لي في البصرة نخلة اسمها …عاصم

نخلة
لا تختلف البصرة عن بيروت، القلق والخوف ودواعيهما واحدة. كلاهما لم يعد مكانا صالحا للباحثين عن الأمان والاستقرار، هناك نسخة عن هنا. دولة تضمحل وميليشيات تتغول، وفوضى تتنقل بخفة من مكان إلى آخر، وفساد يعلو ولا يعلى عليه

أودع “عاصم” على باب المطار القريب، عائدا إلى عمله في البصرة، مغادرا من وطن دخل في غيبوبة إلى وطن يلفظ أنفاسه الأخيرة. حرب النفايات في بيروت حامية الوطيس، مثل شمس البصرة التي تلامس الستين درجة مئوية.

 

وعلى ذكر الستين، كانت بيروت والبصرة في أواخر الستينيات درتين. الأولى سميت سويسرا الشرق والثانية سميت فنيس الشرق، وكما تشابهتا بجمالهما الباذخ سابقا، كذلك تشابهتا بالسفك والفتك والدمار لاحقا، وتتشابهان الآن بانتشار النفايات في الشوارع ودوائر الحكم.

 

لا تختلف البصرة عن بيروت، القلق والخوف ودواعيهما واحدة. كلاهما لم يعد مكانا صالحا للباحثين عن الأمان والاستقرار، هناك نسخة عن هنا. دولة تضمحل وميليشيات تتغول، وفوضى تتنقل بخفة من مكان إلى آخر، وفساد يعلو ولا يعلى عليه، وسكاكين الفتنة على مسافة قريبة جدا من كل الأعناق، ومجموعات بشرية تتناسل فتعتقد أنها أصبحت شعوبا، لا تلبث أن تطالب بالانفصال، فتكثر الزوايا الحادة وتنعدم المساحات المشتركة.

 إقرأ أيضاً: كل الطرق تؤدي إلى روما

تقاطع بشارة الخوري في بيروت يشبه ميدان بدر شاكر السياب في البصرة، في كلا المكانين، يتدافع الناس والسيارات للمرور من أمام التمثالين، لكن الزحمة كما السياسة، تحاصرهم، تشل حركتهم، فلا يتقدمون ولا يتراجعون. تمثال بشارة الخوري جامد في مكانه، كما الاستقلال الأول، يراقب تقطع الاتجاهات باللبنانيين بدل تقاطعها. وتمثال السياب لم يتعب من الوقوف بانتظار أن يمر عام “والعراق ليس فيه جوع”.

 

الشعوب هنا وهناك، استأنست بالاذعان، كما يستأنس الرضيع بثدي أمه، واستقالت من حقوقها، خوفا من أن يلغي حق مشترك ما عداواتها، فتنتفي خصوصياتها الزائفة، ولكل شعب مطالبه وقضاياه ومظاهراته وهتافاته وشعاراته وقادته.

 البصرة

أشفق على “عاصم”، من أن يذهب عمره هدرا بين هاتين الخرابتين، لم يسعفه الحظ في العيش في بلد يحترم إنسانيته. أتلهى بتكرار تنبيهاتي المملة عن الأكل والشرب والتدخين والسهر، والحذر من الشمس والغرباء، والتجوال في الأماكن المكتظة، وعدم الابتعاد عن البصرة الآمنة حتى الآن، كي أنسى أنه ذاهب إلى الخطر، كي أنسيه خيبة أمله في الحصول على عقد عمل في بلاد بعيدة عن كل هذا الخوف، فيجيبني: “الآمال كالقمصان، وقميصي تكمش عند أول غسلة”.

 

في طلبات العمل الكثيرة التي ملأها، ثم قدمها، إلى شركات في دول خليجية وأوروبية، كانت الإجابات تعود إليه عبر البريد الإلكتروني حاملة الكثير من الترحيب والاطراء، إلى أن يحين وقت معرفة “المذهب”، فينحدر المشهد إلى القتامة، وتتجمد المراسلات. لم يعد مرحبا بنا في كل هذه البلدان، في بلدنا غير مرحب بنا أيضا. وهكذا نسدد فاتورة الاختلاف مرتين.

 إقرأ أيضأ: سارة الأمين والباقيات الصالحات…

جرب العمل هنا، لكن هنا الوساطة تغلب الكفاءة، هذا أمر مفروغ منه، من زمان. التابع يعمل وإن كان جاهلا، ومن لا يتبع يقبع في حيز البطالة إلى آخر عمره وإن كان متعلما. ولكل متبوع مساحته المقتطعة بحيث لا تتداخل مع مساحات المتبوعين الآخرين، ولكل متبوع أتباعه.

 

حتى بلاد “الشيطان الأكبر” رفضت طلبه رغم أنه من “شيعة السفارة”.

سرب له صديق عن موظف في السفارة أنهم حريصون على قبول طلبات “الآخرين” عملا بسياسة “الاحتواء” التي ينتهجونها، وهو ليس من “الآخرين” بكل بساطة.

 

لذلك كان لا بد من البصرة رغم خرابها.

 

أوصيه ألا يفكر بالعودة إلى هنا، لكن، ألا يبقى هناك بالتأكيد، فالحياة ليست وقتا فقط. ألا ييأس من البحث عن وطن بديل، عن زمان آخر ومكان آخر ينتمي لهما، ليكمل حياته كما يشتهي، كما ينبغي. أن يخترع أساليب جديدة لمواصلة الأمل، أن يفتش لنفسه عن منفى يليق بإلإنسان الذي في داخله، أن يرمي نفسه في المغامرة حتى إن انطوت على مخاطرة أو مقامرة.

 

نتعانق ونفترق دون دموع، فهذا وعد قطعناه عند كل وداع، ويمشي كل منا في اتجاه، نستدير في اللحظة ذاتها، كلانا نكث الوعد مرة أخرى.

 

بعد ساعتين سيصل إلى مطار البصرة، الطريق إلى البيت من مطار بيروت، رغم قربه، تحتاج إلى ساعتين أيضا. بعد ساعتين سيستأنف كل منا فراغه. أنظر إلى الطائرة تحلق عاليا ثم تغيب، وصوت شيخ إمام يصدح من راديو السيارة: “بلد تشيلني وبلد ترميني تاني لبلد…عواف عليكي يا نخلة مظللة عالباب، راخية الضفاير وحاضنة الأهل والأحباب”.

السابق
الجيش اوقف 23 سوريا في تعنايل زحلة والمنية بحنين
التالي
حبيش : نرفض تحويل عكار الى مكب للنفايات