نصرالله.. خطاب «الهواجس» والتهرّب من الميدان

غاب الميدان وحضرت الهواجس. هكذا أطلّ الأمين العام لـ»حزب الله« السيّد حسن نصرالله أول من أمس في خطاب لم يعهده اللبنانيون من قبل. في حفل تخرّج أبناء شهداء «حزب الله«، تهرّب السيّد من الحديث عن ساحات القتال التي تسقط فيها أعداد كبيرة من قتلى الحزب. لم يأتِ على ذكر الزبداني، هناك حيث تعرّض «رجال الله» لكمين في سهلها قبل ساعة من حديثه. لم يتجرّأ على ذكر اليمن و»الأهداف السعودية» فيه، بعد تحرير عدن من الحوثيين وتقدّم قوات الرئيس عبد ربه منصور هادي في محافظات أب والضالع وتعز. حصر السيّد حديثه الطويل بتوجيه رسائل داخلية وخارجية بنكهة «الاتفاق النووي»، غير الواضحة صورته لنصرالله قبل غيره.

أهمّ ما حمله خطابه هو التناول العلني للهواجس المتعلّقة بالإدارة المالية للحزب، الذي نفى السيّد أن يكون لديه مشاريع مالية وتجارية واستثمارية. كما نفى كل ما يُحكى عن توظيفه لشبكات بيع المخدرات أو تبييض الاموال أو سرقة السيارات، مؤكّداً أنه والحركات المقاومة يتلقون دعماً مادياً كافياً من ايران.

تناول الشقّ المادي يأتي في لحظة حساسة. ولو لم تكن هناك أسئلة داخلية عن مستقبل «حزب الله« وعلاقته بإيران ومستوى الدعم وشكله والدور الاقليمي المرسوم له، لما استفاض نصرالله في شرحه بهذا الشكل العلني. الجميع يعلم أن ايران أمّنت نمط حياة لكثيرين، داخل بيئة «حزب الله«، لا تحلم بها نسبة كبيرة من الايرانيين الذين يعيشون تحت خط الفقر. عانى جزء كبير من الايرانيين أزمة معيشية حقيقية قابلها انفلاش مالي في لبنان، ظهر بوضوح بعد حرب تموز. هذا الانفلاش ليس سراً، فالمنظومة الإعلامية لـ»حزب الله« انتقدت يومها «مظاهر البذخ والسيارات رباعية الدفع»! حتى إن نصرالله قارب هذه المسألة في أحد اللقاءات المغلقة التي تم تسريب وقائعها في احدى صحف المنظومة. لا مجال للشكّ في أن هذا الموضوع هو محل نقاش داخل الإدارة الإيرانية، وسط وجود توجّهين متباينين حول كيفية إدارة ايران واقتصادها وثروتها وملياراتها المجمّدة التي سيُفرج عنها المجتمع الدولي في إطار الاتفاق النووي. ويمكن التوقّف عند تطرق نصرالله الى اسمَيْ السيّد علي خامنئي والرئيس حسن روحاني في معرض حديثه عن الدعم الإيراني، وكأنه يشير إلى أنّهما ليسا على قلب رجل واحد، أقلّه في ما خصّ ملف «حزب الله«. حتى إن نصرالله أشار الى حديث خامنئي في خطبة عيد الفطر، واكتفى بإشارة عرضية الى مجمل تصريحات روحاني حول «حزب الله«، من دون أن يشير الى عبارة «مُنصّصة» تظهر هذا الدعم، خصوصاً بعد الاتفاق النووي الذي أعقبه حديث لروحاني عن اختيار إيران «الاعتدال«.

إقليمياً، ظهر غضب نصرالله بوضوح لدى حديثه عن تركيا وتنظيم «داعش«، وكأنه يعرب عن انزعاجه من العملية العسكرية التي أطلقها الجيش التركي في وجه «داعش«. ألم يقل السيّد ان «داعش« يُشكّل خطراً وجودياً أكبر من الخطر الاسرائيلي؟ فلماذا ينزعج من محاربة الأتراك لهذا الخطر الوجودي، عوضاً عن تقديم التحية الى كل من يواجه الارهاب؟«.

ليس خفياً أن تركيا سعت منذ انطلاقة الثورة السورية الى إقامة منطقة عازلة على حدودها مع سوريا. عبّر الإيرانيون مراراً عن ارتياحهم لموقف «الشيطان الأكبر» الرافض لأي منطقة عازلة أو أي حظر للطيران. سارت الحرب في شمال سوريا بما لا تشتهيه سفن إيران. دفن الاتراك خطة ستيفان دي ميستورا لحل جبهة حلب على طريقة الحل الحمصي (خطة لا تخدم إلا النظام وميليشياته)، كما فشل «حزب الله« وقاسم سليماني في السيطرة على ريف حلب وتعرّضا لنكسة كبيرة فيه. الساعات القليلة التي سبقت خطاب نصرالله أوحت بأن هناك بوادر صفقة ما بين الأتراك والولايات المتحدة، قد تكون السبب المباشر لفقدان نصرالله صوابه. تحدّثت بعض الصحف التركية عن صفقة بين أنقرة وواشنطن تفضي الى سماح تركيا لقوات التحالف الدولي باستخدام قاعدة «إنجرليك» الاميركية في حربها على «داعش«، كما تسمح للتحالف باستخدام القواعد التركية مثل باتمان وديار بكر في الحالات الطارئة، مقابل إنشاء منطقة آمنة بين مارع وجرابلس على الحدود التركية – السورية بعمق 50 كيلومتراً، وفرض حظر للطيران فوقها. يعلم «حزب الله« أن إنشاء منطقة مدنية تحت حماية تركية، يعبّر بصريح العبارة عن وجود، ولأول مرة، شرعية وسلطة على الارض السورية غير شرعية الاسد وسلطته. وستُعتبر هذه المنطقة اختباراً جدّياً لتركيا ولـ»المعارضة المعتدلة». فإذا قدّموا نموذجاً قابلاً للحياة، من الممكن أن تتوسّع هذه المنطقة لاحقاً لتشمل مع الوقت أوسع مساحة ممكنة من الشمال السوري.

لبنانياً، كان واضحاً أن السيّد يتمسّك بالحكومة، ربما لأنه لا يتحمّل تبعات عدم الاستقرار الداخلي فيما ينشغل حزبه «على طريق القدس». لكن رغم ذلك، وعوضاً عن تقديم تصوّر لكيفية الحفاظ على الحكومة، فضّل نصرالله فرض الأوامر باعتباره المرشد الأعلى للدولة اللبنانية. وتماشياً مع القول الشعبي «لا بيرحم ولا بيخلّي رحمة الله تنزل»، قدّم السيّد معادلة داخلية واضحة، حذّر بموجبها رئيس الحكومة تمام سلام من الاستقالة تحت طائلة أخذ البلد الى المجهول، وطالب «المستقبل« بالتحاور مع رئيس تكتل «التغيير والاصلاح» النائب ميشال عون، ما يعني الرضوخ لآليته الحكومية. يفرض نصرالله معادلاته الداخلية ويعلن أنه طرف في النزاع القائم حول آلية الحكومة، ويتلطى خلف مواقف عون المتصلبة ويكرّس السجال حول آلية عمل الحكومة بدل الدعوة الى انتخاب رئيس، ومن ثمّ يطالب «المستقبل« بالنزول من برجه العاجي! لا بأس، فالقرار الايراني تجاه لبنان لم ينضج بعد، ومن المبكر أن يتواضع السيّد.

هواجس نصرالله كثيرة. هاجسه من النقاشات الايرانية الداخلية حول «النووي» ونظرة فريقَي الحكم هناك الى إدارة شؤون البلاد، وتأثير كل ذلك على أذرع إيران الخارجية. هاجس أثر الحرب النفسية في جمهوره وقادة حزبه. هاجس الحفاظ على الحكومة من دون تقديم تنازلات. والهاجس الأخطر الذي يلاحقه، هو تلك الهتافات التي أطلقها جمهور الاصلاحيين خلال انطلاقة «الثورة الخضراء» قبل أن يقمعها «الباسيج«: «لا غزة ولا لبنان.. إيران أولاً»! قد يكون الحل الأنسب لكل هذه الهواجس هو باتباع وصفة مفيدة مرّت في خطاب السيّد: «آخر شي مرجوعنا لليموناضة». نعم، فالليموناضة تهدّئ الأعصاب.

(المستقبل)

 

السابق
همروجة مع طبل أثناء قطع المتظاهرين الاوتستراد الدولي مفرق «برجا»
التالي
جائزة المجر الكبرى بـ«الفورمولا وان» فيتل ينتزع المركز الأول