جمال الغيطاني.. لكل خطوة موال

منذ حوالي عشرين سنة كنتُ في طائرة واحدة مع الأستاذ جمال الغيطاني، متجهين إلى دبي، هو لتسلم جائزة “العويس” وأنا للتغطية الصحفية .

فجأة ترك الغيطاني مقعده بجوار زوجته الكاتبة ماجدة الجندي، وجاء إلى مقعدي ( كان يجلس بجواري هندي يحاول محادثتي بالفصحى).

جمال الغيطاني

سألني الغيطاني وعلى وجهه ترقب ما: هل هذه هي المرة الأولى التي تصعد فيها لطائرة؟.

أجبته : ليست الأولي .

كأن ترقبه وحماسه قد فترا، قال :” ليتها كانت الأولى، علمني محمد عودة فن الاحتفال باللحظات الأولى”.

الفنان القوي

في دبي ستقول لي الأستاذة ماجدة : أشد ما يعجبني في شخصية الغيطاني أنه فنان قوي ، تعلم لغة أجنبية بعد أن فارق مقاعد الدراسة بسنوات ، يكف على فنه غير ملتفت لشيء ، تعرض لطعنات يقتل غيره ما هو أهون منها ، ثم هو ككل فنان له مزاجه الخاص ، لو فتشته الآن ستجد معه شريط كاسيت للشيخ ياسين ، وأسطوانة لمغنية فارسية ، هو يحفظ شعر الصوفيين الذي ينشده الشيخ ياسين ولذا يبدو الأمر عاديًا ، لكنه لا يعرف حرفًا من لغة فارس فلا أعرف كيف يصبر على سماع غناء لا يعرف لغته ؟.

كان وفد الفائزين المصريين بالجائزة المرموقة يضم إضافة إلى الغيطاني ، الراحل الكريم الدكتور شكري عياد ، والدكتور جابر عصفور والشاعر الكبير الأستاذ أحمد عبد المعطي حجازي .

طلبت لجنة الجائزة من الفائزين ، وقد كانوا من شتى أرجاء الوطن العربي أن يختاروا واحدًا ليلقي كلمة باسمهم.

هنا توتر الغيطاني وتحرك سريعًا بين مقاعد الحضور ، ثم هدأت ملامحه وجلس مطمئنًا .

بعد نهاية الحفل سألته فقال : كنتُ حريصًا أن يكون المتكلم مصري ، والحمد لله وافقني الفائزون العرب ، ذهبت إلي الدكتور شكري عياد فاعتذر لضعف صحته فذهبت إلي الدكتور جابر عصفور ، وقد سمعته معي وهو يرتجل كلمة رائعة .

جمال الغيطاني

الفنان القوي كان كريمًا أيضًا ففي آخر يوم لنا بدبي ، كنت بصحبته هو ينتقي هدية ذهبية قيمة لزوجته ، شكرته زوجته أمامي كثيرًا فضحك وهو يلفت نظرها إلي الرسوم الدقيقة جدًا التي تحلي القطعة الذهبية .

الولع بالتفاصيل

عندما بلغ الغيطاني الستين كتب على سبيل الاحتفال بستينه قصة قصيرة جدًا أراها تصلح مدخلًا لقراءة شخصيته.

يقول ملخص القصة: إن الغيطاني وهو طفل دون السادسة، ذهب لزيارة عائلته في جهينة بسوهاج، جلس شأن الأطفال يشاهد بعيون قاهرية طقوس الخبيز لدي الصعايدة، إحدى قريباته لم تجد شيئًا تسعرّ به نار الفرن سوى كتاب، كان الكتاب قديمًا جدًا.

يسرف الغيطاني في وصف الكتاب ذي الورق الأصفر والهوامش المزخرفة، والخطوط الملونة. كاد قلبه يقفز خلف كتاب لا يعرف عنه شيئًا، ينهي الغيطاني القصة وهو يتحسس حلقه الذي طعنته غصة حرق كتاب في نار الفرن.

 

عود مطواع

الجذور القديمة

عائلة الغيطاني جاءت من جهينة الصعيدية، ثم استوطن الأب منطقة الجمالية القاهرية العريقة، حيث لكل حجر حكاية ولكل نافذة موال.

مع القذائف الأخيرة للحرب العالمية الثانية ولد الغيطاني في العام 1945، كانت أمه الصعيدية الخجول قد بدأت تواجه الغول القاهري، وتتعرف على الجيران والمتاجر، كان الأب مهيبًا طيبًا راضيًا بجوار مقام الحسين بن عليّ، عندما عرضوا على الأب أن يبتاع قطعة أرض كبيرة بثمن بخس في الدراسة، رفض لأنه هكذا سيبتعد عن الجوار الشريف.

هذه المنمنمات الدقيقة جدًا ستسكن وجدان الغيطاني الطفل ثم لن تغادره أبدًا، سيتعلم في جوار الإمام الحسين ثم عندما ينضج بعض الشيء سيختار دراسة وتعلم فن النسيج، حيث لكل تفصيلة معنى ومغزى.

سيذكر الغيطاني كثيرًا الراحلين الكريمين “محمد عودة” و”محمود أمين العالم” سيكتب عنهما كثيرًا ناسبًا لهما فضل دعمه ومساندته وتقديمه للعالم الكبير، ثم لن يتجاهل دور المؤرخ الأستاذ صلاح عيسى الذي أرشده على القراءات التاريخية، التي أبحر فيها الغيطاني.

ولد الغيطاني وعاش شبابه في القاهرة الفاطمية، لكن هواه التاريخي كان مملوكيًا، وكان مؤرخه الأكبر هو الشيخ الإمام ابن إياس، ومن نثر وقصص ووجدان تلك الحقبة سيستلهم الغيطاني روح كتاباته، وما درته الفريدة “الزيني بركات” إلا واحدة تغريدات عشقه لذلك التاريخ القديم.

شاهد على المعجزة

جاءت قاصمة الظهر، يونيو 1967 وانهار “متحف الزجاج كله”

كان لابد لمن يريد النجاة من الانهيار من قفزة كبرى ولو في خلاء المجهول، وقد قفزها الغيطاني عندما علم مراسلًا حربيًا علي جبهة القتال ليشهد حرب الاستنزاف، وسيدافع عنها وعن قيمتها كثيرًا وطويلًا، ثم ليشهد بطولات الجينرال الذهبي للصاعقة المصرية، الشهيد إبراهيم الرفاعي، وقد كتب عنه كتابًا رائعًا حوى آيات من بطولاته الفذة، ثم ليكون شاهدًا ومسجلًا للعبور العظيم.

الغيطاني الذي كان شاهدًا على حرب كبرى، سينتفض بعزيمة المقاتلين وسيغادر سرير مرضه وسيعود إلينا سالمًا ليواصل رحلة إبداعه.

(التحرير)

السابق
الجيش: قتيلان نتيجة رصد مجموعة إرهابية في الجرود وتسليم جثتيهما
التالي
حزب الله ينعي أحد عناصره علي شوكات موسى سقط في سوريا