سوريا: تَوِّج «شرعيتك» بنكهة الكيماوي

يضع بيان مجلس الأمن الأخير حول سورية معايير جديدة لشرعية الحاكم في العالم العربي، ليس بينها حجم الأصوات التي يحصل عليها في صناديق الاقتراع، بل حجم البراميل المتفجّرة في طائراته ... ألم تسبق البيان مجزرتا دوما ودرعا اللتان كفلتا إزالة الفقرة المتعلقة بضرورة مغادرة الأسد للسلطة؟

في ذكرى مرور سنتين على مجزرة الكيماوي، يبدو ان نظاماً دولياً جديداً غريباً عجيباً يتشكّل من مأساة الشعب السوري تحديداً، وكأن هذا النظام يختبر قدرته على الولادة والظهور بقدر ما يصهر من عظام الأطفال وما يشرب من دماء الضحايا.

عامان، والسوري ينتظر خطوط أوباما الخضر التي تلي تَجاوُز بشار للخطوط الحمر، ليكتشف أن الانتظار كلمة اوبامية وهمية، وان الاسم الحقيقي للأمل المزعوم هو المختبر، وان موته المجاني هو مادة هذا المختبر الذي يقيس درجات التحول الإقليمي والدولي باللحم الحيّ، ويتوصل الى تركيبات جديدة في غاية التطرف والتعقيد بتدمير المناطق ونهْش الخرائط والحدود، وينجح في إنجاب معادلات جديدة عبر تعميم المقابر الجماعية، ويتوسع في أبحاثه كلما زاد التشرّد والتهجير، ويلجأ الى التضحية بمواد البحث، ويغرق في تبذيرها مستفيداً من غرق مراكب اللاجئين في بحور العار… وعندما يزدحم المختبر ويحتاج العلماء او العملاء الى مكان أرحب للعمل، يتكفّل الجزار المحلي بالمهمة ويبيد بالكيماوي الآلاف حرصاً على رحابة المختبر.

لم يرد اوباما ان يُزعِج الجلسات النووية مع إيران بالجريمة الكيماوية

عامان مرّا، وما زال السجال دائراً حول نتيجة الاختبار وليس حول ما حصل في المختبر. اين سندفن مخزون بشار النووي؟ ذرفوا الدّمع في اوروبا خوفاً على السمك في المحيطات، تظاهروا وتشابكوا مع رجال الأمن خوفاً على النبات والرّمل في البرّ، هددوا بإسقاط حكومات إن هي سمحت بتسميم البيئة… ثم تَفاخروا بتسويةٍ انتصرت للسمك والنبات والبيئة، ونسوا ان أرواحاً بريئة زُهقت بكل ما في الإجرام من وحشيةٍ استكثر العالم فيها دمعة حزن.

عامان مرّا، لم يكن هناك “داعش” في الغوطة، لم يكن سوى الأمل الوهمي الذي أعطاه اوباما من خلال الخطوط الحمر التي وضعها: استخدام العنف مع المتظاهرين العزل خط أحمر، واستخدام السلاح الآلي ضد الناس خط أحمر، واستخدام الدبابات والمدفعية خط أحمر، واستخدام المقاتلات خط أحمر، ورمي البراميل خط أحمر … كل هذه الخطوط الحمر أقامت عملياً دولة اللاجئين السوريين في وطنهم، وشرّدت الناس من منطقة الى أخرى لان النظام تَجاوز ذلك كله شاكراً اوباما على بيع الناس الوهم، بل وعلى تجميعهم في الغوطة مصدّقين ان الكيماوي لن يُستخدم لان كلمة الشرف الأميركية صعب ان تُسحب بين ليلة وضحاها…. وحده بشار وقف أمام لوحة الخطوط الحمر ووضع إشارة إكس على الخانة الكيماوية الأخيرة.

لم يتوقف أوباما عند ذكرى مجزرة الكيماوي، مثبتاً للمرة المليون أن كلمة الشرف الاميركية لا تُسحب بين ليلة وضحاها

لم يرد اوباما ان يُزعِج الجلسات النووية مع إيران بالجريمة الكيماوية، ولا أن يُزعِج المفاوضات مع روسيا على الأرض الاوكرانية بضربات جوية لسورية … رجلٌ صاحب مدرسة جديدة في العلاقات الدولية والإنسانية ترتكز على ترسانة ضخمة من الفلسفة والتنظير عندما يتعلّق الأمر بمئات الآلاف من الضحايا السوريين، وعلى ترسانة ضخمة من الصواريخ عندما يتعلق الأمر بقتْل صحافي أميركي. لكن أهمّ ما في هذه المدرسة، معايير شرعية الحاكم في العالم العربي كما تمّ تثبيتها في مجلس الأمن بعد يومين من مجزرتيْ دوما ودرعا وقبل أيام من ذكرى مجزرة الكيماوي وهي:

إملأ سجونك بالمعتقلين وغرف التعذيب بالمعذبين، واسحب حناجر الهاتفين وأحشاء الاطفال، ودمِّر البيوت على مَن فيها بالبراميل الجوية، واحصد المئات في الأسواق والمدارس بالمدفعية والصواريخ، وأهتك الأعراض، وشَرِّع البلاد لكل متطرّف وغاصب وطامع، وقَسِّم الأرض واطلق الغرائز الطائفية مصحوبة بسكاكين الفتنة … ثم تَوِّج “شرعيتك” بمجزرة الكيماوي.

هل هناك معايير أخرى؟

الهجوم الكيماوي سوريا

بالمناسبة، لم يتوقف أوباما عند ذكرى مجزرة الكيماوي، مثبتاً للمرة المليون أن كلمة الشرف الاميركية لا تُسحب بين ليلة وضحاها!

السابق
طلعت ريحتكم: نحو تحديد واضح للأهداف
التالي
ما هي حقيقة موت الوسوف