«داعش» زمن وليس اسماً.. وذبذبات يرسلها «خليفة» متوهم

كان يكفي شكل الجريمة التي ارتكبها ياسين الصالحي في ليون، لنقول، وليقول معنا القضاء الفرنسي، أن الرجل عنصر في «داعش». فالصالحي قطع رأس مديره في العمل والتقط صورة لنفسه حاملاً الرأس، وأرسل الصورة إلى صديق فرنسي له يُقاتل مع «داعش» في سورية.

 

ليس للصالحي أي سوابق، وسجله وفق الشــرطة الفرنسية نظيف، لكنه وفق جيرانه «رجل غامض ومنعزل، ولا أحد في الحي يعرف شيئاً عن ماضيه، رغم أن أطفاله الثلاثة كانوا لطفاء، وكانوا يلعبون مع أطفال الحي في شكل ودي».

 

«داعش» لم يقدم للصالحي فقط الموديل الذي عليه أن يعتمده في ارتكاب الجريمة، قدم له زمن الجريمة، وصديقاً فرنسياً يقاتل في سورية لكي يرسل له الصورة.

 

وهذه كلها عناصر يمكن الركون إليها للقول أن الصالحي عنصر في «داعش» من دون أن يكون مرتبطاً به. فعل قطع الرأس والتقاط صورة له كافيان للانضمام إلى هذا الزمن «الداعشي»، وصديق فرنسي يقاتل هناك سيتولى تثبيت هذا الزمن وربط ليون الفرنسية بالرقة السورية. ولا داعي هنا للبحث عن «أمير» حرّض على الجريمة أو دفع القاتل إليها.

 

والحال أن مرتكب مجزرة مدينة سوسة التونسية تمتّ سيرته إلى هذه القطيعة بصلة أيضاً، ذاك أن الشاب راقص «بريك دانس» سابق، ولم يسبق أن سافر إلى خارج تونس، والشكوك حول علاقته بجماعة «أنصار الشريعة» مقتصرة على إشارات افتراضية، كقوله لأمه أن منفذ جريمة متحف تونس «أخ مجاهد أتمنى له الجنة». لكن الشاب كان خارج الرقابة الأمنية، وصوره على الشاطئ تكشف عن جسدٍ ألف حياة الشواطئ وثيابها وعوالمها، وما البندقية في يده، والتي التقطت صورته وهو يحملها بعد ثوان قليلة من ارتكابه المجزرة، سوى جزء من مشهده البحري ومن جسم مرِن ومتكيف. وهنا أيضاً لا قيمة غير أمنية للبحث عن صلته بـ «داعش»، ذاك أن الشاب عضو في التنظيم، وهو وإن لم يتدرب في معسكراته ولم يندرج في خلاياه، إنما فعل ما طلبه منه «الخليفة».

 

وطلب «الخليفة» ضمني ومُرسل على شكل ذبذبات تصل إشاراتها إلى عمق النفس، مفرقة بين الفتى وأمه، وبينه وبين زوجته، ودافعة الجسم الراقص خطوة أبعد من الرقص، مستعينة على ذلك بما ألفناه من انهيارات عادية.

 

ثم إن الأسبوع الفائت حمل إلينا ما هو أكثر من ذئاب متوحدة أقدمت على أفعال فردية انضمت عبرها إلى «زمن داعش». فقدرة «دولة الخلافة» على ضم الجماعات البعيدة على نحو افتراضي لا تقل عن قدرتها على الوصول إلى الأفراد.

 

في سيناء المصرية والبعيدة من جغرافيا الخلافة سجل التنظيم اختراقاً كبيـــراً. الأمر كـــان أشبه بتحول التدفق إلى طــوفان. «داعش» في كل مكان.

 

في الكويت أيضـــاً، وفي السعودية قبلها بأسبوع، وهذا كلـــه ليـــس بعيداً من تقنية مصادرة الزمن بما يكفل ضم الجريمة ومصادرتها.

 

أي اقتراب منطقي من هذا الطوفان، ومن هذه الوقائع غير المتصلة سيقود إلى استنتاج غير واقعي يتمثل بأن ما جرى لا صلة لبعضه ببعضه، وأن فعلة جماعة سيناء لا تشبه فعلة ذئب ليون، وأن راقص الـ «بريك دانس» التونسي لا تربطه أي علاقة بمفجري المساجد في الكويت والسعودية. وحده «داعش» كزمن وكافتراض ما يجمع بين كل هذه الانهيارات. وهو جمع ليس وهمياً، فهو يستمد متانته من قوة الانهيارات في محيطه، من عمق الفصام التونسي، ومن عجز فرنسا عن الإحاطة بمهاجريها، ومن غربة بدو سيناء ومن صحرائهم.

 

و «داعش» كاسم أيضاً صار جزءاً من هذه اللعبة. التنظيم الذي لم يكن هو من أطلق على نفسه هذا الاسم، والذي كرهه وعاقب من تلفظ به من رعايا «خلافته»، ها هو الآن ينعم به. ما تبعثه العبارة والأحرف الأربعة التي تشكله من صور ومشاهد وأفعال تحول إلى ضابط للوقائع وموجه لمعانيها.

 

لو لم يكن لـ «داعش» هذا الاسم لكنا احترنا بالفعلة التي ارتكبها الصالحي. لا يعني أننا اليوم نحيل الفعلة على اسم، إنما نحيلها على ما راكمه هذا الاسم من أفعال. أي أننا نضمها إلى منظومة وإلى سياق وإلى زمن. وما كان بمستطاعنا أن نفعل ذلك من دون توفر الاسم بأحرفه الأربعة التي لم يُحبها الخليفة، على رغم أنها ساعدته على مد خلافته وتوسيعها.

 

طوفان «داعش» ليس وهمياً، والذبذبات القاتلة التي يُرسلها الخليفة ليست هذياناً. هي تماماً ما يُحول راقص «بريك دانس» إلى قاتل، ويجعل من لياقته، التي اكتسبها خلال تطويعه جسمه وتمرينه لكي يستجيب للموسيقى، طاقة على القتل والإمعان في القتل. ومن أين وصلت صورة الرأس المقطوع للصالحي، وفكرة تصبيره وإرساله عبر «واتس آب»؟ وكيف لجماعة سيناء أن ترسل كل هذا الرعب من دون أن يكون عنوانه «داعش»؟

 

والذبذبــــات هي تلك اللعبــة التي يعيـــد فيهـــا «الخليفة» إدراج الرغبة الأصليـــة فــي القتـــل في سياق مشهــدي. فالجريمة لا يـمكن أن تنتمـــي إلى «داعش» وإلى زمنــه من دون مشهدها. جـــريمة الصــالحي كانت عادية لولا صورة الرأس المـقطوع، ومجــزرة الرزوقي كان يمكن «أنصار الشريعة» أن تتبناها لولا آلاف الصــور، ولولا صــدورها عن «راقص سابق». واللافت أن صور سيناء العامة وغير القريبة أضعفــت المضمــون «الـداعـشــي» للحــدث هنـاك.

 

«الخليفة» يُدرك سهولة المهمة. ثمة انهيار كبير يمكن عبره الوصول إلى كل مكان، ولا شيء يربط بين الواقعة والأخرى سوى أنها تنتمي إلى زمن واحد. و«داعش» أدرك أن المهمة تقتصر على مصادرة الزمن وعلى إعطائه اسمه. فليقطع الصالحي رأس مديره، وليرتكب الرزوقي مجزرته على شاطئ سوسة. وفرنسا التي سبق أن أرسلت أكثر من ألفي «مهاجر» إلى «داعش»، وتونس التي فاق عدد «مجاهديها» في سورية أعداد ما أرسلتهم أي دولة أخرى، والخليج، وقد أكرم المجتمعات بالانتحاريين، سيكونون على موعد مع «الخلافة» ليست بصفتها وقائع وجغرافيا، بل بصفتها زمناً يضم إليه انهيارات لا يمكن أن يضمها غيره.

(الحياة)

السابق
نعم أم لا… للمثالثة؟
التالي
الحبّ مسموح… بقرار من الوزارة