داعش لم يبتكر شيئاً

كان أول فيلم وثائقي شاهدتهُ في صغري عن طريقة من طرائق قتل الأسرى والجنود، عندما عرض التلفزيون العراقي، ابان الحرب العراقية الإيرانية في الثمانينات، شريطاً مصوراً عن التمثيل بأسيرين عراقيين لدى إيران في نشرة الأخبار المبكرة. لم يكن هناك تنويه مسبق عن بشاعة الفيلم أو وعي ممكن ليجنب الأهالي أطفالهم مشاهدة الشريط. الصورة العالقة في ذاكرتي عن ذلك الفيلم هي ربط أحد الأسرى من ذراعيه بسيارتين، كل سيارة تسير في الجهة المعاكسة إلى أن تم فصل ذراعهِ عن جسده واستمرار السيارة الأخرى بسحل جسده الحي إلى نقطة لم تدركها مخيلتي بعد ذلك.

لم أكن من الوعي الكامل لأدرك ما شاهدتهُ لكني أذكر جيداً أن أختي الكبرى انهارت عصبياً وصحياً وصل حد التقيؤ والبكاء الهستيري. في الصباح استيقظت مدينة الموصل على خبر موت طالب طب مباشرة بعد مشاهدتهِ الشريط. كان تشخيص الحالة وقتها من الأطباء هو الموت المفاجئ بسبب الصدمة. طالب طب يعيش ويتعايش مع الأمراض والجثث لم يتحمل المشهد.

في ذلك الوقت لم نكن نرى سوى ما تبثه الحكومة عن انتهاكات “العدو”، ولا شيء نراه عما ترتكبه قواتنا في المقابل من انتهاكات بحق الأسرى والمعارضين. إلى أن سقط الديكتاتور وسقطت معه مؤسسات الدولة واصبحت مُشاعة للجميع، عندما عرضت قناة “العربية” حصرياً في بدايات الاحتلال الأميركي، أشرطة عن وسائل قتل وتعذيب المعتقلين والمعارضين في دوائر المخابرات والأمن. ومن هذه الطرائق رمي الأشخاص أحياء من فوق بنايات عالية أو قطع ألسنتهم بمقص مشحوذ. وما كنا نسمعهُ عن وسائل التعذيب في المعتقلات والسجون يفوق أحياناً مخيلتنا. لكن، ومع التطور التكنولوجي وامكانية تسريب الأشرطة من السجون، كما حصل في سجن رومية اللبناني ومعتقلات الأسد والانتهاكات في سجون مصر على مد حكم مبارك ومن جاء بعده، صار بالإمكان تخيل الأمر الآن.

لم يتوقف الإنسان يوماً في ابتداع وسائل القتل. كانت وما زالت الغاية منها هي بث الرعب في قلوب الآخرين كي لا يتجرأوا على القيام بما ترفضهُ الجهة المنفذة لمثل هذه الأحكام. داعش وما يفعلهُ حالياً من ابتداع طرائق، تبدو لنا جديدة ومبتكرة ولكنها ليست كذلك، إنما هو إعادة انتاج تاريخ طويل من فنون القتل والتنكيل بدأ مع بدء الخليقة ولم يتوقف حتى يومنا هذا.

لكن ما يميز اسلوب داعش هو تطبيقها لهذه “الفنون” بتقنية متطورة وموثقة ومتاحة للجميع طبقاً لتغيرات الزمن. فالقتل بالإغراق، حرق الأشخاص أحياء، قطع الرؤوس وتقطيع الأعضاء تباعاً حتى الموت أو استخدام التيار الكهربائي لحرق الجسد والرأس، كلها وسائل قتل متبعة منذ القدم وما زال بعض الدول ينفذ حكم الإعدام ببعض هذه الوسائل كقطع الرؤوس كما في السعودية والكرسي الكهربائي في الولايات المتحدة لوقت قريب. أما عن الصلب، الطريقة التي يستخدمها داعش في حق بعض “المدانين” بحسب قوانينه، واستخدام الخازوق لغرسه في جسد “المذنب” كاملاً، تبدو من أقدم الطرائق عبر التاريخ. حيث يذكر في روايات غير مؤكدة أن أول من شرّع القتل بالخازوق هو الملك حمورابي بحسب ألواح التشريع. وعن حرق الأشخاص وهم أحياء فالتاريخ حافل بهذه العقوبات سواء في التاريخ القديم أو الجديد ومنها حرق المتهمين بممارسة السحر الأسود. ومثال قريب تلك الممارسات العنصرية التي كان يقوم بها البيض إزاء السود وحرقهم أحياء في حوادث تكررت كثيراً في الستينات وكذلك بشاعة القتل المتبادل في الحروب الأهلية في افريقيا في السنوات الأخيرة وحرق كنائس وجوامع بمن فيها من مصلين.

إن كنا نعلم أن فن التنكيل بالأحياء والجثث له تاريخ قديم لماذا إذن نتعامل مع ما يمارسهُ داعش أنه طارئ وفي قمة الوحشية؟ بينما الحقيقة داعش لم يستنفذ بعد كل طرائق القتل التي مورست عبر تاريخ البشرية!

الحديث الأول الآن على مستوى العالم هو ممارسات وتمدد داعش عبر مدن وأقاليم لم يكن متوقعاً أن يصلها. وهذه إحدى غايات هذا التنظيم في استمرار هدفه في التمدد. تتسابق وكالات الأنباء والجهات الإعلامية والنشطاء بتناول كل اصدار عن التنظيم وتبثهُ مباشرة من مصادر صارت مصدر ثقة لدى الكثير من الوكالات العالمية، وأصبحت تتعامل معها وكأنها جهات رسمية في دولة مستقلة!

عناصر داعش أنفسهم يتعاملون مع هذه الوكالات على أنها الجهة المروجة لممارسات التنظيم. فلا يتردد “النشطاء” في مواقع التواصل الاجتماعي في نشر الأخبار عنهم في هذه الوكالات بشيء من الرضا ان رسالتهم تصل.

قبل اعلان التنظيم دولته وقبل انشقاق “البغدادي” عن تنظيم القاعدة، كانت ممارسات “القاعدة” في العراق في القتل الفردي هي جز الرقبة وترك الجثة في الشوارع وقنص كل من يحاول الاقتراب منها. كان العامة على وعي تام بما سيحدث لهم إن اقتربوا من الجثة ليواروها ولم تكن سيارات الاسعاف تستطيع الاقتراب بالتالي. كانت الجثث تترك حتى تأكلها الكلاب السائبة ومن ثم تتم ازالتها مع “قمامات” الشوارع في آخر الأمر. كان هذا أقصى عقاب تخيلناه في فترة من الفترات ولا أعتقد أن هناك من فكر يوماً أنه سيشاهد اعادة انتاج تاريخ القتل والتنكيل بهذه التقنية المتطورة ونشر كل الأشرطة على نطاق واسع.

مؤخراً قام داعش بإعدام مجموعة رجال من الموصل قدّمهم على انهم جواسيس، بثلاث طرق مختلفة، كرسالة واضحة لمن يتجرأ على مخالفة أمر الدولة بأن ما يشاهدونهُ هو مجرد بداية لمصير “الخونة”. وقد جاء الفيلم بهذا العنف مع اقتراب “نية” الحكومة و”التحالف” في التحرك إلى تحرير الموصل بعد الانتهاء تماماً من تكريت والفلوجة!

داعش لن يتوقف عند هذا الحد في ابتكار فنون القتل والتنكيل وسيمضي في ابتداع طرائق ووسائل ربما لم نسمع بها بعد، وكلها تحت غطاء ديني وبفتاوى تجيز لهم هذا الفعل، طالما أن القضاء على هذا التنظيم ومحاربتهِ ما زال رهن “النيّة”.

(المدن)

السابق
من هو أبرز داعمي فكرة تأسيس «حزب الله»؟
التالي
أسهل طريقة لتحضير حلاوة الجبن في المنزل