يوميات البؤس السوري (1/2): عن طفل مات من البكاء والجوع

اتّسعت رقعة المخيّمات السوريّة في البقاع، النازحون السوريون أصبح يفوق عددهم عدد سكانه اللبنانيين، الخيام التي نبتت في كل بقعة فيه، تكاد تنافس مواسمه الزراعية.

أهل البقاع لا يسمون أهل المخيمات السورية بـ”لاجئين”، السوريون في البقاع “نازحون”. معظمهم كان المجيء إلى البقاع بالنسبة إليهم، قبل الأزمة في سوريا، نزهة يومية، كذلك ذهاب البقاعيين إلى سوريا. المخيمات السورية في البقاع سابقة للأزمة، هم عمّال السّهل الذين أقاموا فيها، مذ تكبّر اللبنانيون على أرضهم، ووجدوا في فقر السوريين بديلا.

في أحد مخيّمات برالياس، استعاض مالك الأرض عن زراعة البطاطا، بزراعة الخيم، البدل الذي يتقاضاه من “الأمم” ثابت، محسوم، لا خسارات فيه، وموسم النزوح وفير، إيجار الخيمة بمئة دولار أميركي، وكلما ألصق خيمة بأختها، استبشر خيرا بدوام الأزمة.

حتى النزوح طرفه مبلول بالطبقية، هناك مخيمات بؤس ومخيمات كلاس، كتلك التي أخذوا أنجيلينا جولي إليها، تشرح النازحة البائسة. اللهم بلا حسد، تقول، “عندهم غرف مش خيم، لها حيطان وأسقف وأبواب، عندهم حمامات مرتبة، ومدرسة للأولاد”.

في مخيمات البؤس، الخيم ملاعب للريح في الشتاء، تهبط على رؤوس قاطنيها حين يشتد ندف الثلج، وفي الصيف تتحوّل إلى مخازن لحرارة الشّمس، ولا تزورها الوفود المتضامنة. حين وصلت أم عوّاد وأهل حارتها، إلى البقاع، تلقفتهم “المساعدات”، نصبوا لكل عائلة خيمة. وسط قطعة الأرض التي اتخذوها وطنا مؤقّتا لهم، غرفة صغيرة من الباطون، يبدو أنها كانت تستعمل للعدة، وافق الجميع على أن تسكن فيها أم عوّاد، نظرا لكبر سنها، والآلام التي يحرّكها صقيع البقاع في عظامها، لكن ليتها ما فعلت، تقول متهكّمة. الغرفة بعد هبوط الليل تتحول إلى ملعب للفئران والجرذان، بداية حشت نوافذها بالخرق العتيقة والأواني، وسدّت بابها برفّاص سرير سحبته من المزبلة القريبة ولفّته بالشراشف، لكن قبل طلوع الضوء، كانت القوارض قد أتت على كل المتاريس، وعادت تسرح وتمرح في الغرفة، تجر الملاعق والأكواب، وتعبث بما تبقى من طعام. مع الأيام، اعتادت أم عوّاد على ضيوفها، والضيوف اعتادت أيضا. صارت تنام والقوارض من حولها تتقافز، تشمشم قدميها وثيابها وتبتعد بهدوء.

هيام هي “شقة التوم” توأمها عمر، لا تنزل من حضن والدها، يجول معنا من خيمة إلى خيمة، وهيام ملتصقة بزنده، ساعة من الوقت، نروح ونجيء، نفرز الحصص ونوزّعها، وهيام مكانها، أحضرت لها أمّها “عروس الزعتر” أكلتها ومسحت فمها بقميص والدها، ونامت على كتفه. أسأله إن كان لديه أولاد غيرها يجيبني: نعم، عمر. أين هو؟ لا أدري، يختنق، وتهطل مدامعه، يجلس على أقرب حجر، ويبكي مثل طفل. ليلتها اقتربت الغارات كثيرا من حينا، قررنا الهرب مع من هربوا، زوجتي قالت لي سأحمل هيام وأنت تحمل عمر، هرعت إلى غرفة النوم، كان عمر نائما، حملت ما ظننته هو، وصلنا إلى الأمان بعد أن قطعنا مسيرة ساعتين من الوقت، فللت الشرشف الذي بين يدي فوجدت الوسادة، عمر مازال هناك على السرير. يقول عنه أهل المخيم، دمعته لا تجف، يعيد رواية هذه الحادثة ألف مرة في اليوم، ويصرخ “أنا مجرم، أنا حيوان، اقتلوني، اقتلوني”. ولا خبر عن عمر حتى الآن، ربما مات من الجوع، من البكاء، من القصف، ربما سمعه أحد الهاربين فحمله معه، ربما نزل عن سريره وخرج يبحث عن أمه، ومازال. عمر طفل خرافي، موجود وغير موجود، طفل من وهم من ألم، هيام سوف تكبر أم عمر فسيظل طفلا، كما كان، نائما على سريره بانتظار أن يعود والده ليحمله.

كامل وكمال وكارل أشقاء، ثلاثة ذكور، الفارق بين الواحد والآخر حمل بطن، أي تسعة أشهر، نزحوا مع أمهم من بابا عمرو في حمص، كانت حاملا بكارل، أنجبته هنا في الخيمة. أليس اسم كارل غريبا عن ثقافتكم؟ أسألها، تبتسم وتقول لي: النبي وصى أن نسمي أولادنا بأسماء أحبابنا. هربت من بابا عمرو في “ليلة ما فيها ضو قمر”، لجأت إلى منزل أهلي بعدما اشتد علينا الحصار، زوجي التحق بالثوار. كنت أشاهد نشرة الأخبار، يوم عرضوا صورته على التلفزيون، كان المذيع يقول إن الجيش قد قضى على هذا الإرهابي الخطير، ووضعوا اسمه أسفل الصورة. أحسست أن الدنيا قد أطبقت فوق رأسي، قررت الهرب على الفور. عزّ على أمي أن أتشرد وحيدة مع طفلين وجنين، فقررت مرافقتي. تسلّلنا إلى خارج حمص مشيا على الأقدام، وهناك تدبّر لنا أحدهم سيارة بيك آب تحمل صناديق خضار، جلست أمي في الأمام، أما أنا وطفلي فاختبأنا بظل الصناديق، مشينا ساعات طويلة، تحت سماء خالية من غيمة ولو عابرة تقينا أشعة الشمس القاتلة، رمانا السائق على الحدود وأشار بيده “من هنا”. مشينا في الجرود لا نعرف أنحن ذاهبون إلى لبنان أم عائدون إلى سوريا، إلى أن حل الليل، وحل علينا التعب والجوع والعطش، فتكومنا على بعضنا، لا نلوي على شيء. وكأننا في حلم أو فيلم، لمحت تحت ضوء القمر خيالا آتيا صوبنا، صرخت بكل ما في قلب من ذعر “من أنت”. ذكرتني نبرة صوته بأبي، بالأمان الذي تركته خلفي في بابا عمرو، بتنا ليلتنا عند “كارل” ونهارا أوصلنا بسيارته إلى هذا المخيم.

السابق
اصطدام طائرة ركاب أندونيسية بجبل ومقتل جميع ركابها الـ54
التالي
تفاصيل مثيرة عن خلية «حزب الله» الإرهابية في الكويت