الأحياء الأموات هم السابقون…ونحن اللاحقون

هؤلاء المسنّون المنسيّون في دار الرعاية رأوا بنا أقاربهم ونحنا الزوّار رأينا بهم مستقبلنا! جميعنا معرضّين لهكذا مستقبل ومصير! من منا يعلم ماذا يخبّئ له القدر؟ كل ما يحتاجونه الحنان والاهتمام! كلنا قادرون أن نعطيهم ما يريدونه لو ساعة في الأسبوع أو حتى في الشهر!

الأموات الأحياء،المنسيّون في السجون،المستبعدون عن أهلهم…وغيرها من أوصاف كلها تنطبق على المسنين في دور الرعاية!

هؤلاء المنسيّون لا نتذكرهم وإن تذكرناهم نتذكرهم فقط بموسم الأعياد أو شهر رمضان من خلال الحملات الإعلانية على التلفاز، واللواحات الإعلانية على الطرقات وغيرها من الوسائل، فيتحرك الشعور بالإنسانية لدينا ونبدأ بالحملات والحديث عنهم و عن معاناتهم، يذهب البعض إلى التبرع بالمال وشراء الهدايا وإقامة الافطارات وعندما ينتهي الموسم يعود الجميع إلى حياته ويقبعون هم بملاجئهم!

لكن هل فكّر اي منا بشعورهم، كيف يعيشون أو ماذا يريدون؟

حفل افطار

أنا أيضاً لم أكن أعلم الاجوبة عن هذه الأسئلة إلى أن قمت بزيارة مع مجموعة من الأصدقاء لأحد دور رعاية المسنين خلال شهر رمضان!

الإجابات بدأت اعرفها قبل أن أسألهم او اتقرب منهم، الطريقة التي يجلسون بها وإنحناءات رؤسهم نحو الارض كفيلة بشرح المأساة التي يعيشون بها!

التجاعيد في وجوهم اخبرتنا كم كانت الحياة قاسية عليهم، أما عيونهم فهي بحر من الاحزان، نظراتهم يملؤها الخوف، الخوف من المحيط الذي يعيشون فيه والموت الذين ينتظرونه، وجوهم انطفأ النور فيها، هي شاحبة لدرجة تجعلك تعتقد انهم “زامبي” zombies أحياء أموات!

هذه الاجابات التي حصلنا عليها بمجرد النظر إليهم ادخلتنا بشعور لا يوصف، هو مزيج من الشعور بالحزن عليهم والغضب على الحياة وعلى اقاربهم الذين أتوا بهم الى هنا!

تردّدنا كثيراً قبل الاقتراب منهم خوفا من ان لا نستطيع من نضبط احاسيسنا اتجاه وضعهم وننهار!

ولكننا حزمنا امرنا وذهبنا اليهم، وما إن اقتربنا منهم حتى تحوّلت انظارهم باتجاهنا وارتسمت على محياهم بسمة خجولة وقالوا لنا “اهلا بأهل الخير يا ليت اهلنا كان بهم خير” ومعظمهم ردّد نفس الجملة ولكن بطريقة مختلفة منهم من قالها ممازحاً ومنهم من قالها بعتب “يا ريت كل يوم رمضان حتى نشوف ناس”.

فبدأنا التعرّف عليهم والحديث معهم، سأنقل إليكم بعض المشاهدات التي تلخص وضعهم النفسي والصحي.

صحيّا وضع معظمهم صعب فمنهم من فقد بصره,او اصيب بشلل او يعاني من امراض عصبية ولكن هناك شيئا مشتركا بينهم جميعاً كالدار الذي يجمعهم، وهو الادوية المهدّئة التي تصفها لهم الدار!
اما وضعهم النفسي والمعيشي،فعندما تسألهم هل يضايقكم أحد بالدار؟

جميعهم ينظرون حولهم قبل الإجابة ليرى إن كان أحد من الممرضين أو الموظفين بالدار حوله ويقولون الحمدالله، وبعضهم يجيب ليش في محل تاني بيستقبلنا بعد ما الكل تخلّى عنّا كل ما بقي لنا في هذه الحياة أيام؟!

أحد الممرضين أخذ إحدى العجائز بينما كانت إحدى المتطوعات تطعم سيدة عاجزة مشلولة اليدين والحجة أن الوقت انتهى!
نزلاء دار الرعاية

ماذا تفعلون بالنهار كيف تمضون وقتكم؟!

في الغرفة معظم النهار نجلس متأملين أن يأتي أحد إلى زيارتنا او ننظر من الشبابيك لنرى بشرا يتجوّلون، واحياناً ننزل الى الباحة!

معظمهم كانوا يضعون ما تبقى من طعام في أكياس صغيرة كي يتسحروا،كانوا يأكلون الطعام بطريقة تدل على اشتياقهم للطعام الشهي وبكميات غير محدودة!

أحدهم مضى على وجوده بالدار أكثر من ثلاثين سنة وكان قبلها بدار الايتام!

إحداهن لم يزرها أقاربها منذ أكثر من سبع سنوات!

كل من في الدار شبّه علينا لأحد أقاربه أو جيرانهم وبدأوا يسألون عن الحياة خارج اسوار الدار.

يوجد في الدار فتاة عمرها لا يتجاوز الثلاثين عندما سألناها لماذا أنت هنا؟

“أنا كنت بدار الايتام لكنهم حولوني إلى هنا يقولون أنني مجنونة، ولكنني لست مجنونة هم يقتلونني هنا على البطيء بين المسنين أريد الخروج من هنا أريد أنا أعيش لا أريد أن أبقى هنا وانتظر الموت!”

عندما سألنا نزلاء الدار ماذا تريدون، قالوا جميعهم لا نريد مال لانريد طعام، لا أحد يموت من الجوع ها نحن احياء! كل ما نريده ان نشعر اننا بشر ولسنا وحيدين في اخر ايام عمرنا،نريد ان يزورنا اهل الخير دائما.

عندما حان وقت رحيلنا قاموا بإحتضان الجميع مع دموع في العيون فمنهم من انهمرت دمعته ومنهم من حبسها مثلما هو محبوس بين هذه الجدران.

هذه بعض من المشاهدات التي رأيناها بالدار هذه المشاهدات كفيلة بأن يعيد كل واحد منا حساباته تجاه أبنائه واهله!

مهما كان الوقت قليلا الذي سوف نعطيه لهؤلاء المسنين المهملين فإننا سنربح في النهاية انسانيتنا التي نفقدنا في أيامنا هذه، سنشعر بالراحة والفرح من خلال رؤية البسمة على وجوهم، سنحس بالامان والحنان من خلال غمراتهم المليئة بالعطف والمحبة، من خلال عمل الخير الذي سنزرعه، فعمل الخير من أجل الانسانية ليس له وقت أو مناسبة، بل هو القيام بمسيرة نزرعها في حاضرنا كي نحصدها في المستقبل،فهؤلاء المسنّون، هم السّابقون ونحن اللاحقون…

السابق
عون: لا مفرّ من نهج الحوار بين الأفرقاء اللبنانيين رغم الخلافات
التالي
أسواق لبنان تصرخ: لا رمضان أنجدنا ولا العيد أنقذنا