمامة الوطني!

بدت التظاهرة أكثر جدية من سابقتها، حتى عندما استفادت من تمويل وتنظيم وتغطية اعلامية لم يسبق لها مثيل، وكانت في حد ذاتها تعبيراً عن خلاف ظاهر للعيان بين محطتين تلفزيونيتين مع طرف او أكثر في السلطة الحاكمة. وهو ما لا يحرج ولا يعيب المتظاهرين ولا يحسم من رصيدهم السياسي الذي لا يزال في طور التكوين، ويحتاج الى المزيد من الاختبارات العملية لكي يتحول الى تيار او الى فريق ثالث.

التشكل العام للتظاهرة ترك الانطباع بان هذا هو الطموح الرئيسي: جمهور ما كان يعرف بالاغلبية الصامتة يعبر عن ضيقه من استفزاز السلطة واستخفافها به، كما يعبر عن تعبه من فريقي الثامن والرابع عشر من آذار وخدعتهما المشتركة التي يلجآن اليهما عند كل منعطف، حيث يزعم كل واحد منهما ان الاخر هو الحاكم الفعلي وهو المسؤول الأوحد عن ضياع البلد. كان الخارجون على طوائفهم واحزابهم وتياراتهم هم عصب التظاهرة الثانية ومحركها الفعلي، بحيث بدت التظاهرة بمثابة انتفاضات مصغرة داخل كل طائفة على زعامتها السياسية والدينية، تجمعت في مكان واحد وزمان واحد من اجل ان تستمد قوة من المنتفضين الاخرين، تكفي للاطاحة بالقيادات المتوارثة او المتحكمة في كل الطوائف بالمال او السلاح او الاثنين معا.

وكان الحضور المسيحي اللافت في التظاهرة مؤشراً على ان البيئة المسيحية تعبت من المكلفين بقيادتها اكثر مما تعبت البيئة الاسلامية من قيادييها. ولعل هذا هو أهم مقياس لنجاح التظاهرة الاخيرة: هي بمثابة هزة سياسية متوسطة القوة داخل كل طائفة، وهي أشبه بإنذار لقادة الطوائف كل على حدة، بان زعامتهم ليست أبدية، وتحذير لأعضاء مجلس إدارة الشركة-الدولة فرداً فرداً، بان أساليبهم لم تعد لائقة وخلافاتهم لم تعد تخدع أحداً. عدا ذلك فان الكرنفال السياسي الجذاب الذي جرى في وسط بيروت وانتهى الى “مطالب مشنوقة” والى أعمال شغب محتملة، لا يمكن ان يدرج في اي سياق، لا في الربيع العربي الذي بدأ بالسعي لاصلاح اجهزة الشرطة والأمن وتدرج الى المطالبة إسقاط وزير الداخلية وصولا الى الاصرار على إسقاط النظام قبل ان تنقض الانظمة كلها عليه وتتركه فريسة الدواعش.. ولا في تحديث التكوين الوطني اللبناني، الذي لا يزال عبثه أقوى من أي نظام.

(المدن)

السابق
تذكرة ذهاب بلا عودة لبشار الأسد
التالي
مبادرة الرئيس بري مقدمة لاتفاق دوحة وفرض تنازلات جديدة على 14 آذار.